حديث العمالة المنزلية
غالبا ما تكون الرحلة مضنية، ساعات من الانتظار. تليها ساعات طويلة من الطيران، ثم تلفظ الطائرة اخيرا حمولتها من المسافرين. ومن بينهم فوج من العمالة الوافدة. بعد استكمال اجراءات الجوازات والجمارك. تختار إحداهن مقعدا في صالة الرحلات القادمة في انتظار أن يأتي (بابا).. أي الكفيل. وقد يستدعي الأمر ساعة أخرى من الترقب والانتظار. كل شيء في هذه اللحظة يلفه الغموض: المكان، الوجوه، الملابس، اللغة، نداءات مكبر الصوت. إن اللغة وطن، وهذه الرطانة من حولها أشبه ماتكون بالمنفى.. و(ليس في بلد سكنى المرء وإنما في لسان) كما يعبر أحد الشعراء. ترى أي بيت سوف يؤويها، وأية أسرة ستستضيفها، وأية معاملة تنتظرها. في هذه اللحظة المكتظة بالتساؤلات الملبدة بالاحتمالات، يعبر الذاكرة طائر الحنين إلى الوطن والأهل والأصدقاء، وقد أصبح كل ذلك ماضيا. يتجلى المكان بما فيه من بشر وعلاقات وأمان وأحلام. شريط من الذكريات لا يخفف وحشة الغربة بل يضاعفها، ثم تبدأ رحلة التحديق في الوجوه بحثا عن الكفيل المنتظر. كلما دخل أحدهم حدثت نفسها (هذا هو بابا). يدخل الصالة رجل ضخم في حجم (شمشون الجبار)، فتتسارع دقات قلبها. وترفع يديها بالدعاء أن لا يكون ذلك القادم هو بابا، لو كان ذلك الرجل كفيلها فربما تقضي نصف نهار لتكوي ثوبه فقط! تبدأ رحلة التحديق في الوجوه مرة أخرى. ثم يصل الكفيل أخيرا.هذه مجرد بداية متخيلة للساعات الأولى من المشوار. تتدفق الحكايات بعد ذلك لتشكل مادة دسمة لأخبار الجرائد وأحاديث المجالس. حكايات عن العمالة المنزلية عجيبة غريبة تمتزج فيها الملهاة بالمأساة والضحك بالبكاء أبطالها السائق والخادمة، لكنها غالبا ما تكون محملة بسلبيات ومثالب ومشاكل الطرف الأضعف، أي إنها شبيهة بحكايات التاريخ التي غالبا ما يكتبها الأقوياء. ولو أصغى الرواة إلى صوت الطرف الآخر، إذا لتنوعت الحكايات، فهنالك بالتأكيد حكايات أخرى لاتقل إثارة ومصداقية. منها ما يتعلق ببيئة العمل، والرضا الوظيفي، ومنها ما يرتبط بالصعوبات الثقافية والاجتماعية والنفسية. لكي يشعر المرء بمعاناة ما عليه أن يعيش ظروفا مماثلة، أو أن يتخيل تلك الظروف، أو ينظر إليها بتجرد على الأقل.في دراسة عن مشاكل العمالة المنزلية (الأردن نموذجا) يورد الأستاذ صبري ربيحات مجموعة من الأسباب التي تؤدي إلى مثل هذه الاشكاليات ومنها:سوء مكان الإقامة، زيادة حجم العمل، قلة ساعات النوم، قلة الطعام، الإساءة الجسدية واللفظية والنفسية، تأخر دفع الأجور، الخوف والوحدة. هذه العناصر وغيرها تلعب دورا كبيرافي العلاقة المتوترة دائما بين الخادم والمخدوم.لكن هذا لايعني أن صفحة الطرف الأضعف بيضاء لا تشوبها شائبة. فهنالك تجاوزات وانتهاكات لشروط العقد. وهنالك نقص في الكفاءة، وتدن في مستوى الأداء، وقد تنتفي كل تلك الأسباب التي أشار إليها الأستاذ ربيحات، فيقابل حسن المعاملة بالجحود والنكران.