علو الهمة
الهمة هي الباعث على الفعل، وتوصف بعلو أو سفول. قال أحد الصالحين: همتك فاحفظها، فإن الهمة مقدمة الأشياء، فمن صلحت له همته وصدق فيها، صلح له ما وراء ذلك من الأعمال. فالهمة عمل قلبي، والقلب لا سلطان عليه لغير صاحبه، وكما أن الطائر يطير بجناحيه، كذلك يطير المرء بهمته، فتحلق به إلى أعلى الآفاق، طليقةً من القيود التي تكبل الأجساد. إن عالي الهمة يجود بالنفس والنفيس في سبيل تحصيل غايته، وتحقيق بغيته. فعالي الهمة يُرى منطلقاً بثقة وقوة وإقدام نحو غايته التي حددها على بصيرة وعلم، فيقتحم الأهوال، ويستهين الصعاب، وهو يرقى مدارج الكمال، لا يأبه بقلة السالكين، ووحشة الطريق لأنه يحصل مع كل مرتبة. إن كبير الهمة نوع من البشر تتحدى همته ما يراه مستحيلا، وينجز ما ينوء به العصبة أولو القوة، ويقتحم الصعاب والأهوال لا يلوي على شيء.وعالي الهمة يعرف قدر نفسه، في غير كبر، ولا عجب، ولا غرور، وإذا عرف المرء قدر نفسه، صانها عن الرذائل، وحفظها من أن تهان، ونزهها عن دنايا الأمور، وسفاسفها في السر والعلن، وجنبها مواطن الذل بأن يحملها ما لا تطيق أو يضعها فيما لا يليق بقدرها، فتبقى نفسه في حصن حصين، وعز منيع لا تعطى الدنية، ولا ترضى بالنقص، ولا تقنع بالدون. فكبير الهمة عصامي يبني مجده بشرف نفسه، لا اتكالا على حسبه ونسبه، ولا يضيره ألا يكون ذا نسب، فحسبه همته شرفا ونسبا، فإن ضم كبر الهمة إلى نسب كان كعقد علق على جيد حسناء.إن المتأمل لقوائم عظماء رجالات الإسلام من الرعيل الأول فمن بعدهم ليرى أن علو الهمة هو القاسم المشترك بين كل هؤلاء الذين اعتزوا بالإسلام، واعتز بهم الإسلام، ووقفوا حياتهم لحراسة الملة وخدمة الأمة سواء كانوا علماء أو دعاة أو مجددين أو مجاهدين أو مربين أو عباد صالحين ولو لم يتحلوا بعلو الهمة لما كان لهم موضع في قوائم العظماء ولما تربعوا في قلوب أبناء ملتهم، ولما تزينت بذكرهم صحائف التاريخ ولا جعل الله لهم لسان صدق في الآخرين.أسباب الارتقاء بالهمة: العلم والبصيرة، وإرادة الآخرة، وجعل الهموم همَّا واحدا، وكثرة ذكر الموت، والدعاء، والاجتهاد في حصر الذهن، وتركيز الفكر في معالي الأمور، والتحول عن البيئة المثبطة، وصحبة أولي الهمم العالية، والمبادرة والمداومة والمثابرة في كل الظروف. إن أصحاب الهمة العالية هم الذين يقوون على البذل في سبيل المقصد الأعلى، ويبدلون أفكار العالم، ويغيرون مجرى الحياة بجهادهم وتضحياتهم، ومن ثَمَّ فهم القلة التي تنقذ الموقف، وهم الصفوة التي تباشر مهمة «الانتشال السريع» من وحل الوهن، ووهدة الإحباط.