أخبار متعلقة
تداول المثقفون - مؤخراً - الورقةَ التي أعدّها مركزُ القيم بالولايات المتحـدة الأمريكيـة، ووقّع عليها ستون مفكراً أمريكياً وجعلوا عنوانها (على أي أساس نقاتل)، وكانت تتمحور حـول قضايـا عدة، من أهمها: وصف أخلاقيات الحرب الأمريكية ضد ما يسمى الإرهاب، ودعوة المسلمين للوقوف معهم، وتبني القيم الأمريكية، وحرب ما وصفوه بالتطرف الإسلامي. ونحن نرحب بالحوار والمراجعة فالحوار - من حيث المبدأ - خطوة نبيلة لإعادة طرح الأسس الأخلاقية، والتداول حولها؛ من أجل إقامة علاقات أكثر عدلاً وإنصافاً بين الأمم والشعوب، ومن هذا المنطلق نقدم - نحن الموقعين - هذه الورقة من أرض الحرمين ومهد الإسلام (المملكة العربية السعودية) وجهة نظر بديلة، متطلعين لتأسيس أجواء تفاهم مشترك تتبناها الحكومات والمؤسسات:
أولاً : الحوار
ثانياً: قيم نؤمن بها وأسس نهتدي بها.
ثالثاً: أحداث سبتمبر وتداعياته.
رابعاً: أمريكا والموقف منها.
خامساً: الإسلام والعلمانية.
سادساً: الحرب العادلة والإرهاب.
أولاً : الحوار
لدينا قناعة راسخة بأن على أهل العلم والفكر أن يتمتعوا برؤية بعيدة وعميقة , لا تسمح لهم بالجري وراء خيارات يصنعها أفراد، أو دوائر واقعة تحت ضغط واقع لا يراعي الأخلاق ولا الحقوق، وقد تقود المجتمعات إلى دوامة القلق والحرمان والصراع اللاإنساني. إن لغة الحوار هي لغة القوة، ومن الخطأ أن نجعل القوة هي لغة الحوار لأن من شأن ذلك أن يسمح لقوى الصراع أن تمارس دوراً معقداً في المستقبل.
وفي مثل هذا المفصل المهم من التاريخ فإننا ندعو المفكرين الأحرار إلى حوار جاد يحقق الفهم الأفضل للفريقين، وينأى بشعوبنا عن دائرة التطاحن والصراع، ويمهّد لمستقبل أفضل لأجيالنا التي تنتظر منا الكثير.
يفترض أن ندعو جميعاً لمشروع حوار نقدمه لعالمنا تحت مظلة العدل والأخلاق والحقوق، مبشرين العالم بمشروع يصنع الخير والأمن له. وبقدر ما إن الحوار ضروري ومؤثر فإن الاحترام والوضوح والصراحة والموضوعية من ضروريات نجاحه، فالحوار إنما يتأسس على الاحترام والوضوح والمصارحة وأن يكون لدى أطرافه القابلية للنقد والمراجعة والبعد عن التشنج. ولذا نقول وبكل صراحة ووضوح إن كل قضية يطرحها الغرب فلدينا القدرة على فتح حوار ناضج حولها، مدركين أن مجموعة من المفاهيم في الأخلاق والحقوق والقضايا المعرفية هي قاسم مشترك مع الغرب ومؤهلة للتطوير الذي يصنع الأفضل لنا جميعاً. وهذا يعني أننا نملك أهدافاً مشتركة، إلا أننا ننفرد كما تنفردون بأولويات مختلفة هي من مرتكزات السيادة وأولوياتنا الحضارية.
