بدأت ذيول الازمة العراقية والمتمثلة في اختلاف وجهات النظر بين رفض وتأييد الجموح الامريكي في الهجوم العسكري على العراق واسقاط نظامه ووضعه تحت الحكم العسكري الامريكي المباشر بدأت تلقي بظلالها على اداء القادة السياسيين في كثير من التجمعات والهيئات السياسية, وقد تشكلت ملامح الفريق المؤيد لامريكا في سياستها عندما اقنعت بريطانيا ثماني دول اوروبية بتوقيع لائحة تأييد للتوجه الامريكي ثم تلا ذلك خطاب آخر وقعته عشر دول من وسط وشرق اوروبا يحمل نفس المضمون. في حين ان الفريق المعارض قد تبلورت صورته منذ ان اعلنت المانيا وفرنسا ثم بلجيكا مقاومتهم وتحديهم للاندفاع الامريكي نحو شن هجوم مبكر على العراق ثم مالبثت ان انضمت اليهم روسيا والصين في جلسة مجلس الامن المنعقدة في 14 فبراير الماضي, وتبع ذلك انتقال الصراع بين الفريقين الى حلف الناتو ثم في الاتحاد الاوروبي والجامعة العربية حتى بدا وكأن الجميع وليس النظام العراقي فحسب غارق في هذه الازمة بكل ماتعنيه هذه الكلمة من ابعاد قد تصل الى تهديد مستقبل الكثير من الاحزاب والانظمة الحاكمة وقادتها السياسيين, وقد تأكدت هذه المخاطر من خلال التظاهرات العارمة المعارضة للحرب التي اجتاحت دول العالم, وظهر جليا ان كثيرا من القادة المؤيدين للرئيس بوش اصبحوا مترددين في المضي في اندفاعهم نحو الحرب, وفي الوقت نفسه فان المعارضين اصبحوا يعانون ضغوطا امريكية من نوع آخر تتمثل في تقديم الجزرة للبعض والتلويح بالعصا الغليظة للبعض الآخر والذي عادة مايكون مؤلما, وامام مثل هذه الازمة التي وجد الساسة انفسهم مرتهنين فيها لمواقفهم ومرهقين بضغوطها الكبيرة لدرجة بدت ملامحها جلية في زلات ألسنتهم وحدة تصريحاتهم وقذفهم بعضهم البعض حتى وصل الامر ببعض المتابعين لان يؤكدوا حدوث تصدعات حقيقية فيمن يضرب بهم المثل كأحلاف ناضجة واتحادات راسخة وقد اصبحت المنتديات السياسية العربية امامهم والذي طالما تم اتهام اعضائها في سياستهم اللامسئولة والبعيدة عن المصالح الوطنية نموذجا طبيعيا بل ومماثلا ان لم يكن مثاليا.
لقد بدأ التراشق الكلامي في اروقة حلف الناتو عندما قال وزير الدفاع الامريكي دونالد رامسفيلد في تصريحات صحفية (لا ارى اوروبا كما لو انها المانيا وفرنسا, اعتقد انهما اوروبا القديمة واذا القيتم نظرة على اوروبا باكملها فان مركز الثقل فيها ينتقل الى الشرق) ثم تابع رامسفيلد هجومه اللاذع في كلمته امام الكونجرس قال فيها (انه يضع المانيا على قدم المساواة مع ليبيا وكوبا) وقد عززت هذا الهجوم تصريحات ريتشارد بيرل رئيس مجلس السياسات الدفاعية في البنتاجون واصفا الحكومة الالمانية بانها لاتمثل الشعب الالماني وسرعان ماتتابع الرد الالماني على لسان المتحدث باسم الحكومة الالمانية واصفا كلام رامسفيلد بالهراء, ثم وزير الداخلية الالماني بقوله (ان رامسفيلد متحدر من منطقة في شمال المانيا يتحدث الناس فيها احيانا بلغة فظة بعض الشيء, ولا آخذ ذلك كثيرا على محمل الجد) اما فرنسا فقد انتظرت حتى انعقاد مجلس الامن يوم 14 فبراير ليوجه وزير خارجيتها دوفيلبان هجوما لاذعا ومحرجا لوزير خارجية امريكا والسياسة الامريكية فقال (انه يتحدث باسم قيم بلد عتيق هو فرنسا) وتابع قائلا (فرنسا تعترف تماما بما تدينه لمقاتلي الحرية الذين قدموا من امريكا ومن مناطق اخرى) وسرعان مارد باول وبما يمتص الغضب الفرنسي قائلا (انه يمثل بلدا جديدا نسبيا الا انه يتحدث باسم اقدم ديمقراطية موجودة في مجلس الامن).
