كان النهار يغريني يؤجج الإحباط في همتي .. لم أعد أطيق البقاء في الدار فأنا لم أتعودها إلا حين حلول المساء فقد كنت أقضي زمن اشتعال الضوء خارج حيطان المنزل أسلخ جزءا من النهار بين أشجار الرمان وأعود الى الدار اخطف لقيمات ساعة الظهيرة وانقشع كسحابة صيف قبل اذان العصر مصطحبا عقيفتي التي كانت من قبل مشبكا قاصدا الوادي القريب المفعم بأسرار وصمود الطحالب , فالعصر حصة للسمك والصبح زمن العصافير أتفيأ فرحتي حين أظفر بعصفور أو سمكة وما أندر أن أظفر بهما معا أو حتى بأحدهما.
كانت أمي قد منعتني من مغادرة الدار وألبستني ثوب العيد متذرعة ان خالي قادم إلينا فقد خرج أبي على حد زعمها يلتقيه في طريقه إلينا من قريته البعيدة ذات الحصن العالي الذي كان يخطف خيالي الى زمن الشجعان أصحاب البنادق التي تضرج السباع بدمائها كما كان يحدثني خالي. كانت النار تتلوى في الملة عليها قدر مملوءة لحما , فقد انتصف النهار وحان موعد الغداء وأبي لم يعد بضيفه الذي كان اللحم معدا حفاوة بقدومه , كان وجه أي ممتقعا لا يشي بفرحه من ينتظر قادما عزيزا. جدتي تفترش الجاعد بالقرب من باب الدار تستروح نسمات قد تفر من وجه هذا النهار القائظ .. الملل يستبد بي ,, أتسرب الى حجر جدتي تارة , وألهو ببعض الأشياء , أو خرج إلى باحة المنزل وأعود ألعن خالي الذي أحبه فمنذ الصباح الباكر وأنا انتظره.
لم تستطع جدتي ان تسري عني , وكانت نشوة من البكاء تزغرد في عيني وأنا أرجو أمي ان تأذن لي بقليل من الوقت.
كانت أمي وجدتي تثرثران , وأنا استلقي على أكياس الحنطة المرصوصة بعضها فوق بعض ذلك المكان الذي أحلق فيه بأفكار حين احس بالملل والفراغ .. دعتني جدتي كي تسمعني حكاية تسليني فرفضت صامتا ولم أجبها ., حتى حكايات جدتي التي كان تغرقني في الدهشة لا تستهويني حين سلبت حريتي , إذ كنت حين يأتي المساء أتمدد على الحصيرة جاعلا رأسي على فخذها مانحا بصري للفانوس الذي يرقص الظلمة وأطياف الحكاية التي تسردها.
ـ كنت معهم يا جدة؟
.. تضحك - لا يا حبيب جدك كان معهم.
أحاول تمثل صورة جدي وإقحامها في نسيج الحكاية المدهشة . أسئلة المساء كثيرة حول الحكاية وحول الأشياء التي أصادفها في النهار لكن الوادي يستبد بأكثرها , الماء الجاري إلى حيث لا أدري , السمك الذي لا أعلم هل أمطرته السماء أم نبت في جوف الماء , الجحور العميقة المتعمة وسكانها , وأشياء كثيرة كانت جدتي تفسرها لي .. جدتي ذلك الزخم الهائل من المعرفة بالنسبة لعقلي الطازج المهووس بالأسئلة.
حدثتني جدتي ذات يوم بأعظم أسرار الماء المسافر أبدا قالت إنه يهجر الجريان في تربة .. تربة لغز هائل تقول الجدة إنه مليء بالنخل والماء والطيور.
ـ تربة فيها ناس يا جدة؟
ـ فيها يا حبيبي.
تراءت لي تربة بحيرة هائلة فيها سمك بعدد هائل ونخل يخرج من الماء لينتصب شامخا في.