ثانياً: قيم نؤمن بها وأسس نهتدي بها
ثمَّة مجموعة من المبادئ والأخلاقيات الأساسية التي تحكم علاقاتنا مع الأمم الأخرى، ولقد أرساها رسول الإسلام محمد - صلى الله عليه وسلم - قبل أربعة عشر قرناً قبل أن توجد منظمات حقوق الإنسان أو هيئة الأمم المتحدة ومواثيقها الدولية، منها:
(1) الإنسان من حيث هو كينونته مخلوق مكرم ، فلا يجوز أن يعتدى عليه مهما كان لونه أو عرقه أو دينه، قال الله تعالى: (وَلَقَدء كَرَّمءنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء:70).
(2) تحريم قتل النفس الإنسانية بغير حق. وقتل نفس واحدة ظلماً عند الله كقتل الناس جميعاً، وحماية نفس واحدة من القتل كإحياء الناس جميعاً، وجاء في القرآن " ( أَنَّهُ مَنء قَتَلَ نَفءساً بِغَيءرِ نَفءسٍ أَوء فَسَادٍ فِي الءأَرءضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنء أَحءيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحءيَا النَّاسَ جَمِيعاً) (المائدة:32)."
(3) لا يجوز إكراه أحد في دينه، قال الله تعالى: (لا إِكءرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة:256)، بل إن الإسلام نفسه لا يصح مع الإكراه.
(4) إقامة العلاقات الإنسانية على الأخلاق الكريمة أساس في رسالة الإسلام، وهكذا كل أنبياء الله، يقول النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - : " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق "ويقول الله تعالى : (لَقَدء أَرءسَلءنَا رُسُلَنَا بِالءبَيِّنَاتِ وَأَنءزَلءنَا مَعَهُمُ الءكِتَابَ وَالءمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالءقِسءطِ وَأَنءزَلءنَا الءحَدِيدَ فِيهِ بَأءسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) (الحديد: 25)، ولهذا فإن أساس العلاقات بين المسلمين وغيرهم في الأصل هو العدل والإحسان والبر ، وهذا من القسط الذي يحبه الله وأمرنا به، قال الله تعالى : (لا يَنءهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمء يُقَاتِلُوكُمء فِي الدِّينِ وَلَمء يُخءرِجُوكُمء مِنء دِيَارِكُمء أَنء تَبَرُّوهُمء وَتُقءسِطُوا إِلَيءهِمء إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الءمُقءسِطِينَ. إنّمَا يَنءهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمء في الدِّينِ وَأَخءرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمء وَظَاهَرُواء عَلَى إِخءراجِكُمء أَن تَوَلَّوءهُمء وَمَن يَتَوَلَّهُمء فَأُوءلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة:8).
(5) كل مافي الأرض من خيرات ظاهرة وباطنة إنما خلقت من أجل الإنسان : (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) وهي إنما خلقت له ليكون استثماره لها في حدود الحق والعدل والإصلاح. وعليه فإن الإفساد في الأرض :كالعدوان على الغير من الشعوب المستضعفة ومنازعتها في ثرواتها وخيراتها الخاصة التي تملكها أو تلويث البيئة، من الفساد الذي لا يحبه الله، قال الله تعالى في كتابه : (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الءأَرءضِ لِيُفءسِدَ فِيهَا وَيُهءلِكَ الءحَرءثَ وَالنَّسءلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الءفَسَادَ) (البقرة: 205) ، وقال : "ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها"(الأعراف :56 ).
(6) المسؤولية في الجنايات الخاصة فردية، فلا أحد يؤخذ بجريرة غيره، قال الله تعـالى: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزءرَ أُخءرَى) (فاطر: الآية 18).
(7) العدل بين الناس حق لهم والظلم محرم فيما بينهم مهما كانت أديانهم أو ألوانهم أو قومياتهم ، قال الله تعالى: "وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى "(الأنعام :152).
(8) الحوار والدعوة بالحسنى (ادءعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالءحِكءمَةِ وَالءمَوءعِظَةِ الءحَسَنَةِ وجادلهم بالتي هي أحسن) (النحل:125) هذه الأسس هي ما نؤمن به، وأمرنا به ديننا، وتعلمناه من نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهي تتفق - بقدر مشترك - مع بعض الأسس التي أوردها المثقفون الأمريكيون في بيانهم، ونرى أن هذا الاتفاق يشكل أرضية جيدة للحوار لما فيه خير البشرية.
