أيام العشر وترسيخ ثقافة العمل الصالح
نعيش في هذه الأوقات أعظم أيام الدنيا، كما وصفها رسول الله - صلي الله عليه وسلم - وأعلن أنه «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر. قالوا ولا الجهاد في سبيل الله؟!! قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء» أخرجه البخاري.فهذه دعوة نبوية إلى الإكثار من الأعمال الصالحة، باعتبار أنها الأحب إلى الله من أي وقت آخر، فأجرها يتضاعف حتى على الجهاد في سبيل الله تعالى.لكن بعض الناس يضيقون دائرة العمل الصالح لتنحصر في دائرة شعائر التعبد، ولا شك أنها من الأعمال الصالحة كالحج والعمرة والصلاة والذكر والصوم والأضحية والصدقة، لكن مفهوم العمل الصالح في الإسلام يتسع ليشمل كل ما فيه خير ونفع للآخرين.والقرآن يوجه دعوته للمسلم إلى فعل الخير بصوره المختلفة وهو يؤدي المناسك، قال تعالى: ((الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ)). ولو أن الألوف الذين يتطوعون سنويا بالحج والعمرة رصدوا ما ينفقون في حجهم وعمرتهم في خدمة العمل الخيري، لعاد ذلك على المسلمين بالنفع العميم.روي عن ابن المبارك أنه خرج إلى الحج فاجتاز بعض البلاد، فمات طائر معهم فأمر بإلقائه على المزبلة، وسار أصحابه أمامه وتخلف هو وراءهم، فلما مر بالمزبلة إذا بفتاة قد خرجت من دار قريبة وأخذت ذلك الطائر الميت ثم أسرعت به الى الدار، فجاء ابن المبارك وسألها عن أمرها، وأخذ الطائر الميت فاستحيت أولا ثم قالت: أنا وأمي هنا وليس لنا شيء الا هذا الإزار، وليس لنا قوت إلا ما يلقى على هذه المزبلة، وكان لنا والد ذو مال عظيم فأُخذ ماله وقتل، ولم يبق عندنا شيء نتبلغ به أو نقتات. سمع بذلك ابن المبارك فدمعت عيناه وأمر برد الأحمال والمؤونة للحج، وقال لوكيله: كم معك من النفقة؟ قال: ألف دينار، فقال له: ابق لنا عشرين دينارا تكفينا لإيابنا وأعط الباقي لهذه المرأة المصابة، فوالله لقد أفجعتني بمصيبتها وإن هذا أفضل عند الله من حجنا هذا العام. ثم قفل راجعا ولم يحج. وتتضح عناية الإسلام بترسيخ ثقافة العمل الصالح بمفهومه الشامل في قول الرسول - صلي الله عليه وسلم -: (أحب الناس إلى الله أنفعهم وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه دينا أو تطرد عنه جوعا ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهرا ومن كف غضبه ستر الله عورته ومن كظم غيظا ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضى يوم القيامة ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام). وانظر إلى الخيارات الواسعة في عمل الخير في قوله - صلي الله عليه وسلم -: (على كل مسلم صدقة فإن لم يجد فيعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق، فإن لم يستطع فيعين ذا الحاجة الملهوف، فإن لم يفعل فيأمر بالخير، فإن لم يفعل فيمسك عن الشر فإنه له صدقة). نحن أولى الناس بتأكيد هذا المفهوم الاجتماعي للعمل الصالح كما دعانا إليه الإسلام من غيرنا، في كتابه (ثقافة العمل الخيري) يذكر الدكتور بكار أنه في الولايات المتحدة أكثر من مليون ونصف المليون مؤسسة خيرية ولا ربحية، ويبلغ عدد الذين ينخرطون في أعمال تطوعية، نحو من ثلاثة وتسعين مليون متطوع، أي قرابة (30 %) من السكان، وتستقبل المؤسسات الخيرية سنوياً من الأموال ما يزيد على مائتي مليار دولار. وفي بريطانيا أكثر من عشرين مليون شخص من البالغين يمارسون نشاطاً تطوعياً منظماً كل عام، وتبلغ ساعات العمل التطوعي الرسمي نحواً من تسعين مليون ساعة عمل كل أسبوع، وتقدَّر القيمة الاقتصادية للتطوع الرسميِّ بأربعين مليار جنية إسترليني سنوياً. نحن نريد للعمل الصالح أن يصبح في بؤرة الشعور بحيث نسعى إلى تمكينه في الحياة العامة، ولا نريد له أن يكون مدعاة لاتكال الكسالى على فاعليه، أو دعوة للمتسولين في بسط أيديهم إليه، باختصار نريده شريكا فاعلا في التنمية المجتمعية، ونهضة الوطن. *أستاذ مشارك بجامعة الدمام