أصبحت شكوى قصور المماليك الأثرية على كل لسان. فعوامل الزمن نالت منها والاهمال يهددها والمياه الجوفية خطر داهم عليها والفناء أصبح مصيرها بعد ان تداعى منذ أيام قصر الأمير (طاز) وانهار قبله 93 قصرا ولم يتبق منها غير سبعة قصور فقط تئن من الشكوى وتناشد يد الإنقاذ أن تمتد اليها لأنها ثروة أثرية مازالت شاهدة على التاريخ ونوازل الأيام , قصور تحمل عبق التاريخ بين ثناياها والتدفق السياحي سمتها والاستثمار الأمثل قادر على ادخال موارد سياحية جديدة.
التاريخ له معها حكايات وروايات يوم كانت تعج بساكنيها ولكن الزمن حولها بفعل الإهمال الى أطلال تسكنها الخفافيش الباقية منها لم تتركها المحال التجارية والعشوائيات ليزداد آلامها وترتفع صيحات أنينها لعل يد الإنقاذ تدركها قبل فوات الأوان.
القصور حكايتها وروايتها عديدة لا تتسع لها الصفحات ولا يكفيها مداد بقسميها البحري والجركسي وهي قصر قوصون بالقرب من مسجد السلطان حسن ص وقصر " الين آق الحسامي" بباب الزير , ومقعد الأمير ماماي السيفي" ببيت القاضي حاليا" وبقايا السلطان الغوري (بالغورية) وبقايا قصر السلطان الناصر محمد بن قلاوون المسمى (الأبلق) بالقلعة.
أما قصر الأمير "طاز" بشارع السيوفية بالقلعة , فانهار ما كتان متبقيا منه قبل أكثر من شهر في منتصف النهار , والعناية الإلهية , وحدها حفظت المارة من الموت تحت أحجاره الثقيلة.
قصر"طاز" نموذج لما وصلت اليه قصور المماليك من الخراب , فالقصر التابع لوزارة الأوقاف وقد أجرته الى وزارة التربية والتعليم منذ عشرات السنين , واستخدمته الوزارة كمخازن ,وبرغم هذا كله فهو مسجل كأثر ويقول د. صالح لمعي خبير الترميم الأثري, وعضو اليونسكو إن قصر "طاز" كانت حاله متدهورة قبل زلزال أكتوبر 1992 ,كما بداخله مبان حديثة , في ظل غياب الصيانة الدورية لهذا الأثر , الى جانب سوء استعماله كمخازن للكتب , انهار ما كان متبقيا , من هذا القصر , ويقول مدحت المنباوي مدير عام آثار شمال القاهرة إن كثافة حركة النقل حول القصر وداخله وكثافة استهلاكه هي عوامل إضافية أدت الى تداعيه.
لأحمد بن زنبل الرمال المحلي , كتاب خطير الشأن ., يرصد حياة الأمراء المماليك في سنوات الحكم المملوكي الأخيرة , وتفاصيل معاركهم مع السلطان سليم الأول ـ سلطان العثمانيين ـ وزوال الكتاب اسمه (آخرة المماليك).
يصف ابن زنبل الرمال القاهرة في وقت المماليك حينما كانت قصورهم مزدهرة بقوله: وكانت مصر بهؤلاء الأمراء كالعروس المجلية , كل أمير من هؤلاء كالملك المنفرد بنفسه , وكل من في حارته عائش في رزقه , وفي حمايته.
