الكلام الذي قاله وزير الخارجية الأمريكي عن إعادة تشكيل المنطقة بعد إسقاط النظام العراقي، يجب أن يؤخذ على محمل الجد. فلا القائل ممن ينطقون عن الهوى. ولا الموضوع مما يحتمل العبث او الهزل، وما المنطقة المعنية إلا المشرق العربي على وجه التحديد. الأمر الذي يثير ما لا حصر له من علامات الاستفهام حول الذي يحاك ويدبر هناك، والذي يتفاعل ويرتب هنا، وذلك الذي يمكن أن يتداعى إليه الأمر في المستقبل.
(1)
الفكرة ليست جديدة تماماً. فالكلام عن إعادة رسم خرائط المنطقة الذي يستصحب الحرب المرتقبة تردد على ألسنة بعض المسئولين في الإدارة الأمريكية، ومن لف لفهم من الغلاة وأقرانهم المهووسين والمتعصبين، الذين يتوهمون بأن الله كلف أمريكا بمهمة تطهير العالم من الأشرار وإقامة "مملكة الرب". وقد تابعنا ما قاله أحد أولئك الغلاة ذات مرة (نائب وزير الدفاع الأمريكي بول ولفوفيتز)، من أن الوقت قد حان لتغيير موازين القوة في منطقة الشرق الأوسط، ليس فقط سعياً إلى تغيير "النظام" في هذا البلد او ذاك، وإنما أيضاً عبر إنهاء دول بكاملها. وهو أيضاً من قال أن شعوب العالم العربي اذا لم تكن قادرة على تغيير الحكومات المستبدة في المنطقة، فان الولايات المتحدة - التزاماً بمهمتها "الرسالية"! - ستقوم بذلك نيابة عنهم!
كلام الغلاة والمتعصبين حمل على الغلو والتعصب، ولم يحمل على السياسة الأمريكية. ربما من باب التمني او حسن الظن. شجعنا على ذلك في الأغلب أن وزير الخارجية كانت له مقاربة مختلفة للموضوع، بدت في حينها اكثر تأدباً واحتشاماً. فقد سمعناه في 12/12 الماضي وهو يتحدث عما اسماه "مبادرة المشاركة من اجل الديمقراطية والتنمية"، وقد رفع شعار "نحو مزيد من الديمقراطية في العالم الإسلامي". ورغم أن كثيرين منا امتعضوا حينما استقبلوا المبادرة، لانها بمثابة دس للأنف الأمريكية في شئوننا الداخلية، إلا أن الكلام ظل عند الحدود التي احتملت الأخذ والرد فيها، بدليل أن منا من رأى فيها إشارات إيجابية، ومنا من رفضها بالكامل. ان شئت فقل ان خطاب كولن باول في مبادرته "حمائمي" بصورة نسبية. اعني انه كان معبراً عن الصورة التي رسمت للرجل بحسبانه نموذجاً مختلفاً عن فريق الصقور والمتطرفين في إدارة الرئيس بوش. غير أن تلك الصورة اختلفت مع نهاية الأسبوع الماضي، الذي اطل علينا فيه السيد كولن باول بوجه صقوري بامتياز. إذ وجدناه في شهادته امام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ (التي عقدت يوم الخميس 6/2) يخاطبنا بلغة السيد وولفوفيتز، فيعلن أن إطاحة الرئيس صدام حسين قد تعيد تشكيل الشرق الأوسط بصورة جذرية، على نحو يعزز المصالح الأمريكية، ويساعد في إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي. الأمر الذي يعني أننا بازاء سياسة دولة وليس اجتهاد شخص او تعبيرا عن رؤيته ومزاجه الخاص.
ولان الكلام في هذه الحالة ينبغي أن يؤخذ على محمل الجد. فان التدقيق في معانيه ومفرداته يصبح لازماً. وإذا قمنا بتلك المحاولة فسنجد أن كلامه يعني ثلاثة أمور: الأول أن هناك تصوراً لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، وهو طرح أبعد من فكرة "المشاركة" التي أطلقها في مبادرته، ولان عملية التشكيل لن تستهدف اسرائيل بطبيعة الحال، فسوف ينصب التشكيل المنشود على دول المشرق العربي بالدرجة الأولى - الأمر الثاني أن الهدف من التشكيل هو تحقيق مصالح الولايات المتحدة المتمثلة في تأمين منابع النفط وضمان الانصياع للإرادة الأمريكية وفرض السلام مع اسرائيل - أما الأمر الثالث فهو إنهاء - وضع خطاً تحت كلمة إنهاء - الصراع العربي الإسرائيلي عبر إغلاق ملف القضية تماماً.
