(1)لا أذكر بالضبط من الذي قال انه لا توجد في الولايات المتحدة سياسة خارجية وأخرى داخلية، ولكن هناك فقط سياسة داخلية. بمعنى أن صاحب القرار السياسي لا يخطو خطوة إلا وعيناه على الداخل والصوت الانتخابي. لكن مختلف الشواهد تدل على صواب تلك المقولة، بوجه أخص في ظل الإدارة الأمريكية الحالية، التي يقف على رأسها رئيس ضعيف لم تكن له علاقة بالسياسة الخارجية يوما ما، ثم ان شرعية توليه السلطة مجرحة. حيث تولاها بحكم المحكمة. وليس استنادا إلى تأييد شعبي يطمئن إليه.
ليس ذلك فحسب. وإنما لاحقت الرئيس منذ توليه السلطة سلسلة من الفضائح من ذوات العيار الثقيل، بدأت بما أثير من شبهات حوله شخصيا وحول بعض مساعديه (نائبه ديك تشيني) بشركة "انرون" للطاقة، التي ثبت أنها اشتركت في تمويل حملته الانتخابية، وفي وضع خطة ادارته في مجال الطاقة، كي تحقق من وراء ذلك ما تصبو إليه من أرباح. واذ بينت التحقيقات أن ثمة فسادا وتلاعبا في موازنة الشركة، التي تعد من اضخم المؤسسات الأمريكية، فإن الأمور تطورت في وقت لاحق إلى الحد الذي غدت معه قضية "انرون" بمثابة الجزء الذي ظهر من جبل الفساد الهائل المستشري في الشركات الأمريكية الكبرى، وهي الحقيقة التي ظهرت بشكل جلي خلال الأشهر الأخيرة، ووصفت بأنها "سبتمبر الثانية"، إشارة إلى عمق وجسامة الضرر الذي ضربت به الاقتصاد الأمريكي، على نحو أقرب الى الأضرار التي أصابت الولايات المتحدة جراء هجوم الحادي عشر من سبتمبر في العام الماضي.
لقد ثبت أن شركة "وورلد كوم" العملاقة في عالم الاتصالات تلاعبت في ميزانياتها بصورة فاحشة (الوصف للرئيس بوش) فأعلنت في العام الماضي مثلا عن تدفقات مالية غير حقيقية بلغت 2 مليار و400 مليون دولار، في حين أنها كانت خاسرة 662 مليون دولار وكشف النقاب لاحقا عن أن شركة "زيروكس" فعلت نفس الشيء، وكذلك عدة شركات عملاقة أخرى، وصفت في الاعلام الأمريكي بـ"عصابة الخمس". وثبت أن هذه الشركات وحدها ألحقت بحملة أسهمها خسائر تجاوزت 460 بليون دولار.
هذه الصدمات أحدثت صدمة وذعرا في داخل الولايات المتحدة، التي انهارت فيها أسعار الأسهم بسرعة على نحو لم يحدث في تاريخها، ولك أن تتصور تأثير تلك الصدمة على المواطن الأمريكي، الذي هو ابرز من يرفع شعار "عض قلبي ولا تعض رغيفي"!. (للعلم: شركة وورلد كوم وحدها استغنت عن 17 ألف عامل) وكان من الطبيعي أن تتردد أصداء الزلزال في البورصات والأسواق العالمية.
فقرأنا في 4/7 عن أن بورصة لندن وحدها خسرت جراءه 56 مليار دولار، ولم تنج البورصات الأوروبية الأخرى من الإصابة بخسائر مماثلة.
مازالت كرة الثلج تكبر يوما بعد يوم، واكثر ما يهمنا في السياق الذي نحن بصدده أن من شأن ذلك تآكل الرصيد الشعبي للرئيس بوش وادارته، وهوخطر يهدد مصير حزبه ومصيره شخصيا في الانتخابات المقبلة.
(2)
الفضيحة الثانية تمثلت في الفشل الأمني المروع الذي أدى إلى وقوع هجومات 11 سبتمبر. وهو الذي تسربت أخباره مؤخرا بعد حصارها والتكتم عليها لعدة أشهر. فقد كان مجرد نجاح ذلك الهجوم فضيحة كبرى لأجهزة الأمن، التي عجزت عن اكتشاف وجود عشرين شخصا أو أكثر في داخل الولايات المتحدة لمدة ستة أشهر أو سنة، بعضهم كان مدرجا على لوائح الاشتباه، وهم الذين استطاعوا تنفيذ مخططهم وتوجيه واحدة من أسوأ الضربات في تاريخ الولايات المتحدة.
