مشغولون نحن بنقد ضرب العراق، بأكثر من انشغالنا ببناء موقف يجهض المحاولة، ويجنب المنطقة حريقاً جديداً في قول، وزلزالاً كبيراً في قول آخر. لا اختلف مع الذين ارتفعت أصواتهم بإدانة الحماقة والتحذير من عواقبها، واعتبر ذلك من واجبات الوقت. لكني ازعم أن بذل الجهد للحيلولة دون وقوعها أوجب. والفرق بين الموقفين بحجم المسافة بين القول والفعل، وشتان بينهما.
(1)
لأول وهلة، يبدو الأمر غير قابل للتصديق، ومع ذلك فظاهر الأمر أن آلة الحرب تحركت بالفعل، وانه من تجاوز السؤال "هل"، واصبح الكلام يدور حول "متى". فالرئيس الأمريكي وفريق "الصقور" الذي يحيط به، لا يكفون عن التأكيد على أن الحرب واقعة لا محالة. وصفحات "نيويورك تايمز" ذهبت إلى ابعد، حيث دخلت في تفاصيل الخطط الحربية الموضوعة، وفصلت في متابعة حركة نقل الأسلحة والمعدات الأمريكية إلى منطقة الخليج (عدد 20/8)، حيث يوجد 37 مستودعاً، مساحة كل منها حوالي 6000 قدم. ولهذا الغرض استأجرت وزارة الدفاع سفينتا شحن ضخمتان لنقل المركبات المدرعة والمروحيات، إلى جانب ذخائر أخرى. كما استعانت بثماني سفن شحن إضافية لنقل بقية الذخيرة مع الدبابات وسيارات الإسعاف، ويجري التعاقد على استئجار سفينة أخرى لاستخدامها في نقل المركبات القتالية الناقلة للجنود من الولايات المتحدة وأوروبا إلى منطقة الخليج، للانضمام إلى أربعة ألوية مدرعة متمركزة هناك، فيما ستحمل سفينة أخرى مركبات ومروحيات وذخيرة إلى ميناء في البحر الأحمر لإجراء تدريبات عسكرية قبل الانطلاق لإسقاط نظام بغداد.
في مجلة نيوزويك (عدد 13/8) حديث عن مصانع الذخيرة الأمريكية التي أضافت ورديات عمل إضافية لإعادة ملء الترسانات التي استنفدت خلال حرب أفغانستان. وكلام آخر عن مئات من العسكريين الأمريكيين يعملون على شكل فرق متقدمة في بعض الدول العربية المجاورة للحدود العراقية، لتقييم الاحتياجات اللازمة للحرب. كما أن وزارة الطاقة الأمريكية تعمل جاهدة لإعادة ملء المخزون الاحتياطي الأمريكي من النفط إلى أقصى طاقته (700 مليون برميل) - وهو ما يكفي لسد الاحتياجات الأمريكية من النفط، لأكثر من 80 يوماً، اذا حدثت أزمة نفطية بسبب الحرب.
لسنا اذا بصدد "إشاعات عن حرب". كما ذكر عنوان "نيوزويك" في عددها سابق الذكر. لكننا بازاء شيء جاد، لم تدع تصريحات الرئيس الأمريكي ومعاونيه أي مجال للتشكيك في انه حاصل لا محالة، إلا اذا أراد ربك شيئاً آخر بطبيعة الحال. بل ان صحيفة "الميرور" البريطانية ذكرت في عددها الصادر يوم 11/8 - نقلاً عن خبراء الدفاع الأمريكيين أن الحرب ستبدأ في السادس من شهر نوفمبر. واستندوا في ذلك إلى ثمانية أسباب أوردتها الصحيفة. ويبدو انهم واثقون من صحة تقديرهم إلى درجة انهم وضعوا ساعة للعد التنازلي على شبكة الإنترنت، لمتابعة الزمن، وصولاً إلى الوقت المحدد للضربة الأمريكية.
تحسباً لاحتمالات تعرض الولايات المتحدة لهجوم مضاد بأسلحة الدمار الشامل، نتيجة لإقدامها على غزو العراق، أعلن المسئولون الأمريكيون عن موافقة الرئيس بوش على خطة للتعجيل بإجلاء 2 مليون موظف فيدرالي في نطاق العاصمة والولايات الأخرى وتسهيل الاتصال بينهم، حتى لا تشيع الفوضى في البلاد اذا ما وقع الهجوم (الأهرام 19/8).
