هذه دعوة موجهة إلى التربويين وصناع القرار؛ المعلمين في مدارسهم وأساتذة كليات التربية والمعلمين خصوصاً والجامعات عموماً، وصناع القرارات التربوية سواء من هم في قمة الهرم الإداري أو في القيادات الوسطى؛ إلى هؤلاء جميعاً ندعوهم لقراءة هذه الورقة، وفيها مقارنة بين الوجه الشائع لتقنية التعليم ووجهها الآخر، مقارنة تتناول محاور تقنية التعليم والهوية المفقودة، تقنية الآلات وتقنية المنظومات، تقنية التعليم والإصلاح التربوي، تقنية التعليم وتطوير برامجها، تقنية التعليم وبرامج التعليم عن بعد، تقنية التعليم وبرامج التدريب، تقنية التعليم والبحث العلمي، تقنية التعليم والنشر العلمي، خدمات تقنية التعليم، تقنية التعليم بين الدمج والإضافة.
الهوية المفقودة
تقنية التعليم في وجهها الشائع هي مجال بلا هوية، فلا أطر نظرية توجه ممارساته النظرية والتطبيقية، ولا حدود أكاديمية واضحة تحكم مناهجه وبرامجه لتؤدي دورها في بناء نظرية المعرفة وتوليد النماذج التطبيقية. على المستوى المحلي، مثلاً، تقنية التعليم هي فرع من أقسام المناهج أو التربية تارة، أو قسم خدمات أو إدارة للأجهزة تارة أخرى، أو مركز للوسائل يقدم بعض المقررات الدراسية. باختصار بعضهم يعرف تقنية التعليم في إطار الوسائل السمعية البصرية وآخرون يركزون على التعليم المبرمج ونواتج التعلم السلوكية، وبعضهم الآخر يؤكد على المنتجات التقنية، فيما يركز آخرون على مفهوم العملية. إن تقنية التعليم ليست معروفة في الأوساط التربوية، أو على الأقل ليست مفهومة بوضوح.
الوجه الآخر لتقنية التعليم هو أنها نظرية ومجال ومهنة؛ نظرية حول كيفية التعرف على مشكلات التعلم الإنساني وحلها، ومجال يعمل على تطبيق المبادئ النظرية في حل تلك المشكلات، ومهنة يعمل ممارسوها ضمن معايير خاصة ويؤدون واجبات معينة، ويشتركون في بناء مكونات المجال الأساس المهني لتقنية التعليم، إذاً، يعتمد على النظرية والتطبيق، حيث يتوافر لهذه المهنة حالياً قاعدة معرفية لدعم التطبيق. وبعبارة أخرى، يشتمل كل واحد من مكونات المجال (التصميم والتطوير والاستخدام والإدارة والتقويم) على وعاء معرفي يقوم على البحث والخبرة، ويساهم في بناء النظرية وتوليد النماذج التطبيقية. وتستخدم النظرية والتطبيق في مجال تقنية التعليم النماذج الإجرائية استخداماً مكثفاً، وتعمل هذه النماذج التي تصف عملية تصميم التعليم على ربط النظرية بالتطبيق.
تقنية الآلات و المنظومات
الوجه الأكثر شيوعاً لتقنية التعليم هو تقنية الآلات قديمها الأجهزة السمعية البصرية مثل الأفلام المتحركة والثابتة.. إلخ وحديثها التقنيات المعتمدة على الحاسوب مثل اسطوانات الفيديو التفاعلية والوسائط المتعددة.. إلخ. هذه النظرية تعكس المفهوم المادي أو مفهوم الوسائل لتقنية التعليم ؛ وهو مفهوم يرتكز على البعد الخاص بمنتجات التقنية من مواد وأجهزة، وهي نظرية شائعة ليس على مستوى العامة، ولكن في الجامعات والمدارس، بل وحتى لدى الغالبية من أساتذة كليات التربية والمعلمين (من غير المتخصصين في المجال). هذا المفهوم لتقنية التعليم لا يمكن فصله عن المفهوم الشائع للتقنية عموماً، فالتقنية بالنسبة للكثيرين هي الآلات والأدوات الإلكترونية التي تمثل الجوانب الملموسة من التقنية، وتستخدم في مناحي الحياة اليومية. ولكن يغيب عن أذهاننا أحياناً في حمى الانبهار التقني أن هناك جوانب عديدة غير ملموسة في التقنية هي العمليات والنظم والمهام المعقدة التي ينبغي تخطيطها وتنفيذها وإدارتها وتقويمها للحصول على المنتجات المطلوبة. من هنا يأتي تعريف التقنية بأنها التطبيق المنظم للمعرفة العلمية ليؤكد على أن الآلة تعتمد على الأسلوب (النظام أو العملية أو الطريقة) وهي جزء بسيط منه. في ضوء المفهوم المادي إذا، تقنية التعليم هي الوسائل التعليمية أو الوسائل السمعية البصرية (أو وسائل الإيضاح كما يحلو للبعض أن يسميها. من هذا المنظور يبدو أن الأمر لا يعدو أن يكون استبدال مسميات تقليدية (الوسائل السمعية البصرية) بأخرى معاصرة (تقنية التعليم)، أما المضمون فلم يتغير. وفي الوقت الذي تولد عن هذه الرؤية لتقنية التعليم نتائج سلبية عديدة يمكن إجمالها في تهميش المساهمات التي يمكن لهذا الميدان الحيوي تقديمها للتربية والتعليم، فإن مما يؤسف له أن هذه الرؤية ازدادت تكريساً بتأثير من المتغيرات التقنية المعاصرة خصوصاً تقنية الحاسوب.