وأحصى ابن زنبل 32 قصرا للأمراء المماليك , عند دخول العثمانيين مصر , لا يقوم منها الآن قصر واحد , وهي قصور , انس بأي الحاج بشارع الصليبية , وتعمر الزردكاش بنفس الشارع ,و"تاني بك" بقلعة الكبش , وأزبك المكحل بالمدابغ, وقانصوه الفاجر بباب زويلة, ونجشباي بمواجهة راس الجلبان " بالصيلبية ,وطوماي باي الدودار الكبير ببركة الفيل , وقصر الأمير علاء الدين ببركة الفيل , وقانصوه كرت بقناطر السباع , وتقطباي نائب القلعة بحمام بشتك , وابن السلطان جركس سيدي عماد الدين , واركماس بالأزبكية , وتاني بك الخازندار ببيت القاضي , و"سودون" بالخرنفش , وقانصوه أبو سنة بسوق السلاح ص " وخوشي كلدي" بالتبانة , واقباي الطويل ببيت ترابية , و" وسودون العجمي " بالناصرية , وقانوصه اصقلة بباب الخلق , وكرتباي الوالي بسوق السلاح , و"جنبلاط ابوترسين" بالقلعة , وقانصوه رجلة بالرملية , الى جانب قصور السلطان الغوري بقلعة صلاح الدين , والتي كانت مخصصة لمن يشغل منصب السلطان و منذ عصر السلطان الناصر صلاح الدين. وما تبقى من قصور المماليك يخرج جميعه عن هذا الحصر , وابن زنبل هنا يحصي قصور النصف الثاني من عصر المماليك الجراسكة , مما يعني ان قصور المماليك ـ جميعا ـ تخطى عددها المائة قصر بالتالي , فقد فقدت مصر أكثر من 90% من قصور الأمراء المماليك في 500 سنة تقريبا.
أول ما سكن المماليك القصور , كما في عهد السلطان "الصالح نجم الدين أيوب" آخر السلاطين العظماء في العصر الأيوبي ,والذي يعد المسؤول الأول عن جلب طبقة المماليك الى مصر ليستعين بهم في الحروب الصليبية وكان أبرزهم قطز وبيبرس وقلاوون , ومنذ سكن المماليك القصور , سرت فيها الشائعات والمؤامرات , والغريب أن هؤلاء المماليك هم الذين قتلوا ابن السلطان صالح أيوب , وقطعوه بسيوفهم إربا إربا ـ كما يقول المؤرخون المعاصرون لهذه الأحداث فكانت أول حادثة قتل في القصور في ذلك العصر .
بعد قتل تواره شاه , تولى المعز "أيبك" السلطنة فتأسست بذلك دولة المماليك وسكن "ايبك" القلعة وعرف المماليك حياة القصور الناعمة , التقاليد السلطانية بعد سنوات خشنة تدربوا فيها على القتال.
مثلت قصور المماليك هذه الطبقة الجديدة الحاكمة خير تمثيل , وتوسع المماليك في أبهة السلطنة وصاروا أكثر تنعما بها من السلاطين الأيوبيين , ولم يكن قصر مملوكي يخلو من الخدم والغلمان , الحرملك , واسطبلات الخيل , والدواب والحدائق الواسعة وقاعات اللهو والأفراح ,غرف النوم (كانت تسمى خزائن النوم) الى جانب ساقية تجلب المياه ,وطاحونة لطحن غلال القصر والحراس والحجاب.
تفاوتت أعداد الخدم , والفلمان من أمير إلى أمير ومن سلطان الى آخر ,فالظاهر بيبرس امتلك ألف خادم و20 غلاما والسلطان الناصر محمد بن قلاوون امتلك ضعف هذا العدد , بل ان مملوكه الأمير "حمص أخضر" والذي قتلة السلطان في لحظة غدر كان يمتلك 20 من الحراس وضعف هذا العدد من الخدم و45 غلاما , غير ان اهتمام المماليك بالجواري والحرملك فاق اهتمامهم بالغلمان وأبنائهم ـمن هؤلاء الجواري كانوا كثيرين جدا , وكانت أم الأكبر تسمى "خوند الكبرى" وعرفت هذه الطبقة من ابناء الأمراء المولودين في مصر باسم " أولاد الناس" وبلغ عدد الجواري في قصور بعض السلاطين ثلاثة آلاف جارية.