(2)
أفتح قوساً هنا وألفت النظر إلى إعلان نشرته "نيويورك تايمز" (في 7/1/2003) لبعض الشخصيات الأمريكية والجمعيات المعنية بالأمن الاجتماعي، لفت انتباه الإدارة الأمريكية المتجهة إلى الحرب والمشغولة بإعادة تشكيل عالمنا العربي، كما نبهت الرأي العام إلى أن في أمريكا ما يزيد على 41 مليون شخص يفتقدون إلى الضمان الصحي، وكان عددهم في السابق 35 مليونا. وان 33 مليوناً. يعيشون في حال من الفقر، وان 13 مليون طفل في الولايات المتحدة لا ينالون ما يكفي من الطعام، وان الموازنة تعاني من عجز مالي بلغ 159 بليون دولار وان ثلاثة ملايين أمريكي ثلثهم من الأطفال يعيشون دون مأوى، وان 133 مليوناً يقيمون في مناطق تعاني من تلوث الهواء، وان ألف شخص اعتقلوا سراً في السجون الأمريكية مما يهدد الحريات المدنية. ولكل هذه الأسباب وغيرها دعا الإعلان إلى ضرورة توظيف الموارد في السلام لا في الحرب.
أورد هذه الأرقام الدكتور حليم بركات عالم الاجتماع الأمريكي ذو الأصل العربي في مقالة نشرتها الحياة اللندنية (5/2) واستطرد قائلاً ان صوتاً واحداً في الكونجرس تجرأ في سياق مناقشة مسألة العراق على القول ان 35 في المئة من الجنود الذين أرسلوا إلى مناطق القتال هم من الأقليات، فيما لا تزيد نسبتهم في المجتمع على 11 في المئة من مجموع السكان. وليقتل الفقراء الفقراء، فيما ينعم الأغنياء بثروات المجتمع والرفاهية التي لا حدود لها.
أضاف الدكتور بركات ان هذه ليست حالة استثنائية، حيث لا يستغرب مثلاً في هذه الحال أن تنفق أمريكا شهرياً في أفغانستان بليون دولار في المجالات العسكرية في مقابل 25 مليون دولار فقط في مجال إعادة البناء وتقديم المساعدات الضرورية للمنكوبين من الشعب الأفغاني.
اقفل القوس من فضلك!
(3)
ثمة تكملة تسلط الضوء على خلفية وربما على مقاصد كلام السيد باول. وهذه التكملة لم تعلن في الولايات المتحدة، ولكن أنباءها تسربت في اسرائيل. فقد نشرت صحيفة "هآرتس" تقريراً مهماً كتبه "عكيفا الدار" في 1/10/2002 تحت العنوان التالي: "خبيران يهوديان في البنتاجون يرسمان صورة الشرق الأوسط الجديد بالتفاهم مع الحكومة الإسرائيلية". الخبيران اليهوديان اللذان تحدث عنهما التقرير هما ريتشارد بيرل الذي يرأس الآن المجلس الاستشاري في وزارة الدفاع، ويعد أحد المفكرين الاستراتيجيين المهمين في الإدارة الأمريكية، وداج فايت الذي اصبح نائب وزير الدفاع والشخص رقم ثلاثة في البنتاجون.
لان الرجلين من متعصبي الصهاينة، فقد انضما في عام 1996 إلى مجموعة من الباحثين الذين كلفوا بدعم موقف بنيامين نتنياهو في خطواته الأولى كرئيس للحكومة في اسرائيل. هؤلاء الباحثون عملوا من خلال المعهد المقدسي - الواشنطوني للدراسات الاستراتيجية والسياسية المتقدمة. واعدوا وقتذاك خطة لإعادة العراق بمساعدة اسرائيل إلى حكم العائلة الهاشمية. وقد ورد ذلك في وثيقة مهمة، طرحت رؤية طموحة أساسها "شراكة أمريكية إسرائيلية تقوم على النضج ومبدأ التبادل، بدلاً من الشراكة التي تركزت على الصراعات الإقليمية فقط" - هكذا قالوا.
حسب تقرير "هآرتس" فان الوثيقة تمد اذرعها في كل أرجاء المنطقة. فتحدثت مثلاً عن انه "في الآونة الأخيرة شكل الأردن تحدياً لتطلعات سورية في المنطقة، عندما اقترح إعادة الحكم الهاشمي إلى العراق. وبما أن مستقبل العراق يملك تأثيراً جوهرياً على التوازن الاستراتيجي في الشرق الأوسط، فمن البديهي أن تكون لإسرائيل مصلحة في دعم جهود الهاشميين لإعادة تعريفه وتحديده من جديد".
