القفز بين المتضادات
بين الأبيض والأسود، والفعل ورد الفعل، واليمين والشمال، والعقاب والثواب، تأتي تصرفاتنا بشكل جمعي!! أين المساحات الواسعة بينهما؟ وما الذي نمارسه بينهما؟ وما الذي تستحقه تلك المساحات من تفكير، فتحليل، وتمييز لنصل إلى الاستنتاج. لماذا نفكر قليلاً ثم نقفز للنتائج؟ أتحدث هنا عن القرارات العامة وأساليب تنفيذها بين الجهات صاحبة القرار والجهات المنفذة والمواطن الذي يقع عليه العبء في النهاية ليفعل تلك القرارات.الإرشاد في حقيقته هو مجرد توجيه ونصح حول طبيعة المواد الدراسية المختارةلماذا لا نحسن شيئاً آخر بين الرفض والقبول قبل أن نعلن عن تبنينا لأحدهما واهتمامنا به؟ ولماذا تكون النظرة لمن يحاول أن يستعلم، ويفكر، ويناقش، ويحلل بأنه شخص مزعج يلتقط العيوب ويترك الحسنات في حين أن رغبته الأولى هي الاستفادة من ذلك القرار والقيام به على الوجه الأكمل؟خذ مثالاً القرارات التي صدرت من وزارة التعليم عن التغيب في يوم العودة للعمل بعد الإجازات، هو قرار ممتاز فعلاً في ظاهره ولكن كم نسبة المتغيبين من الموظفين مقابل المتغيبين من الطلبة؟ وأين القرارات المتعلقة بالطالب والذي يمس عن قرب أولياء الأمور لأن الطالب صغيراً كان أو كبيراً لا يتغيب إلا عندما يعطيه الأهل الموافقة على ذلك سواء بعد الإجازات أو خلال الفصل. لقد جاء ذلك القرار ناقصاً لأنه انصب على العقاب فقط لمعالجة مشكلة ما، ولم يدقق النظر في تفاصيل الأمر وفروعه المرتبطة به. لقد كان التعميم يوحي بأن المدارس تكاد أن تكون خالية من المعلمين، وهذه ليست حقيقة بل ولا تقترب منها، فالمدارس في الحقيقة تكاد أن تخلو من الطلاب. ولماذا جاء هذا القرار الآن وبشكل عاجل في الوقت الذي يستعد فيه الجميع لبداية فصل دراسي جديد انتهى بفترة امتحانات تطلبت جهداً مضاعفاً وعملاً دقيقاً، يستحق فيه المعلم أن يجد من يشكره ويثني على جهده المبذول الذي يستحق عليه أن يخص فيه بالثواب، ولا يتساوى فيه مع المقصر بشكر عام يشمل الجميع أو تعميم تصحيحي يجمعه بالمقصرين؟. لماذا لا يفكر صانع القرار بالمكانة الوسطى بين الأمرين؟. وكذلك هو الحال في كثير من التفاصيل العملية، فأي خطوة ايجابية صحيحة لتصحيح مسار العمل أو اتخاذ خطوات عملية جديدة من شأنها أن تكون مفيدة لعدة أطراف تكون في بدايتها فترة غير صحيحة في توقيتها أو في بعض تفاصيلها التي تمكن المكلف بعمل ما أن يقوم بعمله على الوجه الأكمل، وأن يكون هناك مجال للمقارنة بين من يعمل ومن لا يعمل. مثال آخر: الإرشاد الأكاديمي في أنظمة الجامعات أمر جيد، وتتحقق به فائدة للطلاب الذين يحتاجون لذاك الإرشاد من قبل أساتذتهم، ولكن الإرشاد في حقيقته هو مجرد توجيه ونصح حول طبيعة المواد الدراسية المختارة وليس متابعة اليكترونية دقيقة أو حتى بسيطة، كما لا يتضمن أيضا أن يتعامل الاستاذ وكأنه السكرتير الخاص للطالب فينوب عنه في نقل مشكلته إلى من هو مكلف بحلها تقنياً، ولهذا يصبح الإرشاد أحياناً وكأنه تمثيلية تقنية بين الطالب والأستاذ بتكليف من الجهة المختصة، وتكون النتيجة في النهاية أن يحال الموضوع من قبل الأستاذ إلى من يملك الحل أو أن يحال الطالب إليه من قبل أستاذه الذي لا يملك حق التصرف التقني!! وكل هذا يشير إلى خطأ واضح في تطبيق ما يسمى بالإرشاد الأكاديمي الذي تتخبط فيه بعض الجامعات، وخاصة الجديدة العهد بكثير من التغيرات التنظيمية الإدارية سعياً وراء تحقيق معايير الجودة. إن تلك المساحات الفارغة بين المتضادات تحتاج منا لأن نعمل من أجلها، وأن نملأها بما هو صواب من أجل تحقيق ما يراد، فملء الفراغ لا يتحقق إلا بتطبيق المراحل التي ذكرتها سابقاً التفكير والتحليل والتمييز والاستنتاج، وهي تتطلب التتابع الزمني الذي يتبع الوصول إلى نتيجة معينة بعد كل مرحلة تقودنا بدورها إلى المرحلة اللاحقة، فالتفكير يساعدنا على تحديد المشكلة، واستعراضها من كل الجوانب، لننتقل إلى تحليلها والوقوف عند تفاصيلها التي نميز فيها بين أمور وتفاصيل أخرى تقودنا إلى الاستنتاج لنشرع في وضع الحلول كمرحلة أخيرة، وهذا ما لا يحدث لأننا نعاني من داء القفز في كثير من أمورنا على المستوى الفردي والجمعي، لأننا نكتفي بعرض الأمر بشكل عاجل وتحت ضغط معين، فنستنتج أن هذا الأمر أو ذاك يحتاج إلى إصدار قرار ما لتحويل المسار إلى اتجاه آخر؛ ولهذا نكتشف في النهاية أننا كنا وما زلنا نتخبط، وقد نحتاج لعشرات القرارات التي تنقض بعضها أو تسد خلل بعضها بعضاً، ويظل التخبط مستمراً.