اعتدلت صديقتي: عين الزمان في جلستها ونحن نطل بأعناق بؤسنا التاريخي على احدى الفضائيات الممهورة بطابع الغرب وقالت بدهشة وكأنها اكتشفت سرا خطيرا من اسرار الجبابرة هل تذكرين مثلا من تراثنا الشعبي يتردد على ألسنة كبار السن، كلما جاء ذكر البصرة يقول المثل: (اللي مايشوف البصرة، يموت حسرة) قلت نعم اذكره جيدا، ولكن كان هذا في زمن كانت الجزيرة العربية تعاني من نقص حاد في الموارد المائية، وهذا النقص ألبسها ثياب الجفاف في اغلب المناطق، ماعدا بعض الواحات، مما جعل اهلها يشتاقون للوصول لواحات الجمال الطبيعي للتمتع بعطاء الله.
وكانت البصرة من اقرب الاماكن لهم جغرافيا، وهذا من اسباب نزوح بعض الأسر اليها من قلب الجزيرة العربية مثل بعض اسر منطقة القصيم الذين سكنوا الزبير في زمن مضى، وما ذلك الا بحثا عن الطبيعة المرفهة.. قالت عين الزمان: ولكن الحال تغير الان ياصديقتي بعد هذا الغزو المرعب الذي اصابها فاصبحنا نقول المثل عكس ما اطلق عليه فمن يرى البصرة يموت حسرة الان لما اصابها من التخريب والدمار، ونقص في المياه والاغذية.. قلت: لا تأس ياصديقتي فلعل في الامر ما لا نعلم وما لا يخفى على الله بؤسه وماهو اعظم مما هو ظاهر للمشاهد قال الله تعالى: (واذا قال ربك للملائكة اني جاعل في الارض خليفة قالوا اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال اني اعلم مالا تعلمون).
وقد خربت ودمرت البصرة على مر الازمنة مرات عديدة قبل ماترين من دمار على شاشات الفضائيات التي لا تظهر للمشاهد الا مايسمح لها باظهاره من قبل الغزاة وما خفي من البؤس والعذاب والدمار كان أعظم، كان آخر ما تعرضت له من دمار، على اثر معركة بين الصفويين والعثمانيين وكان الخراب في عام 1669م وهذا الدمار الجاري الان ربما لن يكون الاخير ولكنها بعون من الله يعاد بناؤها افضل مما كانت من قبل.. وفي مطلع هذا القرن والذي اطلق عليها اثناءه المثل بلغت اوج ازدهارها حيث كانت البصر تمتد على ضفاف نهر العشار الذي يصب في شط العرب، وقد سمي هذا النهر بميناء فينيس العربية لجمال المباني المطلة عليه وقتئذ.. وقد تعرض سكان المدينة الى عدة اوبئة اثرت على نموها السكاني الا ان الازدهار الاقتصادي في مطلع هذا القرن زاد في عدد سكانها بسبب الهجرات المتوالية من القرى والمدن المجاورة.. غير اني ياصديقتي اشاركك الحيرة بسبب الدمار الثقافي الذي اصاب المنطقة ولست اجد سببا منطقيا له الا الرغبة في اعادة تشكيل الهوية الثقافية للمنطقة كما يريد المستعمر، ولابد قبل اعادة الكتابة، من المحو والطمس للثقافة الخاصة قبل العامة، ولكنهم لن يستطيعوا الى ذلك سبيلا.