ثالثاً: أحداث سبتمبر وتداعياتها
ليس من العقلانية في شيء أن تتحول أحداث الحادي عشر من سبتمبر إلى سلطة لممارسة التصنيف للمفاهيم والحضارات والتجمعات القائمة ، إن كثيرين في العالم الإسلامي وغيره لم تكن هذه الهجمات في سبتمبر محل ترحيب وحفاوة عندهم، لجملة من الأسباب القيمية والمبدئية والمصلحية والأخلاقية التي تعلمناها من الإسلام.
لكننا في الوقت نفسه نستغرب هذا الاستنتاج السريع حول دوافع المنفذين، واختزال ذلك في محاربة المجتمع الأمريكي وقيمه البشرية العالمية. فبدون الدخول في تفاصيل ذلك والجدل حوله نرى أن من حقنا ومن حق كل محايد منصف بل من حق كل أمريكي أن يتساءل لماذا لم يختر المنفذون بلداً آخر غير الولايات المتحدة ممن يتبنى نفس القيم الغربية؟ بل لماذا لم يتوجه هؤلاء إلى دول ومجتمعات أخرى تدين بالوثنية في آسيا وأفريقيا هي أولى بالحرب لو كان دافعهم هو محاربة من يختلف معهم في القيم؟. وتعاليم الإسلام تصف النصارى بأنهم أقرب للمسلمين من غيرهم، والتاريخ يذكر أن نبي الإسلام محمد - صلى الله عليه وسلم - أرسل مجموعة من أصحابه في سنوات الإسلام الأولى إلى أحد الملوك المسيحيين في الحبشة ؛ لأنه يتميز برعاية الحقوق الخاصة، وأن النبي محمداً -صلى الله عليه وسلم- كتب كتاباً لملك المسيحيين الرومان، ولملك المسيحيين الأقباط ولقي الكتابان حفاوة بالغة. وقد أخبر القرآن الكريم بأن المسيحيين هم الأفضل في أخلاقيات التعامل من بين كل المجموعات الدينية المخالفة للإسلام في قوله :(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الءيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشءرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقءرَبَهُمء مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى..) (المائـدة: من الآيـة82)
لماذا نفترض تجاهل هذا التاريخ، ونتسامح في قراءة سطحية مبتسرة للأحداث ؟! ليس هذا فحسب، بل إن النظم والتشريعات التي جاء بها الإسلام تؤسس لحياة مستقرة للمؤمنين به وغير المؤمنين، بل إن القرآن الكريم وصف النبي -صلى الله عليه وسلم - بأنه رحمةٌ للعالمين، أي : للبشرية كافة. لكن حينما يفضل طرف أن يصنع الصراع مع المسلمين, أو يتجاهل حقوقهم ؛ فإن الإسلام يقابل ذلك بالمقاومة والمدافعة التي هي أحد مقاصد الجهاد، ومن الضروري أن يدرك الغرب أن محاصرة الخيارات الخاصة والطموح المعتدل في العالم الإسلامي وصناعة الصراع سيرسّم الكثير من المفاهيم التي يصعب تجاوزها في المستقبل، وسيخلق مشكلة للأجيال القادمة في العالم كله.
"وليس من العقلانية أن نفترض أن الذين هاجموا الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر لا يشعرون بنوع من المبررات الذاتية صنعتها فيهم ودفعتهم إليها القرارات الأمريكية في مناطق عالمية متعددة، وإن كنا لا نرى واقعية هذه المبررات لضرب الأمن المدني ؛ لكنه استقراءٌ لنوع من العلاقة السببية بين الأحداث والسياسات الأمريكية".