السائق والخادمة أجيران أو موظفان بموجب عقد عمل. لهما ما للموظف من حقوق وعليهما ما عليه من واجبات. لكنك قد تجد تجاوزا لقائمة الواجبات والحقوق من كلا الطرفين: الخادم والمخدوم على السواء. وحين تتأمل كيف يتعامل بعضهم مع خدمهم بغطرسة واستعلاء يقفز إلى ذاكرتك النقيض. فالأشياء تعرف بأضدادها. وقد قرأت قبل أسبوع خبرا يقول: (احتفت إحدى الأسر بعودة خادمة من بلادها بعد غياب عام. بنثر الورود وإطلاق صيحات الفرح والسرور، وذبحت خروفا سمينا أعدت به وليمة دسمة ابتهاجا بهذه العودة الميمونة. ولم تقف فرحة الأسرة عند هذا الحد، بل رتبت نزهة خلوية في أحد المتنزهات الطبيعية القريبة من المحافظة بمشاركة بعض المعارف والأصدقاء) (الاقتصادية/ العدد 7/3556 يوليو 2003) ويعكس مثل هذا الاحتفاء مشاعر الود والرضا المتبادلة بين أفراد الأسرة والخادمة. كما يدل على الأريحية وحسن الخلق والتعامل الإنساني الجميل.ولهذه العلاقة الحميمة ما يشابهها هنا وهناك. وقد أشار بارنستون إلى شيء من ذلك في حديثه عن الكاتب الأرجنتيني بورخس، حيث يقول: (أهم محادثة بيننا كانت من الصين إلى بوينس آيرس.. تكلمت أولا إلى (فاني) خادمته الهندية. كان بورخس فخورا بحكمة (فاني) الطبيعية كونها نسخة شعرية عن الظواهر الطبيعية. كان يلتقط عبارات وحكما من سائقي سيارات الأجرة والخدم والموظفين العاديين بالطريقة نفسها التي كان يغرف فيها من صاموئيل جونسون وأوسكار وايلد. كانت (فاني) حميمية معي دائما وكأنني أحد أقرباء بورخس).. هذا شكل من أشكال التعامل الإنساني الحضاري الذي يختلف عما نقرأه أو نسمعه عن كل تلك العلاقات الغريبة العجيبة بين أرباب البيوت وأجرائهم.أما الكاتب اليوناني كازنتزاكي فيقترح شكلا من أشكال العلاقات المتوازنة. وفي روايته الشهيرة (زوربا) إشارة إلى شكل تلك العلاقة. فقد كان (الراوي) يبالغ في تدليل عمال المنجم، وكان زوربا المسؤول عن إدارة المشروع يدرك أن سيده يضر بمصلحة العمال من حيث يظن أنه يحسن إليهم. ففي البشر بقايا بهيمية كتلك التي أشار إليها المتنبي في قوله: (والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لايظلم) وهي بهيمية تزيد أو تنقص وفقا لتركيبة الإنسان النفسية والاجتماعية، ووفقا لتربيته وثقافته وتجاربه. لذلك يقترح زوربا على سيده أن لايتدخل في طريقة إدارته المشروع. كان زوربا يتعاطف مع عمال المنجم ولكن على طريقته الخاصة، وكان يخشى على المشروع من الفشل بسبب ذلك (الحب) غير المقنن الذي يبديه سيده. فالمبالغة في التدليل تؤدي إلى التسيب. والتسيب يؤدي إلى فشل المشروع. وفشل المشروع يؤدي إلى تسريح العمال، وتسريحهم يؤدي إلى قطع مصدر عيشهم وهكذا دواليك.. وفي مثل هذه الحال، قد تكون الدكتاتورية المستنيرة العادلة الممزوجة بالتعاطف والحب أفضل من ذلك الحب القراح الذي يصح عليه قول القائل: ومن الحب ما قتل!.