حدث نفس الشيء في اسرائيل بشكل آخر، وهي التي تتوقع أن تصبح هدفاً للصواريخ العراقية من طراز "سكود"، كما حدث أثناء عملية تحرير الكويت قبل عشر سنوات، والتقديرات الشائعة أن تلك الصواريخ سوف تحمل رؤوساً غير تقليدية. فقد نشرت صحيفة "هاآرتس" (عدد 5/8) مقالة للمحلل العسكري البارز زئيف شيف تحدث فيها عن تقرير قدمه قبل عشرة أيام الخبير العسكري الأمريكي الدكتور توني كوردسمان للجنة الشئون الخارجية التابعة لمجلس الشيوخ، اعتمد فيها على ما يبدو على تقديرات المخابرات المركزية التي أشارت إلى أن اسرائيل إذا تعرضت إلى الهجوم بأسلحة غير تقليدية، وهو أسوأ الفروض، فإنها سترد بضربات نووية قد تؤدي إلى تدمير العراق كدولة. في اليوم ذاته خصصت صحيفة "يديعوت احرونوت" صفحاتها الأربع الأولى للملف العراقي، من بينها صفحة كاملة أفردتها لترشيد القراء إلى كيفية مواجهة الجراثيم البيولوجية او الكيماوية، أو الإشعاعات التي قد تنجم عن خلل في المفاعلات النووية.
(2)
لحسن الحظ فان اللوثة لم تصب الجميع، فقد ارتفعت أصوات في مختلف العواصم الغربية معربة عن الاستنكار والدهشة، ومشهرة السؤال "لماذا". فمعارضة الحرب قوية في أوروبا كلها، باستثناء إنجلترا (المستشار الألماني شرودر سخر من فكرة الحرب، والرئيس الفرنسي جاك شيراك عارضها بقوة واشترط صدور قرار من مجلس الامن بخصوصها، وبسبب تلك المعارضة فان ثمة أزمة الآن بين واشنطون وموسكو وصلت إلى حد تلويح وزير الدفاع الأمريكي بتصنيف روسيا ضمن أصدقاء الدول الإرهابية) - بل ان تأييد الحرب في إنجلترا مقصور على حكومة توني بلير فقط، لان استطلاعات الرأي العام في إنجلترا بينت أن اثنين من كل ثلاثة يعارضون الحرب (المعارضون في فرنسا ثلاثة من كل أربعة)، في حين أن 5% فقط من البريطانيين اصبحوا يحتفظون بثقتهم الكبيرة في الرئيس الأمريكي، أما حليفه توني بلير فنسبة الواثقين فيه لم تعد تتجاوز 8%. ومشهورة الأغنية التي وصفت بلير بأنه "كلب بوش" تنديداً بموقفه المنساق وراء الرئيس الأمريكي. وقد أشارت الاستطلاعات إلى أن الذين يؤيدون ذلك الوصف بحق رئيس الوزراء البريطاني يمثلون 54% من الناس هناك. لقد أقال توني بلير رئيس أركان الجيش البريطاني - السير مايكل بويس - من منصبه، بسبب اختلافه مع الحكومة حول استراتيجيتها في الشرق الأوسط، خصوصاً خطط ضرب العراق. وهذه المعارضة عبر عنها أيضاً الفيلد مارشال لورد برامال الرئيس السابق لأركان الجيش البريطاني. ووصف الحرب أسقف كانتربري - رون ويليامز - مع ثلاثة آخرين من كبار رجال الكنيسة الانجليكانية بأنها "غير أخلاقية". في ذات الوقت تعالت الأصوات في مجلس العموم البريطاني متهمة رئيس الوزراء بالتبعية للولايات المتحدة، وقد انتقد النائب اليهودي البارز جيرالد كوفمان تلك التبعية بشدة، واتهم الرئيس بوش بأنه "اكثر رؤساء أمريكا الذين رآهم في حياته تخلفاً في التفكير"، في حين وصف مساعديه من بأنهم "لا يتفوق على حبهم للقتال والحرب سوى أمِّيتهم السياسية والعسكرية والدبلوماسية". أما صحيفة "الديلي ميل" فقد وصفت الرئيس بوش بأنه "رئيس متعسكر"! - ويبدو أن هذه المعارضة كان أثرها النسبي على موقف حكومة بلير التي أعلنت مؤخراً عن أنها تعطي الأولوية لعودة المفتشين للعراق وليس لإسقاط نظامه.