الجوانب الملموسة
الوجه الآخر لتقنية التعليم هو تقنية النظم وهي تقنية ترتكز على مفهوم العلوم السلوكية الذي يعطي لمفهوم العملية الأولوية في الدراسة والبحث والتخطيط، وهو ما يقع ضمناً في صميم علم الجودة،. من هذا المنظور، فإن تقنية التعليم هي عملية منظمة وشاملة وموجهة بالأهداف تأخذ في الاعتبار جميع المتغيرات ذات العلاقة بطريقة مبدعة ومتزامنة. في هذا الإطار يتسع الوجه الآخر لتقنية التعليم ليشمل ليس فقط تقنية المصادر أو الوسائل التعليمية (الجوانب الملموسة من التقنية) مثل أدوات التعلم الإلكترونية والمواد أو البرامج المستخدمة معها وإنما أيضاً المنتجات الملموسة بدرجة أقل، وهي برامج التعليم (أو التدريب) التي تصمم لتوظيف المنتجات الملموسة في نقل الرسالة التعليمية للمستفيدين، وكذلك الجوانب غير الملموسة المتمثلة بتقنية العملية هذا المفهوم لتقنية التعليم الذي جاء نتيجة تمازج جذور معرفية من مجالات ونظريات علمية مختلفة مثل الاتصال والتعليم والتعلم والنظم وإدارة التغيير وغيرها، يعني باختصار شديد توظيف المبادىء المشتقة من هذه النظريات والمجالات في تحليل المشكلات التعليمية تحليلاً منظماً وشاملاً بهدف إيجاد الحلول المناسبة لها. إن منهج تقنية التعليم في ذلك هو تصميم النظم التعليمية الذي يمثل أكثر مجالات تقنية التعليم نضجاً في قاعدته المعرفية والتطبيقية.
وبرغم اختلاف هذه النماذج وتنوعها، إلا أنها غالباً ما تتبع النموذج العام الذي يتكون من مراحل التحليل (تحديد ما ينبغي تعلمه) والتصميم (تحديد مواصفات النظام التعليمي) والتطور (إنتاج النظام التعليمي) والتنفيذ (استخدام النظام التعليمي) والتقويم (تقرير كفاية النظام التعليمي)، ونظراً للتشابه بين مصطلحات عملية تصميم النظم التعليمية وإجراءاتها وبين المصطلحات والإجراءات المستخدمة في العلوم التطبيقية، يشير بعضهم إلى مجال تصميم النظم التعليمية بهندسة التعليم وهو ما يؤدي أحياناً إلى ردود فعل غير إيجابية لدى بعض التربويين الذين يرون في هذا المنهج تبسيطاً واختزالاً لعملية بالغة التعقيد مثل العملية التربوية، ومحاولة لميكنة هذه العملية وتفريغها من الطابع الإنساني المميز لها والحد من ابتكارية المتعلمين، ولا سيما أن تصميم التعليم هو عملية موجهة بأهداف إجرائية يقاس مدى تحقيقها من خلال اختبارات محكية المرجع. وحيث لا يتسع المجال لمناقشة هذه القضية، إلا أنه يكفي الإشارة إلى أن التصميم التعليمي هو علم يرتكز على عملية تحليل الحاجات وتقديرها بغرض تصميم تعليم (أو تدريب) يلبي حاجات الفرد والمؤسسة؛ وهو بهذا لا يحتاج إلى دفاع قوي في مقابل التعليم التقليدي الذي سلب التعلم طابعه الإنساني من خلال (عسكرة) العملية التعليمية وهيمنة المعلم المطلقة عليها. باختصار شديد يمثل مفهوم التصميم التعليمي (أو تقنية النظم التعليمية -كما يسمى أحياناً- الوجه الآخر (الحقيقي) لتقنية التعليم وقلبها النابض ووجهها المشرق الذي حافظ على حيوية المجال ونموه على مدى أكثر من أربعة عقود من الزمن تقريبا.
