الاسلوبية علم يدرس اللغة ضمن نظام الخطاب, ولكنها ـ ايضا ـ علم يدرس الخطاب , موزعا على مبدأ هوية الأجناس. ولذا كان موضوع هذا العلم متعدد المستويات, مختلف المشارب والاهتمامات , متنوع الاهداف والاتجاهات وما دامت اللغة ليست حكرا على ميدان إيصالي دون آخر, فان موضوع علم الاسلوبية ليس حكرا - هو أيضا ـ على ميدان تعبيري دون آخر.
ولكن يبقى صحيحا , أن الاسلوبية علم يرقى بموضوعه , او هو يعلو عليه لكي يحيله الى درس علمي , ولولا ذلك لما حازت الاسلوبية على هذه الصفة ولما تعددت مدارسها ومذاهبها.
كما يبقى صحيحا أيضا , أن الاسلوبية هي صلة اللسانيات بالأدب ونقده , وبها تنتقل من دراسة الجملة ـ لغة ـ الى دراسة اللغة ـ نصا فخطابا فأجناسا , ولذا كانت الاسلوبية (جسر اللسانيات الى تاريخ الأدب ) كما عبر (سبيتزر) عن ذلك.
ولقد عرف التراث العربي الظاهرة الاسلوبية , فدرسها ضمن الدرس البلاغي ولو تأمل المتأمل , لتأكد له أن الدرس البلاغي العربي إنما كان درسا أسلوبيا على وجه الإجمال ,وماكان ذلك ليكون إلا لأن الدرس اللغوي واللسانيات كان سابقا على الدرس البلاغي في التراث العربي وهذه نقطة خلاف وتميز مع / ومن التراث اليوناني الذي كان الدرس البلاغي فيه سابقا على الدرس اللغوي , ويكفي لكي نستدل على ذلك ان ننظر في معظم التعريفات البلاغية عند العرب مقارنة بتعريف البلاغة في الحضارة اليونانية ووليدتها الغربية, وبهذه المقارنة سنجد ان مصطلح البلاغة في التراث العربي انما كان يستعمل, بمعناه اللغوي, أي الفصاحة والابانة , ويضاف الى ذلك ان استخدام هذا المصطح في الممارسة التحليلية كان يدل على معالجة للظواهر الأسلوبية ضمن نظام الخطاب.
وبالطبع , فإننا نتكلم هنا عن الممارسات التحليلية التي قام بها العلماء المتقدمون مثل أبي عبيدة, وابن قتيبة , والباقلاني وغيرهم.
وندع جانبا بعض ممارسات المعتزلة والمتأخرين الذين تأثروا بالثقافة اليونانية , فلسفة وبلاغة ونقلوا عنها , كما يمكن ان يدل على ذلك تعريف ابن المقفع وخالد بن صفوان للبلاغة وغيرهما.
وما دمنا قد ألمحنا سريعا الى نقطة اختلاف بين التراثين , فنود ان نوجز الكلام عن نقطة اختلاف أخرى تخص الاسلوبية نفسها في درسها بين التراث العربي والدرس الاسلوبي الغربي المعاصر.
لقد انطلق العرب في درسهم اللغوي من النص - تنظيرا وممارسة ـ فجاءت علومهم في هذا الميدان تمثيلا حضاريا له,.
وكانت نظرتهم للأسلوب ـ في جملة تلك العلوم ـ أثرا من آثار النص, ونتيجة من نتائجه الدالة عليه , فأسسوا بذلك بنيان حضارة معرفية يمكن أن نصطلح عليها باسم حضارة لنص, وعلى العكس من ذلك , نجد ان الدراسات اليونانية ووليدتها الغربية قد انطلقت في درسها البلاغي واللغوي من الشخص ـ تنظيرا وممارسة ـ فجاءت العلوم في هذا الميدان تمثيلا حضاريا له , وكانت نظرتهم للأسلوب انه أثر من آثار الشخص , ونتيجة من النتائج الدالة عليه, فأسسوا بذلك بنيان حضارة معرفية يمكن ان نصطلح عليها باسم حضارة الشخص , وكانت نتائج اختلاف هذين الموقفين عظيمة وإنا نرجو ان نبحث هذا في دراسات أخرى قادمة ـ بإذن الله - وسنكتفي هنا بالقاء الضوء على مفهوم الاسلوب والاسلوبية من خلال المنظور العربي له فقط.