الأصوات الناقدة والمعارضة قوية أيضاً في الولايات المتحدة ذاتها، فقد رفض الحرب وحذر من وقوعها في مقالات منشورة أربعة من المستشارين السابقين للأمن القومي هم: برنت سكرو كروفت، وهنري كيسنجر، ولورانس ايجلبرجر، وساندي بيرجر، اما ز. بريجينسكي فقد تحفظ عليها قائلاً انه اذا كان لا بد من الحرب، فعلى الرئيس بوش أن يعرض بنفسه مبرراتها على الأمة، لكي يقنعها بأن التهديد خطير ووشيك. بعد ذلك ينبغي أن تخوضها الولايات المتحدة بصورة مسئولة، ومن خلال تحالف دولي، وبطريقة حكيمة، لا بطريقة هستيرية وبخوف "وديماجوجية"" (في غمز ضمني في صرعة الحرب الجارية في الولايات المتحدة).
الأصوات المعارضة ترددت على صفحات الصحف. فقد نشرت "نيويورك تايمز" في 31/7 مقالاً كتبه اثنان من أعضاء الكونجرس (السناتور جوزيف بايون - ديمقراطي - والسناتور ريتشارد لوجر - ديمقراطي) قالا فيه: ان الرأي العام الأمريكي يريد أن يعرف بالضبط ما هو التهديد الذي يشكله العراق للأمن الأمريكي؟ - ثم ما هي الردود الأمريكية الممكنة على التهديد العراقي؟ - وأخيراً: ماذا ستكون مسئوليات الولايات المتحدة بعد إسقاط النظام العراقي؟
في مقام اخر تساءلت نيويورك تايمز: من الذي سيدفع فاتورة الحرب التي قدرت بمائة مليار دولار؟ وقالت: ان في الحرب الأولى دفع حلفاء أمريكا 80% من قيمة الفاتورة التي بلغت 60 مليار دولار، وارتفع سعر برميل النفط من 15 إلى 40 دولاراً، وكان الحلفاء متفاهمون مع الولايات المتحدة، في حين انهم الآن يعارضون الحرب. الأمر الذي يثير السؤال التالي: هل ستتحمل أمريكا عبء الحرب وحدها، في ظل ركود اقتصادي خطير، وديون بدأت تتراكم وتتزامن مع اكبر الفضائح المالية في التاريخ الأمريكي؟
وليم فاف الذي يعد من ابرز المعلقين الأمريكيين وأكثرهم احتراماً، كتب في لوس انجليوس تايمز (عدد 15/8) يقول: ان الحجج التي تقدمها الإدارة الأمريكية لصالح خوض الحرب غير مقنعة، حتى للقادة العسكريين الأمريكيين أنفسهم، إضافة إلى انه لا توجد لدى الولايات المتحدة سياسة جدية واضحة بشأن العراق بعد إنهاء النظام الحالي، وفي حين أن القادة المحترمين يعارضون الحرب فالذين يؤيدونها في البيت الأبيض ليسوا اكثر من هواة في السياسة.
(3)
لم يكن عضوا الكونجرس الوحيدان اللذان تشككا في جدية الزعم بأن العراق يهدد الامن القومي الأمريكي. كما أن صحيفة نيويورك تايمز ذكرت على موقعها على شبكة الإنترنت أن الولايات المتحدة قدمت إلى العراق في عهد الرئيس الأسبق رونالد ريجان مساعدات مهمة أثناء حربه ضد إيران في الثمانينيات (60 ضابطاً من خبراء وكالة المخابرات الدفاعية الأمريكية) رغم علم واشنطون بأن نظام بغداد استخدم الأسلحة الكيماوية ضد الإيرانيين وضد مواطنيه الأكراد. وهو ما لم يعارضه أولئك الضباط الأمريكيون ولا الإدارة الأمريكية، التي انتقدت التصرف في العلن، لكن نائب ريجان آنذاك - جورج بوش الأب - ومعه كبار موظفي الامن القومي الأمريكي، لم يسحبوا دعمهم للبرنامج السري المقدم لبغداد.
على صعيد آخر، فرغم تعدد التصريحات الأمريكية (والإسرائيلية) التي تحدثت عن إيواء النظام العراقي لبعض عناصر تنظيم القاعدة، او دعمه لمنظمات المقاومة الفلسطينية التي تعتبرها واشنطون "إرهابية"، فان شيئاً من ذلك لم يثبت، وحملت تلك الادعاءات على محمل الضغط والابتزاز الإعلاميين. وهو ما يعني أن كل الأسباب التي أعلنت لتبرير إسقاط النظام العراقي، لا تعبر عن الدوافع الحقيقة التي تدفع الولايات المتحدة إلى التورط في تلك المغامرة.