ومن جانب آخر لو افترضنا أن منفذي أحداث الحادي عشر من سبتمبر ضد الولايات المتحدة هم مجموعةٌ خاصةٌ داخل أوروبا أو الصين أو اليابان، أو حتى مجموعة دينية من اليهود، فهل كان القرار الأمريكي سيضع لهم ولشعوبهم مواجهة بهذا الشكل القائم اليوم، كما يضعها للمسلمين!!، وهذا كله يزيد من حجج المنفذين المفترضين’ والمتعاطفين معهم بظلم أمريكا للعالم الإسلامي وتعديها عليه. إن المفترض أن يكون هذا الحدث سبيلاً إلى تأسيس مؤسسات جديدة بين الدول والشعوب لإقامة العدل وإحقاق الحق. لتكون بديلاً لمؤسسات نشأت بعد الحربين العالميتين كهيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن لنزع فتيل الحرب بين الدول المستبدة التي فشلت في تحقيق العدل والأمن للشعوب المستضعفة ولم تحم دولها لئلا تكون مسرحاً يتمدد فيه نفوذ الدول العظمى، وكم شقيت تلك الشعوب وذهبت خيراتها نهباً لتلك الدول المستبدة.
كما يجب أن يلفت الحدث أنظارنا إلى أن الإفراط في القوة مهما تعددت صورها ليس سبباً كافياً للحماية، وأن الفئة القليلة تستطيع إلحاق الأذى والأضرار الضخمة بخصمها البالغ القوة إذا أرادت ذلك. وقد تعلمنا من التاريخ أن الضمانات لتحقيق الأمن لا تفرض بالقوة فقط، لأن الضمانات التي تفرض بالقوة تحمل معها بذور الفشل والانهيار، وتكون مصحوبة بالسخط والتذمر من طرف، والغطرسة والكبر من طرف آخر. أما حينما تكون الضمانات مبنية على العدل فإن فرص نجاحها تكون أكبر. إذا كان الأمريكان يرون أن أحداث سبتمبر - التي لا يمكن تجاهلها- تشكّل بالنسبة لهم منعطفاً لتحديد العلاقة بينهم وبين المسلمين بعامة ولا يريدون أن ينسبوها للفئة التي قامت بها، فهل نلام حين نرى أن قيام الدولة اليهودية على أرض فلسطين وهيمنتها بدعم من الدول الكبرى على مقدرات المنطقة كان ولا يزال عاملاً أساسياً في تحديد علاقتنا بالعالم الغربي وقيمه ومؤسساته، ورسم مواقفنا تجاهه.
رابعاً: أمريكا والموقف منها
إن من المدركات لدينا اليوم أن التجمعات الشرقية في اليابان والصين تبدو أكثر تباعداً في المفاهيم مع العالم الإسلامي مما عليه الناس في الغرب، وثمة جسور تواصل مع الغرب أكثر مما هي مع تلك المجتمعات الشرقية، وعلاقات متبادلة ومصالح مشتركة، ويفترض أن الغرب يدرك أن من الأفضل لـه حدوث التوازن والاستقرار في العالم الإسلامي، وأن يحفظ أن الأرض الإسلامية قدمت لـه الكثير لاسيما في مجال التكوين الاقتصادي الغربي، فالغرب هو المستفيد الأول من القوى الاقتصادية الإسلامية. ومع هذا فإن كل فرد في العالم الإسلامي يدرك أن الصين واليابان لم تصنع للمسلمين مشكلة صراع واضحة، ولم تمارس إساءة لقضاياه ودوله ومجتمعاته بشكل مفتوح، وفي مدركات المسلم العادي أن الشرقيين أكثر إنصافاً واعتدالاً وهدوءاً من الغربيين ،هذا الشعور يصنعه الغرب نفسه في داخل الفرد في المجتمع الإسلامي.