ذكر كاتب المقال أن إعادة الحكم الوراثي إلى العراق في ظل الهاشميين لا تتساوق مع تصور الشرق الأوسط الموجود لدى إدارة بوش. ولكن ثمة مؤشرات على أن هذه الخطوة تتناسب مع أحلام بعض الشخصيات المؤثرة في صناعة القرار حول مثلث بوش - تشيني - رامسفيلد. ومن المعلومات المهمة التي أوردها أن ريتشارد بيرل دعا في الأسابيع الماضية قادة البنتاجون للاجتماع مع باحثي أحد معاهد البحوث الاستراتيجية، وكان موضوع البحث هو مستقبل منطقة الشرق الأوسط. وحسب المعلومات التي وصلت إلى أيدي أحد كبار قادة الجيش الإسرائيلي السابقين فان وجهتي نظر نوقشتا في ذلك الاجتماع. الأولى تركزت حول أهداف حرب مكافحة الإرهاب، وإشاعة الديمقراطية في الشرق الأوسط. أما وجهة النظر الثانية فلم تكن اقل إثارة، لأنها تناولت مثلثاً آخر أضلاعه كما يلي: فلسطين هي اسرائيل، والأردن هو فلسطين، والعراق هو المملكة الهاشمية. وهو ما يعد بعثاً لذات الفكرة التي تحدثت عنها الوثيقة المقدمة إلى بنيامين نتنياهو في عام 1996م.
من المفارقات اللافتة للنظر في التقرير ما نقل على لسان المسئول الأمني الإسرائيلي المتقاعد، حين التقى أحد أعضاء المجلس الاستشاري العاملين مع بيرل. من انه حذر العضو الأمريكي من عواقب تصعيد المجابهة بين الولايات المتحدة والعالم العربي، وحسب تعبيره فان من شأن ذلك أن يتمخض عن محيط استراتيجي غير محتمل بالنسبة لإسرائيل، وهو ما لا تريده. وقد وعد عضو المجلس الاستشاري (وهو جمهوري) بان ينقل هذه الرؤية إلى البيت الأبيض.
(4)
اذا وضعنا تلك المعلومات جنباً إلى جنب فسوف نستخلص من المشهد أموراً عدة، أهمها أن مستقبل المنطقة وخرائطها موضوع بحث في واشنطون، ومحل حوار واخذ ورد مع اسرائيل. أي أن طرفي المناقشة هما القوة العظمى في الساحة الدولية، والقوة الإقليمية الكبرى. أما الدول العربية التي هي موضوع البحث فليست طرفاً في ذلك الحوار.
كأن المشهد يستعيد وقائع ما جرى في أعقاب الحرب العالمية الأولى (1915 - 1918م)، وما جرى للمهزومين في تلك الحرب، والإمبراطورية العثمانية بينهم. وكيف قامت الدول المنتصرة بإعادة تشكيل المنطقة في أعقاب تلك الهزيمة، حيث قسمها المنتصرون فيما بينهم، في صفقة سرية اشتهرت باسم اتفاقية سايكس بيكو (1916)
هي قصة تستحق وقفة، لان بعض ما نقرؤه في صحف الصباح ونسمعه في نشرات الاخبار في هذا الزمان، يكاد يكون إحياء لما جرى آنذاك، مع اختلاف في الأسماء والأدوار. نعم ظل العرب والمسلمون في الحالتين هم الضحية (كل عام وانتم بخير!) - ولكن أوروبا كانت القوة العظمى المستعمرة والمشكوك فيها، بينما كانت الولايات المتحدة دولة مرحباً بها ومأمولاً في قيادتها، وقد تمثلت آنذاك في الرئيس وودرو ويلسون الذي انحاز إلى حق تقرير مصير الشعوب في برنامجه ذي النقاط الأربع عشر. وقد اختلفت المواقع هذه المرة، حيث أصبحت الولايات المتحدة هي الدولة المشكوك فيها، بينما تعلقت بعض الآمال بأوروبا. غير أن ذلك ليس فرقاً جوهرياً، لأنه ليس مهماً كثيراً من قتل، لان الأهم أن القتل تم، وان القتيل هو نحن!
