المغامرة هي المقياس الأمثل لقدرتنا على الانعتاق من الصعاب، فكلما غامرنا أكثر شعرناً بحرية أكبر ننتزعها أول ما نتنزعها من قبضة دواخلنا.. والمغامرة في الوقت ذاته هي مقياس الشاعرية في الذات الشاعرة حيث تتجلى في القدرة على كسر الحاجز النفسي الفاصل ما بيننا وبين علاقاتنا التقليدية بالأشياء من حولنا حتى نكون قادرين على التماس مع تلك الأشياء وإعادة تشكيل العلاقات معها بخوف أقل، والاستقلال من إمبريالية التاريخ الذي يستعمرنا، والانتماء إلى عصرنا دون الشعور الأليم بوحشة الغربة البشرية! ولا يكفي أن نكرس حياتنا للشعر دون الإيمان به إيماناً يتجاوز القول إلى السلوك كي نكون كباراً في موقفنا بمقدار ما نحاول أن نكون كباراً في كلماتنا! فالشاعرية التي لا تحرر صاحبها من الخوف- إلا من خيانته لها- لا تستطيع أن تصل به إلى حالة الإبداع ولا تستطيع أن تجعل الشاعر يحس بطاقته القصوى من الآدمية! ولكنا نتذكر كيف كنا في فترة نعومة أشعارنا نتعامل مع الكلمة تعاملنا مع الدمية، ولكننا بعد الإحساس بالطاقة التأثيرية الهائلة الكامنة في بطن الكمات بدأنا نتعامل معها تعاملنا مع القنابل لتفجيرها في الأشياء من حولنا وإعادة صياغة هذه الأشياء بتضاريس جديدة نقترحها نحن.. وهذه هي التجربة الإنسانية في العمل الفني عندما يقف الفنان مع عمله وحيدين في مواجهة هذا العالم ويحاولان أن يجعلاه يحلق فوق خوفه كي يصبح أكثر إنسانية وبهاء.. خصوصاً عندما يفتح باب الحرية على أقصاه! حينما أكتب عن الشعر، أحس بأنني جالس على أريكة من ريش النعام، ولكن حينما أكتب الشعر أحس بأنني جالس على بركان وذلك لأنني أصاب برعب كبير أمام فتنة اللغة لدرجة أنني أفقد سيطرتي عليها، إذن.. فالكتابة الأولى كتابة استرخاء بينما الكتابة الثانية كتابة توتر.. وقد يخذلني استرخائي وينتصر لي توتري فأخلق في كتابة الشعر وأسف في الكتابة عنه، بالضبط مثلماً أكون ماهرة في المشي على حافة واد سحيق مني إذا كنت أمشي في جادة الطريق. هناك.. في أقاصي الغيوب ثمة هالة من الدهشة هلامية الشكل غامضة الأبعاد.. قادمة من اللامتناهي تبحث عن شكل محدود تحل فيه وتتقمصه حتى تكونه..هذه هي القصيدة.. ذات غريبة تخترق كاتبها إلى أقصى الروح وحين تنرسم على الورق تعطي صورة للروح تلك أن صح أن للروح صورة ذات ملامح. ما الذي نصنعه نحن الشعراء أمام هذه الغريبة القادمة من أقاصي السديم المطلق سوى أن نبدأ معها لعبة المغامرة الشيقة وندخل في طقوس التوحد حتى اكتمال الحلول.