أما الذي لا يقل سوءا وفداحة عن ذلك، فهو ما تبين من انه كانت هناك لدى أجهزة الأمن معلومات وتقارير حول تحركات مثيرة للشك من قبل بعض العناصر، أحدها وصل الى مكتب الرئيس شخصيا. ولو أن هذه المعلومات والتحذيرات أخذت على محمل الجد، في حينه، لامكن تجنب الكارثة التي وقعت. وقد تابع الجميع أصداء الفضيحة فيما نشر عن تحقيقات الكونجرس وتعليقات أعضائه حول الموضوع، الأمر الذي بدا مؤذنا بتدمير سمعة الادارة الأمريكية، واشهار عجز الرئيس وفريقه والأجهزة المعنية عن حماية أمن البلاد.
لقد قيل ان صفقة أبرمت لاحتواء الفضيحة، ألقت اسرائيل فيها بثقلها ورجالها في الكونجرس، حيث دعتهم الى تخفيف الضغوط على الرئيس بوش، والكف عن فضح ادارته وتدمير سمعتها، وبذلك أسدى شارون للرئيس الأمريكي خدمة ومعروفا لا يمكن نسيانهما. وقبضت اسرائيل لقاء ذلك الثمن الذي كان واضحا في خطاب الرئيس بوش الاخير، والذي اطلق فيه يد شارون لكي يفعل ما يريد بالفلسطينيين والارض المحتلة ورغم ان الصفقة المفترضة أدت الى تسكين الرياح لبعض الوقت، الا انها أدت الى التستر على الفضيحة وحجبها الآن، وذلك لا يضمن ولا يمنع تفجير القنبلة في أي وقت اخر.
ثمة مشكلات اخرى داخلية تواجه الادارة الامريكية، بعضها يتعلق بما وعد به الرئيس في حملته الانتخابية ـ ولم يف به ـ خاص بالاوضاع الاجتماعية والتعليم، والبعض الاخر يتعلق باجراءات تقييد الحريات المدنية او العامة التي لجأت اليها، وبالمخصصات المالية الهائلة التي طلبت لاجهزة الامن، وصلاحياتها التي تم التوسع فيها.
لكنني لن اتحدث عن تأثير تلك المشكلات وانما اشير الى الفضيحتين الكبريين اللتين سبقت الاشارة اليهما، واتساءل: كيف تعاملت الادارة الامريكية معهما، علما بان الفضيحة الاولى شكلت ـ ومازالت ـ تهديدا للأمن الاقتصادي للمواطن الامريكي، بينما مثلت الثانية تهديدا مباشرا للأمن الوطني الامريكي.
اجابتي المباشرة ان الادارة الامريكية لجأت في ذلك ـ ضمن امور اخرى ـ الى اثارة مخاوف الامريكيين حول امنهم الشخصي، وحصرت على ان تشيع بين الناس درجات مختلفة من الخوف، لصرف انتباههم عن تلك الفضائح الجسيمة من ناحية، ولاقناعهم انهم معرضون للخطر، وانهم بحاجة الى سياسة "القبضة الحديدية" التي يلوح بها الرئيس بوش. ومن ثم بحاجة الى ادارته "الجمهورية" وسياستها الحازمة، لحمايتهم من ذلك الخطر المفترض.
(3)
في العاشر من شهر يونيو الماضي كان وزير العدل الامريكي جون اشكروفت في زيارة لموسكو، وصبيحة ذلك اليوم دعا الى مؤتمر صحفي استثنائي اعلن فيه ان وزارته اعتقلت "إرهابيا خطرا" كان يتحرى عن امكانية صنع وتفجير "قنبلة قذرة" في الولايات المتحدة.
وذكر أن تلك الخطوة بمثابة انجاز مهم "وخطوة واسعة في الحرب ضد الارهاب" لأنه "أحبط مؤامرة ارهابية قيد النمو". ولم تمض ساعات على ذلك الاعلان حتى خفضت الحكومة الأمريكية من حجم كذبتها، حيث أكد نائب وزير الدفاع وولفوفيتز انه لم تكن هناك خطة فعلية، لكننا أوقفنا الرجل في مراحل التخطيط الأولى وفي وقت لاحق صرح مسئول بأجهزة الامن بانه "ليس هناك دليل على ان الشخص المعني كانت لديه الامكانيات لتنفيذ الخطة، او انه فوض في ذلك"!! ثم ان التهويل من حجم الخسائر البشرية المترتبة على تفجير تلك القنبلة القذرة، كما صورها وزير العدل، دحضه الخبراء الذين اكدوا للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الامريكي انه ستنجم عنها خسائر بشرية قليلة نسبيا، وان كان لها آثار ملوثة في المدى البعيد.