ما هي تلك الدوافع إذن؟
اذا ما لاحظنا أن الجميع لا يريدون الحرب، باستثناء "صقور" الإدارة الأمريكية وإسرائيل التي ما برحت تلح في استعجال وقوعها، فبوسعنا أن نقول: ان أصحاب المصلحة الحقيقية فيها طرفان هما: حزب الإمبراطورية الأمريكية في البيت الأبيض، والعصبة الشارونية في تل أبيب. الأولون يدعون إلى بسط الهيمنة الأمريكية واختبار فكرة الإمبراطورية في الشرق الأوسط، باعتبار أي دولة هي مصدر "الإرهاب" الذي نال من الهيبة الأمريكية وجرح كبرياءها في 11 سبتمبر، ثم انه منطقة هشة ورخوة يسهل فيها استعراض العضلات والممارسة المجانية لدعاوى التأديب والإصلاح. وهي الفكرة التي يتبناها بقوة فريق الرئيس بوش الذي أطلق عليهم وليم فاف في "لوس انجيليس تايمز" وصف "صقور الحرب"، كما تحمس لها كتاب مرموقون مثل سباستيان مالابي الذي سوقها في مقالة له بصحيفة "واشنطون بوست" كان عنوانها "حانت لحظة استعمارية جديدة". وأيدها ماكس بوت الصحفي الكبير في "وول ستريت جورنال" الذي ألف كتاباً في الموضوع بعنوان "حروب السلام الوحشية". وقام بالتنظير لها رويرس كاجان في المجلة الفصلية "بوليسي ريفيو"، حين كتب مقالاً تحت عنوان "القوة والضعف"، دافع فيها عن سياسة استخدام القوة في العلاقات الدولية، وقال صراحة: ان الظروف وضعت أمريكا في موقع الهيمنة على العالم، وواجبها أن تحافظ عليها بالقوة، لان أي تراجع او تهاون في هذا الصدد، سيمكن الآخرين من أن يصمموا العالم حسب احتياجاتهم.
في الوقت ذاته كتب جيمس جلاند الكاتب الشهير في "الواشنطون بوست" وأحد مناصري اليمين الأمريكي المتطرف في بداية شهر يوليو الماضي داعياً إلى استخدام التفوق العسكري الأمريكي لإعادة ترتيب الأوضاع في الشرق الأوسط بزعم الحيلولة دون تحوله إلى "منبر فوضوي في خدمة الإرهاب الشامل"، وبهدف "مناصرة الديمقراطية في العالم العربي، وحماية بقاء اسرائيل".
الحملة العسكرية - اذا نجحت في إسقاط النظام العراقي - تمثل حلقة في مشروع الهيمنة الإمبراطورية المنشودة. ويرجى منها في الوقت ذاته تحقيق نتائج أخرى، من شأنها مثلاً أن ترفع من شعبية الرئيس بوش والحزب الجمهوري في انتخابات التجديد ا لنصفي للكونجرس في شهر نوفمبر القادم، واغلب الظن أنها ستوفر للرئيس فرصة افضل لتجديد ولايته بعد سنتين، ولا تنسى فرحة الأمريكيين في هذه الحالة بإقامة نظام موال لهم يتحكم في نفط العراق وما أدراك ما هو.
أما العصبة الشارونية فأحسبها تنتظر تلك الفرصة على أحر من الجمر. ذلك أن تدمير القوة العراقية يظل حلماً تمناه القادة الإسرائيليون على الدوام، ثم ان الحملة العسكرية اذا تمت فمن شأنها أن تصرف الانتباه عما يفعله شارون في فلسطين، وتمكنه من أن يوجه إلى الفلسطينيين ضربته القاضية التي تؤدي مثلاً إلى نزوح أعداد كبيرة منهم في عملية طرد (ترانسفير) جديدة، مماثلة لتلك التي حدثت في أعقاب هزيمة عام 67. الأمر الذي يضيف إلى سجله "انتصاراً" يجعل الموقف الفلسطيني اكثر بؤساً وضعفاً، وربما هيأ ظروفاً مواتية لإغلاق الملف والخلاص من "همّء" القضية.