إن الولايات المتحدة لو اعتمدت العزلة عن العالم داخل حدودها ورفعت يدها عن القضايا المشتعلة فليس يعني المسلمين أن تكون دولة متقدمة أو ديمقراطية أو علمانية. و الخلاف بيننا وبين المجتمع الأمريكي ليس في قيم العدل، أو خيار الحريات ذلك أن القيم عندنا قسمان: قيم إنسانية عامة متفقة مع الفطرة وديننا يدعو إليها، وقيم خاصة بشعب معين آثرها واختارها فنحن لا نكرهه على تركها، ذلك أن ديننا علمنا أن لا إكراه في الدين،فضلاً عن كون مجموعة منها خيارات اجتماعية في الأصل ترتبط بالبيئة القائمة كما أننا لا نقبل أن يفرض أحد علينا تغيير قيمنا أو يصدنا عنها.
ونرى أن من حقنا -كما هو من حق أي شعب- أن نوضح حقيقة ما نؤمن به من قيم للغير من الشعوب من أجل تحقيق فهم أكثر بين شعوب الأرض، تحقيقاً للسلام العالمي، وخلق فرص استفادة للباحثين عن الحقيقة والخير.
والولايات المتحدة الأمريكية وإن كان لها جهود في تأسيس منظمة الأمم المتحدة، وفي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومؤسسات أخرى شبيهة، فهي من أكثر الدول مخالفة لغايات هذه المؤسسات ولقيم العدل والحق، ويظهر ذلك بجلاء في موقف أمريكا من القضية الفلسطينية ووقوفها الدائم مع الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين وقيامها بتبرير كافة الممارسات الصهيونية المخالفة لقرارات الأمم المتحدة ودعمها بأحدث الأسلحة التي تستخدم في قتل الأطفال والنساء والشيوخ وتهديم المنازل في الوقت الذي نرى فيه الإدارة الأمريكية تجيش الجيوش وتقود المعارك ضد دول أخرى كالعراق، بدعوى انتهاكها لحقوق الإنسان وسياساتها العدوانية ضد جيرانها.
إن بعض القيم الإنسانية التي ذكرها المثقفون الأمريكان ليست قيماً أمريكية بحتة بل إنها متعددة المصادر تشترك فيها حضارات متنوعة ومن بينها الحضارة الإسلامية. والمسلمون وكثير غيرهم في سائر أنحاء العالم لم يروا تلك القيم فقد حجبتها ممارسات الإدارة الأمريكية والصورة المثالية للتعاون لن تتحقق إذا ظل أهل الحضارة الأمريكية على خوف دائم من أن تضعف أو تزول سيطرتهم، وعلى حرص دائم بأن لا يتطور غيرهم خصوصا ما يسمونه دول العالم الثالث.
خامساً: الإسلام والعلمانية
ركز موقعو الورقة الأمريكية على ضرورة فصل الدين عن الدولة، ورأوا في ذلك قيمة عالمية ينبغي على جميع شعوب الأرض قبولها، ونحن المسلمين ننظر إلى إشكالية العلاقة بين الدين والدولة نظرة أخرى تختلف عن هذا التصور، وتصورنا يحمي إرادة الأكثرية، ويحفظ حقوقها، ويحمي كذلك حقوق الأقلية. إن الدين الإسلامي دين شامل له أحكام تفصيلية في كافة مناحي الحياة، ويصعب أن تتكون دولة جادة ومحترمة لشعبها في البيئة الإسلامية دون أن تتبنى أحكام هذا الدين العامة. وتبني الدولة للدين الإسلامي ليس معناه التدخل في خصوصيات الأقليات وإجبارها على التخلي عن دينها وإكراهها على الدخول في الإسلام فقد استقر في وعي المسلم وعُلِمَ من صريح آيات القرآن أن لا إكراه في الدين. وما دعا إليه المثقفون الأمريكيون في بيانهم من ضرورة فصل الدين عن الدولة يمثل قصوراً في فهم الدين كمكون أساس للثقافة في المجتمعات الإسلامية و نرى أنه لا يمكن تطبيقه في المجتمع المسلم لأنه يحرم أفراده من حقهم في تطبيق أحكام حياتهم العامة ويتعدّى على إرادتهم بحجة حماية الأقلية ولا يصح عقلاً أن نحمي حقوق الأقلية بحرمان الأكثرية من حقوقها. ونرى أن الذي يعني الأقلية هو حماية حقوقها وليس التعدي على حقوق الأكثرية حيث ان التعدي على حقوق الأكثرية لا يستقيم معه السلم الاجتماعي، وحقوق الأقلية في المجتمع المسلم مصانة.
