قصة قصيرة: عبدالله محمد النصر

للأمس رائحة حمقاء

وجه اشبه بأرض الحقل التي لعبت عليها الجرافة بحماقة.. مفاجأة نارية كسته بلون الدم.. دهشة قاسية فتحت عينيه باتساعهما.. صرخت فيه نتوءات عميقة، انسابت بينها طرق هوجاء.. وبه انف مهمل احتلبته سنينه الخمسين، وبئر فاغرة تبتلع مسيلها، ينبعث من جوفها صوت وهاج مرتجفة آلته:ـ يا الهي.. لا.. لا.. لا يمكن!!!وكان هو من يقبع خلف هذا الوجه التجريدي، الذي امتطاه كل ملمح صرخ بالألم.. وهو الذي أهرق العتاب والنجوى على اعتبا ما رآه:ـ يا رب كيف ترضى لأن يحصل هذا الفعل الاحمق السفيه؟.. كيف ترضى؟؟!!وصوت جنزير الجرافة السائبة لم يفتأ.. فتراقص خطوط الوجه بانتشاء، بينما يصرخ بصوت تفوح منه رائحة الاحتراق:ـ كف.. كف.. كف يابني.. ليس هو ذا الوفاء.ولكن تزداد لعبة الجرافة.. ترتعد خطوط الوجه.. انه يشعر شعورا اكيدا بان ابنه ما قام بذلك الا عن قناعة ذاته.. انه اعتاد لان يقوم بتحليل افعاله ويستشعر احاسيسه.. غابت عنه كل صورة ببطء رغم الاصوات، لينتمي الى ذاكرته التي اشتعلت في تلك الاثناء:لقد كان في يوم ما، قد اهرق ماء وجهه تحت قدمي جاره في الحقل.. توسل اليه كثيرا بان يبتاع منه فسيل نخلة لديه.. فسيل اشار اليه بذاته لاغيره.. لقد الهب شوق قلبه، وأسال لعابه ثمار امه.فيرفض جاره بشكل مستديم، الا انه وافق بعد اغراء وبعد مسيرة زمن اجتر فيه التوسل اليه.. غرس الفسيل في افضل تربة وفي مكان خاص من حقله.. بذل له جل عنايته بعض كل ليل ومعظم كل نهار.. كان ابنه في ريعان الصبا.. يأتي به الى الحقل.. يطلب منه ان يحمل الماء ليسقه معه، بعد ان يعلمه قيمته.. فيسقيه.. صوت الجرافة الذي يزلزل المكان، ايقظه من ذاكرته.. ورائحة افعاله العتيقة تفوح، لكنها لا تأتي بشيء.. يرتعد الوجه، يعاود التوصل الى ابنه:ـ لا يابني.. كف عن هذا.. أرجووووك...يموت التوسل على جدران خيباته.. لايكترث الابن لرعشاته.. يبعده ـ بضحكة تملأ شدقيه، وبقسوة ـ عن ساحة عبث ولعب الجرافة.. مرة اخرى رنت الاحداث في ذاكرته..كبرت الفسيلة غدت نخلة ببطء على عكس ما غدا ابنه استاذا بحجم الكون.. استاذا بحجم عقله.. ترنم بها أمام الملأ وتباهى.. اخذت من حلمه النصيب الأوفى.. كبرت، فأطعم منها نفسه وعائلته ردحا من الزمن..وقبل أيام قلائل، جاء اليه ابنه، قائلا:ـ أبي.. الآن وقد شعرت بأنك بحاجة الى من يساعدك في الحقل ويحمل عنك اثقاله.. سأحمل عن كاهلك كل اتعابه.. سأحاول ان انسيك الماضي.. سأحاول ان أكون مكانك.. فقط بشرط ان تبيعه الي، لأشعر بقيمته اكثر.حينئذ الفرحة اعدمته حاسة قراءة الاحساس عنده.. تكهن صولة ابنه في الحقل اكثر اغراء.. خالجه شعور بضمان استمرار حماية الحقل من بعده.. فأبدى موافقته، فباعه له.مجددا، ايقظه صوت الجرافة من ذاكرته.. ايقظه على معركة لم يتهيأ لها.. لم يجدولها في حياة اجزائه.. فهاهو يجدها اكثر عصيانا، وينزف عليها دماء جراحه المتعرية.. لقد كشف جوهر جموح خيل ابنه وكثرة صهيله.. ابنه الذي اختار لهذا الحقل ـ بعدما تملك زمامه ـ الموت وطنا، وساست له نفسه بان يفسد فيه.. سأله في استنكار:ـ لماذا يابني فعلت هذا.. لماذا؟!!!ـ ....!لم يجبه فقط رشقه بنظرة مندهشة، وشكل له وجها كأرض مغبرة جف بللها اياما.. تحسس سطح ظهره.. واغمض عينيه مستسلما لذاكرته..كان في ريعان صباه، يأتي به ابوه عنوة الى الحقل.. يطلب منه ان يحمل الماء ليسقي النخلة، فيرفض.. يعلمه قيمتها.. يقتنع بذلك لكنه يرفض ايضا.. لم يجد أبوه حيلة، فيجبره بالسوط.. فيسقيها بخوف وذعر..صحا على صوت الجرافة التي مازالت تعيث بالحقل.. بل صحا على صوت ذي الوجهة التجريدي الذي يتوسل اليه:ـ أبي.. لن تجدي محاولاتك.. الجرافة لن تتوقف.