رغم ذلك فان الحكومة الامريكية امعانا في تضليل الرأي العام، واصرارا على تخويفه، سارعت بعد مضي عدة ساعات الى اعتبار ذلك الشخص "مقاتلا يشكل خطرا جديا ومستمرا على الشعب الامريكي والأمن القومي". وبسبب ذلك الامر الرئاسي تم نقله من سجنه في نيويورك الى قاعدة عسكرية في ولاية اخرى، حيث وضع تحت اشراف وزارة الدفاع، وهناك اختفى اثره، ولم يسمح له بالاتصال حتى بمحام يدافع عنه.
هذا "الارهابي الخطير" لم يكن سوى الامريكي خوسيه باديلا، الذي دخل في الاسلام واطلق على نفسه اسم عبدالله المهاجر، وله تاريخ في عصابات الشوارع، ولم يتجاوز تحصيله المرحلة الابتدائية، ولم يثبت ان له علاقة بتنظيم القاعدة، ولم تثبت بحقه اي شبهة على انه ارهابي، وهو ما دفع صحيفة "الاندبندنت" البريطانية الى نشر تقرير آنذاك ذكرت فيه انه لا يوجد لدى الامريكان دليل واحد يدين عبدالله المهاجر ويثبت تورطه في عمل ارهابي، خصوصا ان قدراته الشخصية وتحصيله العلمي لا يمكنانه بأي حال من صناعة قنبلة مشعة من ذلك القبيل بالغ التقدم والتعقيد. اضافت الاندبندنت ان القضية كلها تبدو محاولة من ادارة بوش لتحويل الانظار عن فشل المخابرات الامريكية في اكتشاف الارهاب ومنعه.
هذه الاشارات الى براءة باديلا او المهاجر مما نسبه اليه، نشرت مقتضبة وخجولة، بينما شغل الناس لعدة اسابيع بحكاية القنبلة القذرة التي اتهم بصنعها. وبعدما افاضت الصحف ومحطات التليفزيون في الحديث عن مخاطر تلك القنبلة الخطرة والترويع الذي يمكن ان تحدثه، وعن خطط الارهابيين التي لم تتوقف عن استهداف الولايات المتحدة.
لقد سلطت الاضواء قوية على خطر موهوم، ولم يتنبه احد الى ان الامر لم يكن اكثر من فرقعة اعلامية اريد بها اذكاء مشاعر الخوف عندهم، والهاءهم عن حقائق الواقع وفضائحه.
(4)
ذلك غيض من فيض. لان اخبار الخطط والمؤمرات الارهابية التي تسرب بين الحين والآخر داخل الولايات المتحدة وخارجها لاتعد ولاتحصى، حتى اصبحنا لانكاد نفتح الصحيفة كل صباح الا ونجد فيها نبأ عن عمل ارهابي هنا أو خلية ارهابية هنا اومشروع ارهابي هناك.
حتى غم الامر علينا، ولم نعد نعرف ما هو حقيقي مما هو موهوم اومكذوب. ذلك انني لا استطيع القول بان كل ما نقرؤه من اخبار ومشروعات ارهابية مختلف ومكذوب، ولا استبعد ان يكون لبعضه ظل من الحقيقة. انما الذي تدل عليه شواهد كثيرة ان بعض ما يسرب الينا مختلف، وان البعض الآخر مبالغ فيه.
واذا لاينسى المرء ان وزارة الدفاع الامريكية هي التي انشأت قبل عدة اشهر ما سمي آنذاك بمكتب "التأثير الاستراتيجي" الذي كان الهدف منه تضليل الرأي العام بالاخبار والمعلومات المكذوبة، لتحقيق مآرب معينة، فان التراجع عن انشاء المكتب بعدما انفضح امره وتسربت انباؤه الى الصحف، لايعني بالضرورة أنه تم التراجع عن الفكرة الشريرة فيه.