(4)
ذلك فيما خص "الحريق" الذي أشرت إليه في بداية الكلام. أما ما عنيته بالزلزال الذي يمثل سيناريو اخر أبعد، فلعل ما نشرته صحيفة "الواشنطون بوست" في 21/8 الحالي يلقي بعض الضوء عليه. اذ ذكرت أن الولايات المتحدة تعتزم البدء في تنفيذ برنامج يستهدف تدعيم "الإصلاحات" في الشرق الأوسط، على الأصعدة السياسية والاقتصادية والتعليمية. وهذه الإصلاحات المفترضة تتم في سياق فكرة "إعادة التأهيل" وإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، الذي يعد تغيير النظام العراقي واستبداله بنظام آخر "ديمقراطي" (!) إحدى حلقاته الصارخة.
هناك خلفية لافتة للانتباه في هذا الصدد، وهي أن أحد صقور الإدارة الأمريكية الداعين إلى إسقاط النظام العراقي بالقوة المسلحة رجل اسمه ريتشارد بيرل يرأس مجلس السياسة الدفاعية ويشكل مع نائب وزير الدفاع بول وولفوفتز (الاثنان يهوديان) جبهة مؤيدة لسياسة الليكود، تتمتع بنفوذ قوي في الأوساط المحافظة المتطرفة بالولايات المتحدة.
الرجل بيرل هذا اعد في عام 1996م تقريراً أصدره مركز يشرف عليه معهد الدراسات السياسية والاستراتيجية المتقدمة (له فرعان في واشنطون والقدس)، وفيه طرح فكرة تقسيم المنطقة ورسم خريطة جديدة للشرق الأوسط، على غرار ما تم في "سايكس بيكو" عام 1916. وربما كانت مصادفة أن يكون الرجل الذي كتب هذا الكلام قبل ست سنوات، يشكل الآن أحد ركائز الحملة الأمريكية لإسقاط النظام العراقي، ومشروع الإمبراطورية الأمريكية بما يستصحبه من دعوة إلى إعادة رسم خريطة المنطقة، بزعم اجتثاث جذور الإرهاب وتخليص العالم من شروره.
(5)
ثمة موقف عربي رافض في جملته لفكرة ضرب العراق، ولست اشك في أن الرافضين في المنطقة يدركون جيداً أن إسقاط نظام بغداد مجرد حلقة في مسلسل جاري التنفيذ. لكن اللافت للنظر أن التحركات العربية في هذا الشأن ما زالت ثنائية في الأغلب، في حين أن الموقف يتطلب إعلاناً اكثر قوة، بصوت عال لا يسمح بالخطأ او اللبس، من خلال مؤتمر طارئ للقمة مثلاً، يقول لا لتغيير الأنظمة بالقوة الأمريكية المسلحة، ولا لخطط تركيع العرب والفلسطينيين منهم بوجه أخص، ولا لمبدأ إعادة رسم خريطة المنطقة تبعاً للهوى الأمريكي والإسرائيلي.
في الوقت ذاته فان الأمر يقتضي أن يسمع صوت الشارع العربي أيضاً، الذي أزعم أن الموقف يمكن أن يتغير تماماً، لو أن عواصم العرب شهدت مسيرات مليونية عبرت عن مشاعر الرفض والاحتجاج على ما يدبر للمنطقة من نوازل ومكائد.
ادري أن خياراتنا أصبحت بين سيئ وأسوأ، وان آخر ما يتمناه واحد مثلي أن يستمر النظام العراقي بعدما ارتكبه بحق الشعب العراقي من مظالم وجرائم. لكن المرء لا يستطيع أن يخفي أسفه لأن الدعوة إلى إفشال الحملة العسكرية من شأنها إطالة عمر النظام. وما كان لي أن أدعو إلى ذلك الإفشال إلا لعلمي أن نجاح الحملة هو الاحتمال الأسوأ والأتعس، للعراق وللمنطقة بأسرها.
انهم حقاً يعملون بهمة لإنجاز مخططاتهم، لكن تلك المخططات ليست قدراً مكتوباً على الجبين، وإنما بوسعنا أن نجعل الأمر اكثر كلفة واشد استعصاء مما يتصورون. أما اذا سكتنا واكتفينا بمراقبة المشهد ومصمصة الشفاه، وبالتنديد الإعلامي كحد أقصى، فليس لنا أن نلومهم اذا اجترأوا علينا واستباحوا أوطاننا وأعراضنا.