التعريف بين معترك الاتجاهات:
لقد جاء في الموسوعة الفرنسية
Encyclopoe dia universalis
أنه: (يمكن استخلاص معنيين لكلمة أسلوب ووظيفتين: فمرة تشير هذه الكلمة الى نظام الوسائل والقواعد المعمول بها او المخترعة والتي تستخدم في مؤلف من المؤلفات , وتحدد ـ مرة أخرى ـ خصوصية وسمة مميزة : فامتلاك الاسلوب فضيلة)
وتقول الموسوعة ـ أيضا: (اننا اذا أولينا الاهتمام بالنظام وقدمناه على الإنتاج ., فإننا نعطي الاسلوب تعريفا جماعيا ., ونستعمله في عمل تصنيفي , ونجعل منه اداة من ادوات التعميم , اما إذا كان الأمر على العكس من ذلك , وأولينا انتهاك النظام , والتجديد, والقراءة اهتمامنا فاننا نعرف الاسلوب تعريفا فرديا ونسند اليه وظيفة فردية ولكن كل هذا يقودنا الى التفكير فيه كذلك على انه سمة مميزة ونظام بآن, ويمكننا ان نعارضه مع النظام أيضا كما توحي بذلك عبارة فوسيون( الاسلوب مطلق والاسلوب متغير)
وإذا كنا نستطيع ان نستخلص للأسلوب معنيين ووظيفتين فلننظر إليه من خلال كلام مؤسس هذا العلم (شارل بالي) أولا , ثم من خلال التعريف الشائع وتعريف الكتاب ثانيا, ثم من خلال تعريف اللسانيات ثالثا.
* تعريف (شارل بالي): ان (شارل بالي) هو المؤسس الأول لعلم الأسلوبية في العصر الحديث ولذا رأينا أن نفرد تعريفه على حدة والجدير بالذكر أن كل الدراسات التي جاءت بعده , قد أخذت عنه أو استفادت منه ان في المنهج وان في الموضوع.
وتأتي اهمية (بالي) أنه ـ وللمرة الأولى في تاريخ الثقافة الغربية ـ نقل درس الاسلوب من الدرس البلاغي ـ بتأثير المسافات عليه منهجا وتفكيرا ـ إلى ميدان مستقل. وصار يعرف بميدان الدرس الاسلوبي أو الأسلوبية.
* (بالي) وميدان الدرس الأسلوبي:
لكي يحدد (بالي) ميدان الدرس الأسلوبي , فقد ذهب ينظر إليه من زاويتين:
ـ الزاوية الأولى ، ويضع فيها وقائع التعبير اللغوي.
ـ الزاوية الثانية , ويضع فيها أثر الوقائع على الحساسية.
وهو, حين ينظر الى الوقائع اللغوية لا يأخذ منها الا تلك التي تحتوي على مضامين وجدانية, ولذا فهو يبحث عن أثر هذه الوقائع على الحساسية وعن فعلها فيها, والمتأمل في الزاويتين يدرك وكأن بينهما شبه جدلية , يستدعي الطرف الأول منها وجود الطرف الثاني, ويطلبه حثيثا , إنه يقول (تدرس الأسلوبية وقائع التعبير اللغوي من ناحية مضامينها الوجدانية , أي تدرس تعبير وقائع الحساسية المعبر عنها لغويا, كما تدرس فعل الوقائع اللغوية على الحساسية).