كل هذه المراسيم تتم في أعماق رؤية فكرية نابعة من حالة إنسانية محضة تتكثف فيها تلك الدهشة وتتحول إلى نبع مخزون في الأعماق سرعان ما ينبجس على وقع أقدام المشاعر الوثابة ويبدأ نهر الصور تدفقه في محاولة جادة كي يشق له قناة عبر صخور اللغة.. وهناك على ضفاف القناة تلك، يقوم النهر بكتابة الزهور الفنية وإطلاق طيور الدلالات كي تحوم في آفاق المعاني المفتوحة على المطلق وكأن القصيدة عادت إلى نبعها في أقاصي الغيوب بعد أن أفرغت حمولاتها المكثفة من القلق والنزق والطيش والتوتر. والسؤال السهم الذي ينطلق هنا من قوس الحيرة:
متى تقرع أجراس الشعرية في أي قصيدة؟
هل هي ذلك الرنين الموسيقي النابع من ارتطام خلاخل القوافي بعضها ببعض على كعوب القصيدة.. أم هي موسيقي الانبهار التي تنعزف على أوتار الجسد وتترك الروح مفتوحة على أقصى مداها السحيق؟؟؟.أنا شخصياً أعتقد أن القصيدة هي ترجمان الذات البشرية وأن الشعرية في القصيدة هي احتفالية بزواج مفردات ومشاعر إنسانية اجتمعت في سياق، والموسيقي طقس من طقوس الزواج، وكلما كانت الموسيقي في أروع تجلياتها ابتهج مهرجان العرس أكثر، ولكن أرى من الخطأ اقتصار تلك الموسيقى على أبواق الوزن، وإنما يجب أن تنبعث من الدهشة التي تحيل الجسد إلى سلالم موسيقية تصعدها روح التقاسيم إلى قمة التجلي في عالمها المجرد.. كما يجب أن تخمر الأوتار بما يكفي كي تملك القدرة على التوحيد عبر الانتشاء حتى تنعدم المسافة الفاصلة بين الشاعر والقصيدة.. أي بين الشاعر وذلك القلق المتألق بداخله والممزوج بالدراية والمعرفة. ودائماً ما تقف القصيدة الشجاعة أمام المرآة قبل النزول إلى الشاعر وذلك كي ترى حقيقتها وتشذبها من جميع "الرتوش" وتضفي عليها قسطاً من الأناقة مثلما يؤنق البستاني قامة الأشجار ويشذب جدائلها، ولكن بعض القصائد تسقط في الإغراء فتنشغل بالهوامش وتمضي تسرح جدائل المفردات وتكحل عيون المعاني وتقرط آذان القوافي.. وما إلى غير ذلك من الزينة التقليدية التي تضعها معظم النساء قبل الخروج من المنزل.. وهل القصيدة إلا امرأة اتخذت شكل الحروف؟! جميل أن تتزين القصيدة وأن ترتب فوضى ملامحها، ولا ضير في ممارسة هذه الطقوس التي تؤديها قبل مقابلة الناس، ولكن الضير كل الضير أن تجور على ذاتها بالألوان وأن تحاصر جسدها بالجواهر.. والخوف كل الخوف أن تقتل نفسها بالنرجسية وأن تتغزل في ذاتها على صيغة رثاء خفي، حينئذ تصبح القصيدة مسجونة في المساحيق.. مقيدة بالخلاخل.. مغلولة بالعقود، ثم تنزل إلى الشاعر في صورة زائفة، وربما كانت هذه الصورة أكثر جمالاً ظاهرياً من الحقيقة ولكنها فارغة من الصدق.. ثقيلة على الإحساس،لذلك فهي لا تستطيع الطيران في أفق المشاعر، والقصيدة التي لا تطير لا يمكن أن تنتمي إلا إلى الحجارة، أو ربما حالفها الحظ وانتمت إلى فصيلة الزواحف تدب وكأنها محمولة على ظهر سلحفاة. أيها الشعراء.. يا مواقد الدفء في الأرض.. حرروا قصائدكم من الطلاء وامنحوها ملامحكم البهية.. ان وردة طبيعية واحدة تغنينا عن حقول شاسعة من الورود الاصطناعية.. دعوا نهر عواطفكم الجميليشق مجراه بنفسه ولا تمسكوا بعنان النهر .. لا تصادروا حرية الماء ورغبته في الجريان النبيل، فالعاطفة المجردة لا يمكن أن تنتمي إلا إلى الإنسان على رحبة وسعته وقد تختنق بالمنهجية والأدلجة.
