حزنٌ يحمل اطمئنانا
وصلنا الخبرُ الحزين خارج البلاد. انتقل الملك عبدالله بن عبدالعزيز إلى رحمة الله تعالى. كان الحزن كثيفا. وكنت وقتها في جزيرة سلوهيت من أرخبيل سيشيل، وتعرفت على رجل أعمال سييشيلي هندي مسلم، عبدالوهاب خان، وصارت عادة أن ألتقي به يوميا. السيد خان يدير أعمالا واسعة في المملكة المتحدة ويحمل جنسيتها، ويعود لسيشيل ليرفد الجماعة الإسلامية القليلة العدد في وسط اكتساح للروم الكاثوليك، ونتحدث في أحاديث شتى فثقافته تحمل هما حقيقيا في أكثر من مسألة إنسانية. اليوم الأخير لنا في الجزيزة، وجاءنا الخبر باكرا وهز قلوبنا. جاء السيد خان لي، وضمني بقوة بجسده الضخم وأسند رأسه الكبير على كتفى وبكى، وكان يتهدج بالانجليزية:"بيج لوس، بيج لوس" أي: "يا للخسارة الكبرى، يا للخسارة الكبرى". ولم أملك نفسي وبكيت. وكان هذا في خاطري تعبيرا عن حزن الأمة الإسلامية في اهتزاز السيد خان وحزنه القوي، وهو الرجل الضخم، ويملك صوتا رعديا وحسبت مع لطفه، أن قلبه قُد من صخور الجبال. وصلنا لمطار أبو ظبي، وكانت صورة الملك عبدالله بابتسامته التي جمعت له القلوب، ويلوح -بسماحته المعهودة- في كل مكان في أرجاء المطار، والقرآن يُتلى في ردهاته. ولم نصادف أحدا إلا ويقول لنا: أنتم من السعودية؟ ثم يقدم لنا العزاء. وجاءني هاتف بصوت خافت، وسألني المشاركة في إذاعة إماراتية، ولما كنت أنتظر دوري سمعت ضيفا إماراتيا يتكلم والعبرة تخنق مخارج صوته، عما قدمه الملك عبدالله -يرحمه الله- لدول المنطقة والعالم، وتحدث عن قصة أثرت به شخصيا. وودت أن ذاك الرجل لم يقف، فكان يعبر عما في قلبي، وربما أكثر. وصلنا مطار البحرين، والصور للملك عبدالله بالردهات مع جُمَلٍ توديعية تثقل القلبَ الحزين. ولم أصل لمكاني حتى فتحت التلفاز ووجدت أن الحديث والبرامج كلها عن الكبير الراحل. هاتفتني إذاعة البحرين، وكنت أود أن أنقل شكري العميق لأهلنا في البحرين عن هذا الوفاء الكبير، إلا أني ترددت، كان سؤال المذيع طويلا، لم يكن يسأل بل كان يعبر بمجامع قلبه عن حزن البحرين وحزنه الشخصي، وأيضا قال لي على الهواء، عمل لنا الملك عبدالله الكثير وحبه في قلوبنا غامر، وعلى الصعيد الشخصي لن أنسى أنه قال يوما: "البحرين بنتي الصغرى".. يا الله. وانتشر في كل مكان تغطية الدايلي تايمز وصورة قبر عاهلنا الراحل، بعنوان كبير:"تحت هذا القبر البسيط يرتاح واحد من أعظم رجال العالم تأثيرا" حبٌ وإعجابٌ محلي، وإقليمي، وإسلامي، وعالمي. في الصباح شاركت بعدة برامج تلفزيونية، لم أستطع رد أي واحدة منها كما أفعل عادة إن تكاثرت الدعوات، لا تستطيع أن ترفض دعوة للمشاركة في برنامج يتحدث عن شخص تحبه، وفقدته. وصدق من عدّد بتغريدة بالتويتر سبع محطات خرجت بها في صباح واحد، محذرا أني أحرق نفسي. وعدته ألا أفعل بالمستقبل، وأرجو الله ألا أضطر أن أفعل! كانت البرامج من المفروض أن تنتهي العاشرة والنصف، إلا أنها طالت، لأني أردت أن أقدم العزاء والبيعة لأميرٍ أحبه وأعجب به، وهو أمير منطقتنا سعود بن نايف بن عبدالعزيز. لما رأيت وجهه بالصحف، لا شك أن الحزن كان باديا بملامحه، إلا أنك تلاحظ ذلك الاطمئنان، الاطمئنان الذي يجعلنا نتوكل على الله ونقول: كل شيء سيمر بخير وسلام. أدعو الله -تعالى- أن يوفق عاهلنا خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، ليقود هذه الأمة، ضمن هذا الاطمئنان والثقة والإيمان، عبر بحرٍ عالي الموج صاخب الرياح.. آمين.