نكهةُ المجاز في «مرثيَّة النار الأولى»
في ديوانه الموسوم (مرثيَّة النار الأولى) الفائز بجائزة الشارقة للإبداع العربي في قسم الشعر عام 2013م، يتجلَّى الشاعر السوداني المبدع (محمد عبدالباري) ويمتطي فرس المجاز في رحلته من الغلاف إلى الغلاف دون أن يعثر في حاجز أو يكبو في شوط. رغم سودانيَّته، فإنَّ الشاعر (محمد عبدالباري) من مواليد الرياض ترعرع في أحضانها طَوال ستَّة وعشرين ربيعا ولا يزال يعيش هناك. ولكنَّه كونيٌّ في قصيدته من فرط ما ينتمي للفضاء والرحابة والمدى الممتدّ إلى ما وراء خطوط الطول والعرض. قرونُ استشعاره الإبداعية متَّجهةٌ دائما نحو المستقبل تتحسَّس ما وراء اللحظة الراهنة بذهنية مرهفة ولغة مصقولة.. يقول في أولى قصائد الديوان (ما لم تقله زرقاء اليمامة):شيءٌ يطلُّ الآن من هذي الذرى أحتاجُ دمعَ الأنبياءِ لكي أرىالنصُّ للعرَّاف والتأويلُ لي يتشاكسانِ هناك (قالَ) و(فَسَّرا)هذا الشطر (النص للعرَّاف.. والتأويلُ لي) هو حُجَّتُنا لتأويل نصوصه في هذا الديوان، حيث إنَّ هذه النصوص الناضجة على الصعيد الفني نضوجا فاتنا، لا تسلِّم قطوفها بسهولة للقارئ وإنما تغريه بفتنتها لأنْ يتسلَّق شجرة كلِّ نص للوصول إلى قطوفها غير الدانية. هكذا يبذل القارئ قليلا من الجهد الذهني من أجل الوصول إلى المتعة الفنية. ولعلَّ ما يجمع بين كلَّ قصائد هذا الديوان هو ذلك التصعيد للدلالة الجمالية ذات الجذور الفلسفية والوجودية، وكأنَّ محور الديوان هو صناعة الجمال عبر توظيفِ حشدٍ من الدلالات التي تعمل على الطاقة الرمزية الهائلة. في قصيدة بعنوان (هُمْ) .. يقول شاعرنا المبدع:أقاموا كهذا النخلِ.. كالغيمِ طَوَّفوا مداراتُهُمْ في الليلِ: جوعٌ ومصحفُ!تعالَ إلى الألواحِ نلمسُ سِرَّهُمْفقد تكشفُ الألواحُ ما ليس يُكشفُقديماً مشوا والأرضُ تُثقلُ خطوَهُمْفلَمَّا أحسُّوا بالسماءِ تخفَّفوارأوا سدرة العرفان في السجنِ مثلمارأى سدرة العرفانِ في السجن يوسفُوفي قصيدة أخرى بعنوان (خاتمةٌ لفاتحة الطريق).. يقول:يقولُ لي عمُّنا (العطَّارُ): حكمتُنامن (منطق الطير) لا من منطق الورقِيقولُ لي (عمرُ الخيَّام) في ثقةٍبغير خمرتِكَ السوداءِ لا تثقِتقولُ لي جُبَّةُ الحلاَّجِ: يا ولديرأى المُحِبُّ جلالَ اللهِ حين شُقي يقولُ لي هدهدٌ قد عاد من سبأٍ:مَنْ لم يذقْ وحشة الأسفارِ لم يذقِثمّة آصرةٌ تربط بين هذه القصائد المنتشرة في ثنايا الديوان وبين الشعر الصوفي القديم.. هذه الآصرة تتمثّل في اشتراكهما معًا في لغةٍ عاليةٍ تحتوي على قاموس كامل مرصّع بالمفردات الصوفية وتأويلاتها، فمن طبيعة الشعر الصوفي أن تكون معانيه مؤجّلة وربما مفتوحة أيضا على آفاق أرحب للتأويل وذلك لأنّ هذا الشعر عبارة عن معادل فنِّي للحياة الصوفية، وليس مجرّد تدريب للحواسّ يؤهّلها لاستيعاب جماليات لغوية لا تنتمي للواقع بأيّ صلة. ربَّما يكون الشاعر (محمد عبدالباري) غارقا في الثقافة الصوفية إلى درجة الاستشراق بها، لذلك نكاد نراه يتمشَّى في قصائده كائنا شفَّافا، ونكاد نلمسُ معاناته ومكابدته في نبراتِ أصواتنا حينما ننشدُ مرتِّلين هذه القصائد. إنَّ عمق الإحساس الفني بالمعاني الصوفيَّة لدى الشاعر (محمد عبدالباري) هو الذي منحه القدرة الفائقة على مخاطبة الوجدان عبر هذه القصائد أكثر من مخاطبة الذهن، حيث جاء شعرُهُ شاهقا بالرؤيا، مبطَّنا بجوهر الحبّ، مغلَّفا برموز العرفان، شاردا في متاهات الأسرار التي طالما دخلها السالكون ولم يعودوا..