د. أمل الطعيمي

حكاية مقال

تتملكنا الحيرة، وتتنازعنا أفكار شتى فيما يعرض لنا من أمور الدنيا. نتردد كلما شعرنا بصعوبة تقبل الأمر الذي يعاكس رغبتنا الحقيقية أو ما اعتدنا عليه خلال سنوات طويلة، ولكن الظروف تحتم علينا أحياناً أن نحسم الأمر، فنستخير من بيده الخيرة لنا، ثم نقرر ونحن نحسب أن قرارنا نافذ بمجرد أن نعلنه للآخرين بقولنا: هذا قرارنا، وهذا ما نريد، ثم سرعان ما يتبين لنا أن الله أراد لنا شيئاً آخر، وما هي إلا ساعات قلائل ليتبدل الحال بمشيئة الله لا بما عزمنا عليه وأظهرناه. بين صباح الثلاثاء الماضي الذي كتبت فيه مقال توديع قرائي الأعزاء والصحيفة العزيزة ولحظة اصراري في أول الظهيرة أن يمرر المقال للنشر لأنه قرار نهائي؛ حين كان الزميل أحمد سماحة يحاول أن يثنيني عن القرار. وبين ساعة ما من مساء اليوم نفسه حين هاتفني رئيس التحرير ليحاصرني بأخلاقه الرفيعة وهو يطلب مني معرفة أسباب ذلك القرار ويناقشني فيها ويمنحني من الثناء ما رآه لائقاً بقلمي. كانت دقائق قليلة سرعان ما تبدد بعدها ذلك الحزن الذي طوق روحي حين كتبت ذلك المقال وأنا أجاهد رغبتي وهوى نفسي في الاستمرار، وأهمية اتخاذ قرار الابتعاد لأسباب عملية. فاتفقنا على العودة. ونسيت أمر ذلك المقال الذي كان قد شق طريقه الاليكتروني الى صفحات الجريدة وما عاد بالإمكان أن يعود. ففرحتي بما أراده الله لي من أمر جديد جعل القرار ينقلب من حال إلى حال في لحظات. هدأت نفسي وتبدد حزني وبت ليلتي قريرة العين لأني سأعود مرة أخرى لمزاولة الركض على تلك الصفحات المألوفة. وسأعود للعراك اليومي مع الوقت ما بين خروجي من عملي وساعة ارسال المقال اليومي. أتأخر مرات وأبكر مرة وفي كل الأحوال كانت رسائل صفحة الرأي الهاتفية تستحث خطاي للتسليم في الوقت المحدد. كان كل شيء حولي يتوقف في تلك الساعة من الظهيرة حتى انتهي وأرى عنوان المقال في صفحة الرسائل المرسلة. حتى حين اضطررت بضع مرات لحمل جهازي والركض به إلى بيت جارتي الصديقة لأرسله من هناك بعد أن تأخرت في تسديد فاتورة هاتفي فقطع عني التواصل مع العالم. كل تلك اللحظات هي جزء من يومي. هي ساعة ترتد لي في اليوم التالي باقات من الورد يهديها لي القراء من حيث لا يدرون. في الصباح التالي لذلك اليوم العاصف أمسكت بهاتفي فوجدته يهديني أجمل الهدايا ممن كنت حزينة على فراقهم كأنهم علموا مما بين السطور كيف ارتبطت بهم وكيف أحببتهم فكانوا هم زادي قبل أن تكون مقالاتي ممتعة أو مفيدة لهم؛ كانت أول رسالة فتحتها تقول: صباح الخير دكتورة الله يسامحك حزنتينا على الصباح وبدأنا يومنا بشكل غير مريح. كرما من أجل كل عشاق حرفك أعيدي النظر حول قرارك الصعب. وهي من الإعلامي بندر الحميد في إذاعة mbc وهي القناة التي وضعت بعض مقالاتي على مائدة برنامجها الصباحي بضع مرات. أما الرسالة الثانية فكانت من شابة مميزة بوعيها وحضورها المتجدد في كل مكان تتواجد فيه. وكان لي شرف التأثير في حياتها حيث قالت: صباح الخير د. أمل، قرأت مقالك الوداعي في جريدة اليوم، كنت أقرأ جريدة اليوم من وأنا بالابتدائي وأرى اسمك ولا أعي ما يُكتب، بدأت بالمداومة على قراءة مقالاتك وأنا بالصف الثالث المتوسط، وفي ثاني ثانوي كان لابد أن أختار أدبي أو علمي فكان لأحد مقالاتك اللي جاء بوقته ومعنون بـ (أدبـي) أثر واضح جدا في تغيير لحظة فاصلة بالنسبة لي وتغيير رأيي واخترت أدبي، الجاحد من لا يشكر ولا يعترف بفضل الآخرين عليه. كان ومازال لمقالاتك عظيم الأثر في نفسي وتنويري على أمور كثيرة. فشكرا جزيلا لك. روان الشهراني.فهمت حينذاك من تلك الرسائل الأولى أن المقال الذي نسيته قد نشر. وبقدر ما أحرجت من هذا الخطأ غير المقصود بقدر ما كان ذلك من أسباب فرحي في ذلك اليوم وأنا أتلقى رسالة بعد أخرى تؤكد لي أن طاقة الحب ترسل حبا وتستقبل مثله وأكثر. وأن النافذة التي تمرر الصدق يستقبلها الصدق بباقات ملونة من الحب. فقد غمرتني رسائلكم بكثير من المشاعر الجميلة التي يتفوق أثرها على أي تقدير معنوي أو مادي من الصحيفة نفسها بل ومن أي مردود آخر على كافة المستويات. هنا تبين لي جانب من حكمة الله في ذلك الارتباك بين التوقف والاتفاق على العودة قبل أن تبرح أفكاري موطنها الأول ثم نشر المقال وما كان من المفروض أن ينشر! ولكن هذا ما حدث فاستعنت بزميلي الذي يتابع مقالات الكتاب فقلت: سأعود بعد شهر فالموقف أصبح محرجا فقال: بل الآن. فكانت هذه الحكاية.