من ناحية اخرى فان ما يثير الشك فيما يعمم علينا بين الحين والآخر من انباء عن اكتشاف خلايا وعمليات ارهابية في مختلف انحاء العالم، ان واحدا مثلي يدهش كيف ان الذين قاموا بهجومات 11 سبتمبر، بالغة الدقة والاكتمال، لاحقتهم الخيبة والفشل الذريع في كل ما اقدموا عليه من اعمال بعد ذلك، هذا اذا ما صدقنا ما يقولون عن ان ثمة صلة بين هؤلاء وهؤلاء. وهي مفارقة تضعنا امام احد احتمالات ثلاثة، اولها ان يكون "المخرج" قد اختلف في حالة 11 سبتمبر عنه في الحوادث التالية، او ان الذين قاموا بهجومات 11 سبتمبر غير الذين اقدموا على المحاولات الاخرى، او ان تلك العمليات اللاحقة مختلفة واريد بتسويقها تحقيق اهداف سياسية داخلية، من ذلك القبيل الذي سبقت الاشارة اليه. وبطبيعة الحال فان الذي يفعلها لأسباب داخلية لن يتردد في ان يستخدم اسلوب الافتعال لتحقيق اهداف اخرى خارجية.
(5)
في شهر مارس من العام الحالي سربت الحكومة البريطانية خبرا عن اكتشاف "مختبر بيولوجي" في احدى مغارات تنظيم القاعدة بشرق افغانستان. وبعدما نفت واشنطون الخبر، تبين ان الهدف من تسريبه كان تبرير وتغطية قرار الحكومة ارسال 1400 جندي بريطاني الى افغانستان. وفي الشهر نفسه نشرت الصحف ان عرفات عقد تحالفا سريا مع الايرانيين في اجتماعات عقدت بموسكو، ولكن نيويورك تايمز التي نشرت الخبر، عادت وكذبته في وقت لاحق، ومؤخرا سربت اخبار مبتدئ في السياسة يعلم ان الخبر مكذوب، لان حزب الله لم يدخل في اي تحالفات او عمليات خارج لبنان وابعد من ارضه المحتلة. وقبل ايام قليلة (في 3/7) بثت وكالة رويترز للانباء خبرا من طوكيو خلاصته ان المسئولين اليابانيين اصبحت تساورهم الشكوك في صدقية التقارير الامنية الامريكية لكثرة المعلومات الزائفة فيها، التي اوقعت اليابان في اكثر من مأزق حرج.
ذلك قليل من كثير فيما يخص استخدام الاخبار المكذوبة لتحقيق اهداف معينة في الساحة الدولية. وهي خلفية تسمح لنا بمضاعفة الشك في الكثير مما يروج له من اخبار على صعيد الداخل، وتحضرني هنا قصة "الجمرة الخبيثة" التي روعت الامريكيين حينا من الدهر، والتحذيرات المستمرة من توقع عمليات ارهابية في المناسبات المختلفة، التي كان آخرها احتفالات عيد الاستقلال الامريكي يوم الخميس الماضي (4/7). ثم حكايات العرب الذين يلقى القبض عليهم كل حين بتهمة تسهيل الارهاب او الضلوع فيه، وما يرج له بين الحين والآخر من اجراءات لضمان عدم تهريب اسلحة الدمار الشامل للولايات المتحدة.
من اسف ان العدالة الامريكية في اجواء اللوثة الراهنة اخضعت للسياسة، بعدما مرر الكونجرس قوانين واصدرت وزارة العدل سيلا من التعليمات التي كانت كلها اعتداء صارخا على الحريات والحقوق المدنية، خصوصا بالنسبة للعرب والمسلمين، وما كان لذلك كله ان يمر الا في ظل اجواء الخوف المصطنع الذي جرت اشاعته بين الناس، اذ حينما نجحوا في اشعار المواطن الامريكي ان امنه مهدد، وانه في خطر، فانه اصبح مستعدا لقبول اي شيء، بما في ذلك ضوابط العدالة وضمانات الحرية.
هي لعبة خطرة حقا، لكن خبرة التاريخ علمتنا انه يتعذر خداع الناس والكذب عليهم طول الوقت، حتى اذا كانوا امريكيين ممن يسهل الضحك عليهم وغسل ادمغتهم بالأساليب الجهنمية المعهودة. لكن يبدو ان ذلك الخداع والكذب يجب ان يستمرا حتى شهر نوفمبر المقبل على الاقل، حيث يفترض ان يجني الحزب الجمهوري حصاد ما يتم زرعه اليوم، من خوف وقلق.