إننا نؤمن أن الإسلام هو الحق ، ولكن من غير الممكن أن يكون العـالم كله مسلماً؛ إذ ليس بمقدورنا جعله كذلك، وليس من شريعتنا أن نلزم الآخرين بمفاهيمنا الخاصة، هذا هو خيارنا الشرعي. لكن الشيء الذي يجب أن نقوم به هو شرح رسالة الإسلام التي هي هداية ورحمة للبشرية كلها، وإن كنا لا نغفل عن ضرورات الواقع البشري والحاجة لمدافعة العوائق التي تحول بين الناس وبين تفهم هذه الرسالة ثم تبنيها بمحض إرادتهم دون إلزام.
إن المسلمين من حقهم أن يكونوا متمسكين بدينهم وقيمه وتعليماته، هذا خيار من الصعب محاولة تعويقه ؛ لكننا نقدم المفهوم الوسطي المعتدل، ونسعى لإشاعته، وسيجد العالم الغربي فيه فرقاً كبيراً عن المفاهيم والتصورات التي يحملها عن الإسلام، هذا إذا كان جاداً في الاعتراف بنا وبديننا ومقدراتنا، أو - على أقل تقدير - في القراءة المنصفة لحقيقة ديننا ومعرفة قيمنا.
إن الإسلام ليس عدواً للحضارة؛ لكنه يرفض الاستخدام السلبي لها. والإسلام ليس عدواً لحقوق الإنسان أو الحريات، ولكن الإسلام يرفض تحويل الحرية والحقوق إلى أداة للصراع، كما يرفض اعتماد رؤية ثقافية محددة على أنها القانون العالمي الذي يجب تعميمه بالإكراه. بل إن الإصرار في فرض هذه الرؤية ولو كانت تصور على أنها تسامحٌ دينيٌ، لا يقل تطرفاً عما تقع فيه المجموعات المتشددة دينياً. ومصادرة حق الآخرين في الاختيار تعني بالضرورة اختيار الصراع، وهذا هو المحرك الذي يستفز قوى المقاومة، ويجب أن يدرك الغرب أن إلحاق الأذى قد لا يتطلب الكثير، وأن صناعة الدمار هي أقل الصناعات تقنية في العالم، ويمكن أن يمارس بطرائق غير قابلة للمحاصرة،لكن ذلك سيولد له ألواناً من التطرف متزايدة داخل كل المجموعات الحضارية، بما فيها المتبنية لفصل الدين عن الدولة، بل ربما تكون الأكثر احترافاً لهذا التطرف.
سادساً: الحرب العادلة والإرهاب
إن الغرب يتحدث كثيراً عن مشكلة الإرهاب والتطرف، ومن وجهة نظرنا فإن هذه مشكلة جادة في العالم، ويفترض أن تكون هنالك مشاريع متعددة لمعالجتها, لكننا نود التأكيد على الحقائق التالية، التي يبدو لنا أنها عقلانية قبل كل شيء:
الحقيقة الأولى: أن التطرف ليس خاصاً بالمفهوم الديني , بل ثمة أشكال من التطرف السياسي والاقتصادي والإعلامي يفترض أن تحظى بنفس الاهتمام لأنها تمارس مصادرة لمبادئ الأخلاق وأنظمة الحقوق في العالم.