كان من المفترض من فرنسا التي عانت لسعات الحليف الامريكي الا تجرب ممارسة نفس السياسة الفوقية على من تراهم في حالة استجداء سياسي امامها واعني بذلك دول اوروبا الشرقية التي من المفترض ان تصبح اعضاء في الاتحاد الاوروبي, فقد تعرضوا لهجوم الرئيس الفرنسي شيراك واصفا البيانات التي اصدرتها هذه الدول والتي تؤيد فيها الموقف الامريكي بانها (طفولية وغير مسئولة) وقال متابعا (ان تلك الدول قد فوتت فرصة عظيمة للصمت) وقال موجها هجومه على افقر دولتين هما رومانيا وبلغاريا (ان موقفهما ضعيف بالفعل ولو ارادوا تقليل فرص الانضمام للاتحاد الاوروبي لما وجدوا طريقة افضل من ذلك) وقد جاءت ردود الفعل متتابعة من هذه الدول وقد اتسمت في غالبيتها بالشراسة والحدة فقد قال نائب وزير الخارجية البولندي (بولندا ايضا لديها الحق في تقرير ما الذي يصب في صالحها, ويجب على فرنسا اخذه في الاعتبار باحترام وبايلاء الاهتمام لاسباب ذلك الاختلاف) ولدى سؤال نائب وزير الخارجية التشيكي عما اذا كان يرى ان شيراك قد استفز الدول المرشحة قال (هذا مايبدو) اما نائب وزير الخارجية البلغاري فقال (ان هجوم شيراك اظهر بعض العصبية) وتابع (ان هذا المسلك لن يساعد في ايجاد موقف موحد في مجلس الامن).
اما في الجانب العربي الذي حاول متأخرا ان يبلور موقفا موحدا من الازمة من خلال مؤتمر وزراء الخارجية الذي عقد في القاهرة للتمهيد لقمة عربية فقد لايكون ملائما ان نحاول الدخول خلف الابواب للاستماع لما يقال فيها, وقد يتفق معظم المراقبين على انه اذا كان للتعتيم الاعلامي حسنة فهي في منع الاطلاع على مايجري داخل مؤتمراتنا العربية التي اتصور المشاركين فيها بين الملتزم للصمت المطبق وبين المهاجم على طريقة امريكا وفرنسا ويكفينا ان نستمع لتصريح ريتشارد بيرل مستشار وزير الدفاع الامريكي الذي قال فيه (انه ليست هناك دولة عربية واحدة تعمل على التحرك ضد سياستنا في المنطقة وان 12 دولة عربية على الاقل تتعاون بنشاط في اي مجال نطلبه), وزعم مساعد وزير الخارجية الامريكي بأن هناك دولا عربية ابلغت واشنطن بوضوح (انها ستقف الى جانبنا عندما يحين الوقت) هل ياترى نستطيع ان نتخيل في ضوء كل ذلك ماقيل او سيقال في اي لقاء عربي حول الازمة العراقية قبل وقوع الحرب او اثناءها او بعدها هذا اذا لم تتغير عند ذلك الملامح الجغرافية لمنطقة الشرق الاوسط وتكتلاتها السياسية.