السلوك المدخلي
بناءً على ما تقدم نقول إن المختص في تقنية (أو تصميم) التعليم ليس فناناً في الرسم أو التصوير الفوتوغرافي أو هندسة الفيديو، كما أنه ليس اختصاصياً في تركيب الأجهزة أو صيانتها وتشغيلها، فهذه مهن لها متخصصوها ضمن الوظائف المساندة في مجال تقنية التعليم مثل فني الوسائل الذي يقوم بتركيب الأجهزة وتشغيلها وصيانتها، واختصاصي الوسائل الذي يرشد المعلمين لاستخدام الأجهزة والبرامج. المختص في تقنية التعليم هو مصمم للتعليم وبيئات التعلم بكل ما تتطلبه هذه المهمة من مهارات في تقدير الحاجات وتحديد للأهداف والأولويات وتحليل للمهمة أو المهارة وصياغة للأهداف الإجرائية وبناء لهرميات التعلم وقياس للسلوك المدخلي وتسلسل للتعليم واختيار لاستراتيجياته وأساليبه وتقنياته، ثم تطوير (إنتاج) مواصفات التصميم هذه على هيئة نظام (أو منتج) تعليمي (مقررات أو مناهج، حقائب تعليمية، برمجيات تعليمية.. إلخ)، وتقويم هذا النظام تكوينياً (أثناء مرحلة إنتاجه) من خلال تجربته مع عينة من أفراد الجمهور المستهدف في سلسلة من حلقات التجريب -الاختبار- التنقيح حتى يصل إلى المستوى المقبول من الفاعلية والكفاءة في تحقيق أهدافه (التحصيل الدراسي في حالة التعليم ومهارات المتدريبن في برامج التدريب)، ثم استخدام النظام وتوفير الدعم التعليمي والفني (تدريب مثلاً)، وتوظيف استراتيجيات التغيير (أو التجديد) المرتبطة بنشر الابتكار (النظام) بغرض قبوله بوساطة أكبر عدد من أفراد الجمهور المستهدف وتبنيه، ثم تنفيذه من خلال (دمجه) وليس (إضافته) في البنية التربوية المقصودة، وإدارة النظام ويشمل ذلك إدارة عمليات التصميم والمصادر والمعلومات ونظم نقل الرسالة التعليمية والجودة، وأخيراً تقويم كفاءة النظام الداخلية والخارجية. في هذا الإطار (فقط) يمكن لتقنية التعليم أن تحقق غايتها من توظيف التقنيات (مواد وأجهزة) في حل المشكلات التعليمية بأقصى قدر من الفاعلية والكفاءة، وأن تضع بصمتها المؤثرة على مخرجات التربية والتعليم.
ولعل من حسن حظ هذا العلم الشاب أن تدعم النظريات و التجارب الحديثة منطلقاته ومرتكزاته، فإحدى أدوات تقنية التعليم هو التقويم التكوين)، ووظيفته المحددة هي رصد نقاط الضعف والقوة في المنتج (أو النظام) بغرض تحسينه باستمرار أثناء مراحل إنتاجه وتنفيذه وإدارته. فقط النظام أو العملية أو المنتج الذي تثبت صلاحيته يبقى وإلا فإنه يستبعد. مبادئ علم الجودة
إن الثقة في المنتج تعتمد على العملية التي وظفت للحصول عليه. إن هذا يذكرنا بأول مبادئ علم الجودة الذي يقول لا يمكن التفتيش عن الجودة في المنتج في إشارة واضحة إلى أهمية العملية وضرورة التحقق من الجودة في كل عملية وعدم الانتظار إلى النهاية للتفتيش عن الجودة، حتى نضمن رضا المستهلك من أول مرة وكل مرة ومن المعروف أن المؤسسات غالباً ما توجه جهودها في عملية قياس أدائها ومخرجاتها نحو الأفراد العاملين فيها بدلاً من النظم والعمليات التي يعملون من خلالها. فإذا حدث تدن أو تراجع في مستوى الأداء أو الإنتاجية فإن من الشائع أن نسمع عبارة أن النظام جيد، ولكن التقصير سببه الأفراد أنفسهم مما قد يترتب عليه تغيير مواقع العاملين في المؤسسة أو استبدالهم وإحلال آخرين مكانهم أو تقديم برامج تدريبية في مهارات العمل أو ضخ أموال أو تقنيات.. إلخ. و يؤكد علم الجودة على أن أغلب نتائج الأداء سببها العمليات التي توظف في تنفيذ ذلك الأداء، أي إن المخرجات الجيدة هي نتاج عمليات جيدة والمخرجات الرديئة هي نتاج عمليات رديئة. إن التطبيق في تقنية التعليم يتصف بالسعي لتحقيق مخرجات اقتصادية تتسم بالكفاءة. وبعبارة أخرى، تسعى تقنية التعليم إلى تحقيق اقتصادية التعليم من خلال تحقيق أهداف قابلة للقياس بمستوى فعال من حيث التكلفة في الوقت والجهد والمصادر.