وآهٍ يا بئرَ الآلام 1-2
.. تناسقت ظروفٌ لتجمعنا نحن الخمسة، أتينا لنناقش موضوعاً عملياً ثم تداخلت المواعيد، إلى أن انتظمنا بجلسةٍ واحدة.. وبدون مغالبة بطبيعة المناسبة خرج الحديث للشأن السياسي الاجتماعي. عبدالعظيم العراقي، سعفان السوري، ومحمد اليمني، وعبداللطيف التونسي.. وأنا.قادنا نقاشنا إلى الحالة بالمنطقة الآن، فمواضيعنا لها اتصال في الحالة السياسية والأمنية، كما هو أي شأن آخر، فكل عمل أو صنعة أو مشروع لهم علاقة مباشرة مع الحالة الأمنية والاقتصادية والاجتماعية.عبدالعظيم عبقري بدماغ نادر، يعمل كالآلة، ويحسب ذهنه كحاسبات التوقع المناخي، هاجر مع والده لاستراليا، وهناك مات والده كمَدا لفشل أعماله وحنيناً لبلده وأهله. على أن عبدالعظيم تلقّف عمل أبيه المديون المتعثر، وصنع منه امبراطورية تقنية تترامى مكاتبها بقارات العالم. قابلت عبدالعظيم بدبي قبل عقد من الزمان وكان الحال غير الحال، حيث الحماسة تطفح من مسامه لقدومه من بغداد بعد أن اجتمع بأسرة أبيه. سعفان السوري يمثل شركة سعودية صاحبها سعودي من أصل سوري، مولعٌ بالأدب وشاعرٌ بامتياز مع أنه مهندس عريق. تعرفت على سعفان في جَمْعٍ بالنادي الأدبي بالرياض ثم تشعّبت علاقتنا. محمد طبيب بشري من اليمن ويعمل في المملكة منذ أكثر من عشرين عاما، وهو فقيه شرعي، ومرجع بفكر وأعمال شيخ الإسلام الغزالي، ومثل صاحبنا السوري شاعرٌ صحيح النضد، ويكتب شعره بالانجليزية غالبا، مع أن شعرا له قرأته بالعربية تحسبه من العصر الفخم للشعر العربي أيام العباسيين. عبداللطيف التونسي، طريف جدا، ويدعونه «ليتو» لأنه عمل بإيطاليا سنوات طوال وتزوج إيطالية، ويعمل مسوّقا تقنيا لشركةٍ تصنّع أجهزة الاتصالات، ويعتقد أنه صاحب الحظ المعاند الأول في العالم.. في الأسبوع الذي أتي به لتونس كي يستقر نهائياً بعد غربةٍ طالت، اشعل البوعزيزي النارَ بنفسه مطلقا أكبر ثورة شعبية عرفها العالم العربي.دار الحديث أن صيغة الدولة تكاد أن تنتهي بالمشرق العربي. فالدولة التي لا تستطيع أن تحمي حدودها، ويدخل ويعبث بأمنها من شاء وقت يشاء، وتُسلـَب سيادتها الوطنية بتفسيرات غيبية لا واقع ومعنى لها في واقع الدول ذات السيادة. والاستلابُ أقوى وأعمق أثراً من الاستعمار. يقول عبدالعظيم إن العراق انتهى كما عرفه، بل كما عرفه التاريخ منذ القدم، نصف مليون عراقي هربوا من جحيم الواقع العراقي فقط في السنوات الأخيرة، وحوالى ثلاثة ملايين تنقلوا خوفا ورهبة من مواطنهم الأصلية لأماكن أخرى داخل العراق، وداعش تملك بالراحة منطقة تساوي ثلث العراق خارج المناطق الكردية. ولم يعد العراق دولة مهما تماهت لنا الصور.. وضاعت بها أهم البُنى الأساسية لأي دولة، وهو الفكر الفردي الحر.. أيضا كما استلبت الدولة استُلب الفكرُ الفردي وضاع في سراديب الوهم والتعصب والكره وشخصية مختلة بسبب الرعب المقيم. وكان سعفان يؤيد مسألة انتهاء واقع الدولة في سوريا بصوت أقل حِدّيةً من عبدالعظيم الهادر الصوت، سعفان يتحدث بصوت مرتعش يغالبُ بكاءً بقلبه وأتعبنا ونحن نسمعه يقول إن معدل الأعمار في سوريا نقص من 75 سنة إلى 55 سنة فقط. والشباب قوام الأمة وعصبها في غيبوبة كاملة عن الإنتاج ورفد البلاد، ومعدل البطالة ارتفع مسجلا أكبر معدل بطالة في العالم إلى 60 %.. ياللهول. وتصوروا كم شيطانا يعبث بهذه الأيادي الفارغة، ويفتح لها فوهات السعير.أدركني مجال الصفحة، وإن لم تنسوا وانتظرتم معي سنتحدث عن التونسي «ليتو» متحدثاً عن ليبيا وفظاعاتها، والدكتور محمد.. آهٍ يا دكتور محمد، كيف سحبت من بئر الآلام، بإبداعٍ وصفي، الحالة باليمن.. وأي حالة!ألقاكم الأربعاء الذي يلي اليوم، لنكمل إن أراد الله.