أخبرت أمي انني جائع بعد أن رأيتها أنزلت القدر من على النار , لكنها قالت: يجب أن يأتي أبوك وخالك وتتغذى معهم , لكن جدتي أسرت لها بكلام فقامت إلى القدر وصبت بعض المرق وضعت فيه قطعة من اللحم المسلوق قدمته لي مع بعض الخبز . أكلت وأنا مرتاب من موقف جدتي . فرغت وعدت أتنسم أكياس الحنطة نظرت الى السقف الخشبي , المسود لكثرة ما يحرق في البيت من حطب للطهي وغيره , كان هناك ذباب قد علق ببيت عنكبوت واخذ يصارع ليتخلص من الخيوط اللاصقة التي كانت تحاضره وكلما اشتدت حركته كثافة الخيوط حوله, طلبت من أمي أن تخمد النار التي تطعمها الحطب بين وقت وآخر , فقد كان الجو خانقا فلم تجبني واكتفت بابتسامة عصبية مريبة. كان أذان العصر يأتي وانيا من طرف القرية , تدليت من على الأكياس بعد أن رأيت عصفورا قرب عتبة الباب المشرع دائما ولكنه فزع .. لأني إنني لن أبقى وسوف أخرج وأقسمت أنني إن خرجت فسوف تسحبني على وجهي واقسمت بدوري أنني سوف أخرج بمجرد وصول خالي فوافقت على هذا. لم تفلح علبة المانجو الزرقاء التي دستها الجدة في حجري في تبديد سأمي فقد كنت أتجول داخل البيت وفي الباحة وقد عبرت عن احتجاجي بمطاردة الكتاكيت.
ظل شجرة اللوز القريبة من الباب استطال حتى صار ضعفها , عدت استلقي على الأكياس , مرت تربة بخاطري كوعد شهي. فقد كنت حين يداخلني السأم أو الخوف أو أي شعور موجع اشرع سفينة الحلم إلى وعد منيت به نفسي: انه تربة بأطيارها ومياهها ونخلها وأسماكها.. سمعت جلبة في الخارج وصوت أمي وهي تعاتب أبي على إبطائه اندفعت بسرعة طائر وحين بلغت الباب كان أبي في وجهي وحملني بشيء من الحنان والعنف.. ألقيت ببصري خلفه ولم أجد سوى رجل مسن أكل البرص أجزاء من وجهة ويديه أما خالي فلم أبصره.. لم أبصر خالي..
استبد بي خوف وحدس بدنو أمر غير آمن ومرت بذاكرتي قرائن عدة تعزز هذا. بالأمس نظروا إلى صدري الذي تقوست بعض عظامه تقوساً ضئيلاً كذلك توتر أمي وإضرامها النار باستمرار رغم حرارة الجو، وحادثة أخرى حدثت لأحد أبناء عمي فقد نظروا إلى صدره وبعدها وضعوا ما يشبه المخرز في نار وألهبوا به بعض النقاط التي حددوها سلفاً بحم أخذ من قعر قدر عتيق. أخذت أرفس بقوة وأبي استبد به الفزع صرخت، سأل أبي إن كانوا أخبروني بشيء فقالوا: لا. قال أبي للرجل: " أسرع الله يعطيك العافية.." وتم الأمر سريعاً تماماً كما حدث لسالم ابن عمي. شمموني ريحان وبعض الطيب ودعا لي الرجل بالشفاء. أداروا فناجين القهوة وسألتهم أمي إن كانوا جياعاً، أما أنا فحملت عقيفتي وخرجت.. كان المساء مقبلاً من قاع الوادي والشمس ودعت الأفق وتركت صبغتها الأبدية الحمراء في بعض سحب السماء الشفافة.. كان الوادي يضج بأصوات الضفادع والجداجد كعادته في مثل هذا الوقت. هممت بالنزول إليه لكن الخوف منعني. عدت بصدري الملتهب.تملأني تربة وجداً وحنيناً ملأت رأسي حتى لم أعد أرى سواها..عدت أخذتني الجدة في حضنها وطوقتني بذراعيها.. تحركت الدموع حيية في عيني ووضعت غشاوة شفيفة على بصري, كانت الجدة تحكي ولم أعد أسمع إلا همهمة، والفانوس كان مشتعلاً، لكنه لم يعد يرسم الظلال المحببة سألت جدتي أثناء حكايتها عن حمارتنا إن كانت تستطيع الوصول إلى تربة.. لم تجب.. وكنت أنا وحدي.. وحدي وهم يتحدثون.