وقد بينت التجارب أن البرامج والمواد التي تنتج بوساطة عملية تقنية التعليم (التصميم التعليمي) تتمتع بفاعلية عالية ويمكن تبرير الاستثمار الواسع في برامج تعليمية تتصف بالجودة العالية وتقليل كلفتها من خلال الاستخدام الجماهيري لهذه البرامج إن استخدام برامج ثبتت صلاحيتها من خلال التجريب والاختبار لن تكون مكلفة أكثر من البرامج التي تستخدم دون توافر معايير الاختبار والصلاحية. التقنية والإصلاح التربوي
الوجه الشائع لتقنية التعليم لا يخولها أن تلعب دوراً أو أن يكون لها صوت في مشاريع الإصلاح أو التجديد التربوي مثل تطوير المناهج، ذلك أنه في ضوء المفهوم المادي أو مفهوم الأجهزة لتقنية التعليم لا يبقى لمختصيها مكان بين خبراء المناهج أو أساتذة التربية. وإذا حدث وسمحت الظروف أن يشارك مختصو تقنية التعليم في تلك المشاريع، فإن مشاركتهم بالتأكيد لن تكون في قائمة التخطيط أو التحضير، وإنما في آخر سلم المهام التنفيذية. ولهذا، خلا غرابة في أن توجه دعوة وكالة وزارة المعارف للتطوير التربوي إلى أعضاء هيئات التدريس الراغبين في المساهمة في مشاريع تطوير المناهج في المملكة، وهي الدعوة التي شملت كليات وأقساما عديدة في الجامعات السعودية، ليس من بينها أقسام تقنية التعليم. الوجه الآخر لتقنية التعليم وفي ضوء ما لخصناه آنفاً من مبادئ تصميم النظم التعليمية، يمكن أن يساهم مساهمة فاعلة في دعم جهود الإصلاح التربوي. في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، ازداد تأييد تقنية التعليم ودعمها من قبل صانعي السياسة التربوية، وأصبحت تقنية التعليم واحدة من بين أهم 6 قضايا في أولويات المدارس الأمريكية، كما أعد مكتب تقنية التعليم في وزارة التربية الأمريكية خطة طويلة المدى لدمج التقنية في التعليم. بالإضافة إلى ذلك، اعتبرت تقنية التعليم أداة رئيسة في حركة الإصلاح التربوي، فقد تضمنت كل خطة للإصلاح التربوي تقريباً تقنية التعليم كواحدة من الأدوات الرئيسة للتغيير التربوي، وطلب من إدارات التربية في الولايات المتحدة إعداد خطط لتطبيقات تقنية التعليم في المدارس وفي سبيل إحداث التغيير التربوي المنشود، يأخذ المصمم التعليمي في الحسبان ثلاثة متغيرات رئيسة أولها هو العملية المنظمة أو تطوير التعليم التي أشرنا إليها سابقاً، والثاني هو التطوير المهني لأعضاء هيئة التدريس (في المدارس، الجامعات،.. إلخ والثالث هو تطوير المنظمة فإذا كانت مهارات الجمهور المستهدف (المعرفية أو النفس حركية أو الاتجاهات) ليست على المستوى المطلوب لقبول التغيير وتبنيه وتنفيذه، مما يعني وجود قوى مقاومة للتغيير المطلوب، فإن هؤلاء يصبحون هدفاً لبرامج تدريب تنقلهم من معسكر الرفض والمقاومة إلى معسكر القبول والدعم. ومن الناحية الثانية إذا كانت المنظمة (المدرسة مثلاً) تفتقد المعايير والشروط المطلوبة لإنجاح التغيير، تصبح المنظمة هدفاً لخطة تنقل نظمها وسياساتها إلى مستوى الدعم المطلوب. المصمم التعليمي قد يواجه إحدى أو كلتا الحالتين، وهو في هذه المهمة يضطلع بدور القائم بالتغيير موظفاً في ذلك استراتيجياته ونماذجه. من هنا إذاً، تتضح علاقة نظرية التغيير وإدارته بمجال تقنية التعليم. أخيراً، إذا طبقنا هذا النموذج على خطط تطوير المناهج في المملكة، هل سنكون في موقع المتفائل المطمئن؟ نرجو ذلك.