كانت بريطانيا قد وعدت العرب باستقلال بلادهم اذا ما انقلبوا على الدولة العثمانية. وتصرف العرب كـ "حلفاء" للإنجليز، وانتفضوا ضد العثمانيين، فيما عرف بالثورة العربية الكبرى في عام 1916م. ولكن بريطانيا وفرنسا عقدتا صفقتهما السرية في سايكس بيكو في العام ذاته. واتفقتا على تقسيم الأقاليم التابعة للدولة العثمانية فيما بينهما على النحو الذي يعرفه الجميع. وفيما تلا ذلك من سنوات، ظلت الدولتان المنتصرتان تتلاعبان بمصير العالم العربي، وكان تنكر بريطانيا واضحاً لاتفاقاتها ووعودها السابقة مع العرب بالاستقلال. وانتهى الأمر بوضع سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، والعراق وفلسطين وشرق الأردن تحت الانتداب البريطاني. وكان اليهود من بين الفائزين لأنهم منحوا في عام 1917 حق إقامة وطن قومي لهم في فلسطين. في الوقت ذاته أجبرت الدولة العثمانية على إلغاء أسطولها الحربي، وفرض عليها أن تضع المواني والطرق المائية والخطوط الحديدية العثمانية تحت سيطرة الدول الغربية. كما ألزمت بدفع تعويضات للدول المنتصرة، وان تتحمل نفقات جيوش الاحتلال.
يذكر في هذا الصدد أن مؤتمر الصلح الذي رتبت فيه الدول المنتصرة عملية إعادة تشكيل المنطقة عقد في فرساي عام 1919، ووقع على معاهدات الصلح مندوبو فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة. ولم يسمح للدول المهزومة بحضور جلسات المؤتمر، وقد حاول الصدر الأعظم للدولة العثمانية، الداماد فريد، أن يدخل إلى قاعة المؤتمر لكي يدافع عن ضرورة بقاء الدولة العثمانية، وذهب إلى قصر فرساي فعلاً في يوم 26 يونيو، ولكن رئيس وزراء فرنسا كليمنصو طرده من القاعة، بعدما اسمعه كلاماً مقذعاً ومهيناً، فعاد الرجل إلى استانبول ذليلاً وذاهلاً، وبعد أسبوعين فارق الحياة!
(5)
أرجو أن تتذكر انه في مشهد ما بعد الحرب العالمية الأولى قسم الأوروبيون المنطقة وأعادوا تشكيلها على هواهم، وفاز اليهود بوعد بلفور الذي أعطاهم حق إقامة دولة لهم فوق ارض فلسطين كما أن الذين وثقوا في بريطانيا وتحالفوا معها، واستخدموا في الهجوم على الدولة العثمانية واجتياح مواقعها في الحجاز، هؤلاء خدعوا في النهاية "وأكلوا الهواء"، رغم وجود "بروتوكول دمشق" واتفاق "حسين - مكماهون" - (الشريف حسين والمندوب السامي البريطاني في مصر) - ولا تنسى أن البريطانيين الذين طمأنوا الشريف حسين وعقدوا معه اتفاقا (للشراكة!) في عام 1916، أداروا له ظهورهم واتفقوا سراً مع الفرنسيين على تقاسم النفوذ في العالم العربي في العام ذاته! - وهو ما يدعونا إلى التساؤل عما إذا كان التاريخ سوف يعيد نفسه بعد الحرب المقبلة" .
من الأمور التي اختلفت هذه المرة، والتي نشأت عن التغير في موازين القوة، أن الأقوياء والمستكبرين لم يخفوا مقاصدهم، وإنما أعلنوا صراحة عن أن المنطقة ستكون هدفاً لإعادة التشكيل. حيث لم يعد هناك ما يدعو إلى إخفاء السر. وإذ بقيت هناك أسئلة كثيرة حول من وأين وكيف ومتى، إلا أن المقاصد واضحة ولم يخفها وزير الخارجية الأمريكي وغيره من أركان الإدارة الأمريكية ومسئوليها. فقد قالوا صراحة ان المستهدف هو تحقيق المصالح الأمريكية، وتصفية القضية الفلسطينية. ليست تلك هي الصدمة الوحيدة، إنما ما يصدم المرء حقاً هو ذلك السكون المدهش المخيم على العالم العربي، الذي يبدو وكأنه اقرب إلى الاستسلام لعملية الذبح، في الوقت الذي تدل إشارات كثيرة إلى انه لن يسلم منها أحد، بصورة مباشرة او غير مباشرة.
إن أخشى ما أخشاه، في ظل ذلك السكون، أن يفقد الناس الثقة في إمكانية التحرك الجمعي والمؤسسي، ولو على صعيد "طلب الإيضاحات"، وان يجد البعض انه لم يعد هناك مفر من المبادرات الفردية، التي يمكن أن تدخل المجتمع العربي في طور من الفوضى التي لا يعلم إلا الله وحده مداها.