وأيضاً فإن التطرف الديني ليس مرتبطا بديانة معينة وإن كنا نعترف بأشكال متطرفة مرتبطة ببعض المسلمين كغيرهم؛ لكننا على وعي أن كل التجمعات الدينية في العالم يوجد فيها أشكال متطرفة، وقرّاء الفكر والديانات والثقافات يَعُوءن هذه الحقيقة. إنه ليس من العقل ولا العدل الإلحاح غير العقلاني على قضية التطرف الإسلامي وصناعة مشروع الاستفزاز لـه دون المعالجة الحقوقية لكل أشكال التطرف في العالم الديني وغير الديني.
الحقيقة الثانية : حين نؤمن أن العالم يواجه مشكلة الإرهاب والتطرف بالمفهوم الشامل الذي ذكرناه, فكذلك ينبغي أن نقدر أن ثمة مجموعة من المشاكل يواجهها العالم في: الحقوق، والحريات، والأوليات الإنسانية (التعليمية، والصحية، والغذائية، والأخلاقية) يفترض أن تحظى باهتمامنا.
إننا على إدراك أن كثيراً من التجمعات الإسلامية المتشددة -كما توصف - لم تُرِدء أن تكون كذلك في أولى خطواتها ؛ لكنها وضعت في هذه الدائرة تحت سلطة سياسية، أو عسكرية، أو إعلامية تلاحقها وتحاصر قنواتها في التعبير السلمي،و تمتلك إلغاء فرص الاعتدال، وضرب نظام الحقوق، وهذا هو الدافع الأكبر للتشدد في التجمعات والحركات الإسلامية. ونحن على إدراك أن هذا التشكيل يقع اليوم تحت رعاية المشروع الغربي نفسه باسم ((مكافحة الإرهاب)).
إن الاستقرار أساس الحقوق والحرية في العالم؛ وحين نحرم الناس من الاستقرار ونفرض عليهم أن يعيشوا في دوامة من القلق والقهر والضيم فإنهم قد يتصرفون بطريقة غير أخلاقية، والواقع المرّ هو الذي يصنع القرارات، بل هو الذي يصنع الفكرة أحياناً. وحين ينتظر الناس طويلاً قبل أن ينالوا شيئاً من حقوقهم فمن المرجح أنهم سيتصرفون في فترة الانتظار بطريقة يصعب التنبّؤ بها أو تقدير عواقبها.
إننا ندعو إلى انفتاح جاد من الغرب على الإسلام، وقراءة مشاريعه، والتعامل بهدوء مع الواقع الإسلامي، وأن يُجري الغرب مراجعة جادة في الموقف من الإسلام، وندعوه كذلك إلى فتح قنوات حوار بين النخب المثقفة الممثلة لتيار الإسلام العريض وبين المفكرين وصناع القرار في الغرب.
من المهم أن يدرك الغرب أن غالبية الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي وغيره تمتلك قدراً ذاتياً من الاعتدال، من المهم المحافظة عليه، وفرض نظام الحقوق لهذه المجموعات العاملة بهدوء، وعدم صناعة الاستفزاز أو السماح به من أي طرف وتحت أي مبرر ؛ حتى يمكن مراجعة التصرفات بعقلانية وأمانة. إننا معنيون بالحملة على الإرهاب سواءً أتى من مسلمين أو غير مسلمين لكن ما دام الأمر مستنداً إلى قيم وأخلاقيات فلماذا لم يُذكر المتطرفون الآخرون؟ ولماذا لم يذكر الفلسطينيون الذي يتعرضون وبخاصة هذه الأيام لأبشع أنواع الإرهاب من هدم المدن والمخيمات والقتل الجماعي والحصار الخانق للمدنيين الأبرياء ، وكل ذلك لا يمارسه ضدهم أفراد أو منظمة سرية بل دولة عضو في الأمم المتحدة، هي دولة إسرائيل.
