كان لخبر وفاة الدكتور مانع الجهني أمين عام الندوة العالمية للشباب الاسلامي اثر بالغ علي فقد، أحسست بذلك بمجرد انطلاق السهم من كنانة ناعيه، حتى اذا وقع.. فإذا بي أتداعى من هول المصاب، فأفزع الى ما هو خير.. إنا لله وإنا إليه راجعون.. اللهم أخلفه على أمتي..
الدكتور مانع فرد في أمة أصيبت كثيرا بمقاتلها بوفاة علمائها، وتكالب أمم الأرض قاطبة عليها، فهل بقي يتفرج على نزيفها كالملايين من أبنائها؟ هل رضي بأن يكون واحدا ممن عذروا أنفسهم بأنهم لا يستطيعون أن يصنعوا شيئا تجاه الأحداث الجسام التي تعاورتها، والتي لا تزال تواصل ارسال حممها اللاهبة الى قلبها الموجوع.
ومع عنايته بتخصصه الأكاديمي، واصداره خمسة كتب فيه، فإنه لم يكتف بأن يكون طوال حياته مرهونا للأدب الانجليزي.. يدرسه في جامعته، ويترقى في سلم كادره ببحث عن شكسبير وآخر عن البيوت، بل تمرد على الأدب (على حد تعبير الناقد الكبير الدكتور علي شلش)، والتفت الى ما يرى أنه واجب شرعي؛ للاسهام في انقاذ أمته من الانهيار!!
لقد وجه الدكتور همه وجهده الى الجانب الذي رأى فيه ميدانا لطاقته المتفجرة، فكانت علامات نبوغه القيادي تنضح منذ وقت مبكر من حياته، وما رئاسته لفرع اتحاد الطلاب المسلمين وبعض اللجان الاسلامية، ومشاركته في تأسيس رابطة الشباب المسلم العربي خلال دراسته في أمريكا سوى دليل شاهد على عمق نفوذ قضية الاسلام في نفسه، وتحمله جزءا من تبعاتها على قلبه.
وبعد عودته، وانخراطه في سلك التعليم الجامعي عام 1402هـ، كان هم الاسلام في خاطره هو الأهم، فالتفت الى المؤسسة التي دشنها الفيصل يرحمه الله في قلب دولته عام 1392هـ؛ لتكون الندوة العالمية للشباب الاسلامي قلبا نابضا بالحب والحنان والدعوة الوسطية والمحضن الدافىء الذي يتربى فيه وتحت رعايته مئات الآلاف من الشباب المسلم في أنحاء المعمورة. فرأى في الندوة المرفأ الطبيعي لمواهبه العملاقة، التي لم تتشاغل بإبراز الذات، وتلميع الشخصية، بل وجد فيها فرصة ثمينة لخدمة دينه وأمته، فكان أمينا عاما مساعدا، ثم أمينا عاما، ويكفيه أنه لقي الله في طريقه لحضور أحد مناشطها.
ومن هذا الموقع تفرعت شجرة جهاده الدعوي؛ فلا تكاد تسأل عنه إلا تجاب بأنه في مؤتمر عالمي، أو ندوة فكرية، أو محاضرة دعوية، أو اجتماع خاص بأعمال الندوة، وتلتفت للصحافة فتجد له المقالات المدبجة بحرارة عاطفته القوية تجاه دينه وقضاياه، وتلتفت الى الاذاعة والتلفاز فتجد له البرامج المتنوعة باللغتين؛ العربية والانجليزية، يعرف بدين الله، وينافح عن مبادئه، ويعرض محاسنه، في أسلوب هادىء، يخاطب العقل والقلب معا، وفي مجال التأليف أعد وأشرف على عدد من الكتب والرسائل الدعوية، التي بورك فيها فترجمت الى أكثر من خمسين لغة حتى ختم حياته بترجمة معاني القرآن الكريم.
ولكونه أحد الكفاءات الوطنية المؤهلة تأهيلا علميا وميدانيا عاليا، فقد رشحه أولياء الأمور ليكون عضوا في مجلس الشورى لدورتين.
ان من يستعرض حياة الفقيد ليتعجب حقا من قدرته على ادارته لوقته، وتوزيعه لحياته بين كل المهام والعضويات التي كان يحمل هم التفاعل معها، وهي عضويات عالمية غالبا، تحتاج الى سفر دائم.
ويذكر بعض من تعامل معه في الخارج، أنه كان يطلب من الجهة المستضيفة أن تملأ وقته بالمحاضرات واللقاءات الفكرية المثمرة، الى جانب المهمة الأساس التي ذهب لأدائها. وهي همة عليا تصور ملامح نفسه المتوثبة لمعاني السمو والخير، ومن هنا يتبارك الزمن، ويعيش مثل هؤلاء حياة أطول بكثير من حياتهم، فيذهل الأرضيون ويتساءلون كيف يستطيع مثل هؤلاء أن يوفقوا بين كل هذه المهام، وينجحوا في أدائها؟
أيها المتشاغلون بالتراب.. إنه سر الإخلاص والصفاء النقي من الاشتغال بالقيل والقال وسفاسف الأمور، أو بالبحث عمن أقول فيه ويقول في.. حينها تصفو الروح، ويصفو الوقت كله لعظام المهام؛ وتسمو النفس عن أن تلتفت للاهثين لجمع حطام زائل، أو المتلهين بأعراض العمالقة، العاجزين عن ادراك خطواتهم.
رحمك الله.. وأعلى في الفردوس مقامك..