إن الشعر أكبر منا جميعاً وحين نقف في حضرته العلية لا نملك إلا الخضوع له والتوسل إلى عليائه كي يمدنا بالجمال .. أما الشعر المقموع بصيغة الأمر والنهي فإنه أشبه بالجسد الميت الذي تفوح منه رائحة كريهة تدعونا إلى تشيعه قبل النظر إليه.
والقصيدة هي القصيدة ذات عالم خاص مليء بخيباتها وآمالها .. انتصاراتها وانكساراتها.. انطوائها وتجلياتها، إذن، فهي ليست صورة فوتوغرافية من الواقع المحيط بها، وإنما حالة إنسانية تنتمي إلى ذلك الواقع وتحاول جاهدة أن تجد لها وطنا ف يه، وحين تفشل محاولتها تتخذ لها منفى على الورق .. فالأوراق في حقيقة الشعر منافي القصائد .. والمسألة هنا شعورية محضة إذ كم من القصائد الجميلة التي أشعلت دفاتر شاعرها بالأحلام، وعندما تجسدت على أرض الحقيقة فقدت هيمنتها على تلك الدفاتر وصدئت أجراسها على الخطوط إلا من دقات ذكرى عالقة بالهوامش. من هنا نكتشف أن ثمة أشكالا أخرى يتجسد فيها الشعر خارج نطاق اللغة ..
أشكالاً حرة طبيعية غير هذه القوالب الحرفية الجامدة في كثير من الأحيان والمتحركة في بعض الأحيان. فالفلاح ـ مثلا ـ وهو يضع بذور سنابله في الأرض يضع في الوقت ذاته الملامح العامة لقصيدته التي تكتمل يوم الحصاد، ليبدأ الفران بعد ذلك بصياغة قصيدته الخاصة به وهو يوازن بين معيار الخميرة ونسبة العجين وكثافة اللهب .. هذه هي القصيدة التي تختصر عشرات الحقول في دورة رغيف.
والأطفال .. أليس الأطفال قصائد من لحم ودم .. قصائد تنبثق دهشتها من الأصلاب، وتختلط أمشاجها في الأرحام وتعبر جسر المخاض إلى الأكثر جمالاً في الحياة..الولادة.
هذه الأمثلة التي اقتبستها من واقع الحياة والتي تنم عن وجود أشكال عديدة لتجسيد الشعر .. هذه الأمثلة تتوحد في جوهر واحد هو المعاناة .. فما دامت هناك معاناة فهناك مضمون شعري بغض النظر عن الأشكال. ويتضح لنا أن واقع الحياة مكتنزة بالمشاهد الشاعرية على عكس القصائد اللغوية التي لا تحمل في خزانتها من الشعر إلا القليل والنادر ندرة الحب في خزانة العالم المادي .. وربما ذهبت على الزعم بأن شاعرية الأرض دائماً في توازن وتكتمل أيضا، بين عواطف الطبيعة واللغة والبشر، فقد يزداد توهجها في الطبيعة ويقل في البشر وقد يرتفع غليانها في البشر وينخفض في اللغة.
لذلك أعتقد أن القول السائد هذه الأيام بأن الشعر يذوب في الأنواع الأخرى من الفنون كالفن التشكيلي والقصة والرواية التي تتقدم جميعها باتجاه الشاعرية .. هذا القول دقيق جداً، لكن الإدعاء بأن جنازة الشعر في طريقها على المقبرة إدعاء قائم على خواء لأن جنازة الشعر تعني جنازة الإنسان، ومادام هنالك قلب ينبض بالحلم في حضرة العقل المهيب، فلابد أن يكون هناك المخلوق الجميل المسمى مجازاً بالشعر.