وإذا كان الهدف استئصال الإرهاب من جذوره فإن الوسيلة الملائمة ليس الحرب الشاملة بل السلام العادل وهذا ما يبحث عنه العالم في فلسطين وغير فلسطين. إن الإرهاب بالمعنى الاصطلاحي الشائع اليوم إنما هو صورة واحدة من صور الاعتداء الظالم على الأنفس والممتلكات، وإنه لمن العمى الأخلاقي أن يركز على صورة واحدة من صور الاعتداء الظالم ويغض الطرف عن صورها الأخرى حتى لو كانت أكثر بشاعة وأكثر إزهاقا للنفوس وإفسادا في الأرض، بطريقة انتقائيةٍ ، ذات معيار مزدوج.
الحقيقة الثالثة: إن افتعال الصراع لا يصنع الأفضل بالضرورة لأي من الطرفين المتصارعين، والذين يمثلون الصراع ليسوا دائماً هم الأفضل لتمثيل هذا التجمع أو ذاك.
ولا شيء يبعد شبح الصدام كما يفعله العدل ورعاية الحقوق والالتزام بالقيم والأخلاق حتى في الحروب إذا اضطررنا إليها. إن إدارة الصراع في التجمعات الغربية تنطلق من رعاية المصالح القومية إن لم نقل الفئوية والمحافظة عليها ولو على حساب حقوق الآخرين، والحق أن هذه السياسة هي التي تصنع التهديدات الخطيرة للأمن المدني ليس للغرب فحسب، بل للعالم كله، فضلاً عن كونها تصنع الأوضاع المأساوية اللاإنسانية. ورجال إدارة الصراع في العالم إنما يستعدون الجماهير ضدهم بقراراتهم وسياساتهم، ويجب أن نقوم في دائرة العلم والفكر بمراقبة هذه التصرفات، والمحافظة على مجتمعاتنا المدنية وحقوقها وأمنها المدني. ويجب أن ندرك أن سيطرة إدارة الصراع في العالم ستقود لصناعة الأسوأ للواقع وللأجيال القادمة التي ستواجه آثار حساباتنا الخاصة. نعم ! علينا أن نتفاءل، لكن علينا - أيضاً - أن نكون واضحين في مراقبة التصرفات وإدراك آثارها.
لقد بات الأمن المدني مهدداً في العالم في ظل التسابق للصراع ورسم مشاريعه.
ودورنا أن نتجاوز الشعارات وندرك أن إدارة الصراع في الغرب وفي الولايات المتحدة بالدرجة الأولى تمارس تقويضاً للأمن المدني في العالم باسم مكافحة الإرهاب، وأعداد الضحايا المدنيين في أفغانستان جراء القصف الأمريكي تتزايد وذلك - في الواقع - أشبه ما يكون بتوفير الأجواء وإعطاء المبررات الجديدة لمزيد من المصادمات هنا وهناك، ولئن كان الغرب يعتبر أحداث الحادي عشر من سبتمبر تتجه لزعزعة الأمن المدني في الغرب فمن الممكن أن نشاركه الشعور وحتى الموقف في رفض ضرب الأمن المدني في العالم، لكن من المهم أن يدرك الغرب أن الأمن المدني في العالم الإسلامي لم يشهد استقراراً من عقود كثيرة، وكثير من التعويق للأمن المدني كان تحت مظلة الغرب , وربما ممارساته المباشرة. آنَ أنء يدرك الغرب أن استخدام دائرة القوة العسكرية أو الإعلامية لا يعطي ضماناً صادقاً للمستقبل، فكثيراً ما تتجه الأمور بأشكال مفاجئة وغير خاضعة لقانون الحسابات، وكأن أحداث الحادي عشر من سبتمبر تختصر مسافات واسعة في هذه المعادلة.
ولذا فإن إيجاد مساحة أوسع للحوار، وتبادل الرأي يلتقي فيها أهل الفكر والعلم والثقافة هي - من وجهة نظرنا - البديل للغة العنف والتدمير، وهذا هو دافعنا لكتابة هذه الورقة وإدارة هذا الحوار.