أنا مؤمن جدا ان تطور اي بلد رهن بالانظمة الادارية لمؤسساته المدنية، اذ ان تلك الانظمة كفيلة بتسيير وتيسير دفة العمل الانتاجي والرقي به الى اعلى المنحنيات، اذا ما قامت على نهج سليم وعلم قويم، والعكس صحيح. ان انظمتنا المؤسساتية قد استمدت فكرها وبنودها من احد الانظمة الادارية العربية القديمة الذي اثبت حقيقة وعلى امتداد سنوات طوال فشله الذريع في بيئته، وها نحن نقع فيما وقع فيه القوم، ولا غرابة! ان انظمة مؤسساتنا الادارية فلسفتها تكمن في ان المهيمن على قمة الهرم فيها - الوزير او المدير العام - ينبغي الا تفوته فائتة من فعل او قول، ولا تدخل وتخرج وريقة الا بعلمه ورهن امره وارادته، ولك ان تتخيل ان كل معاملة مهما بلغ يسر امرها، لابد ان تجتاز - وبعد انهاء اجراءاتها من الموظف الصغير - عقبات توقيعات المسئولين بدءا من الرئيس المباشر مرورا بمدير فرع ومدير اداري الى ان تصل الى قمة الهرم الاداري، وهنا هب ان احد اولئك الاداريين غير متواجد لاي سبب، فستقيم تلك المعاملة مدى زمنيا طويلا، وكل ذلك محسوب من وقت صاحبها المهدر والضائع، واذا كان هذا الصاحب من الموظفين في مؤسسات حكومية او خاصة اخرى - وهم بالتأكيد يشكلون الاغلبية هنا - فلا تسل عن التبعات من تأخير مراجعي دوائر هؤلاء المراجعين، والتأخير ليس مجرد وقت مهدر بل ان ذلك في حقيقته وفي نهاية امره يعتبر - وبلغة الاقتصاديين - مالا ضائعا.
وهنا يحضرني موقف اراه طريفا وليسمه القارئ ما شاء : كنت يومها اراجع في احدى وزاراتنا من اجل معاملة ما، ومتظلما بسب احدى حيثياتها، ولجت مكتب احد الوكلاء، اذ ان المعاملة اياها كانت، وعلى الرغم من مرورها بأكثر من قسم، موجهة باسمه ومذيلة بتوقيعه النهائي!, فما ان فاتحته في الموضوع حتى بادرني قائلا وبلا ادنى حرج : يا اخي تمر علينا اوراق كثيرة نوقع بعضها بدون النظر الى مواضيعها، وارجع في امرك الى المسئول الفلاني (أقل منه منصبا اداريا) ، فالموضوع عنده وهو المسئول عنه بالكلية. ان هذا الحدث ليدل دلالة واضحة على ان هذا المسئول الكبير اضحى وقته مشغولا بالتواقيع لا اكثر وبالكاد يستطيع النظر في امور أخرى، فهل هذا هو الدور الحقيقي للمسئولين الكبار؟! سمعت مؤخرا ان ادارة التعليم قد اعطت صلاحيات لمديرى المدارس في بعض الامور ان يبتوا في امرها دونما حاجة الى الرجوع اليهم، وهذا لعمري تصرف جد حضاري، اذ ان الاعمال الادارية ينبغي ان توزع مهامها على كل المسئولين، لينال اقلهم منصبا (كرئيس قسم) اغلب المهام لانها تشكل معظم الاعمال الروتينية، وهو مخول هنا بانهائها ولا حاجة الى الرجوع الى من فوقه منصبا اداريا.