أعجبت بأخلاقه النبيلة وصفاته الجليلة.. فابتسامته شمعة لا تنطفىء، إذا تكلم فالأدب مقصده، وإذا كلم فالوقار منهجه.. محبوب عند زملائه ومعلميه.. تمنيت أن أكون له بمثابة الأب والأخ والمعلم.. وذات يوم اصطحبت الطلاب إلى مصلى المدرسة، لقضاء أجمل الأوقات وأسعد اللحظات في رحاب القرآن.. فتحلقنا سوية واستعنا بالله فشرعنا في التلاوة.. فما ان يقرأ طالب إلا ويكمل آخر، فلما جاء دور (س) استعاذ بالله وقرأ بمشقة وتكلف، وكلما أخطأ صوبته.. وكان قلبي يكاد يتفطر حزناً لما وصل إليه من ضعف في تلاوة القرآن، مع قربه من باب التخرج فهو في الصف الثاني الثانوي.. فما أن انقضى الدرس ناديته: التفت إلى مستغرباًُ!! قائلاً: تريدني يا أستاذ؟ فأجبته: دقيقة فقدم إلي متعجباً!! فقلت له: تفضل أجلس.. فلما جلس صافحته.. فقال لي متبسما متأدباً: سم يا أستاذ؟! فظللت أبين له مستواه الحقيقي في مادة القرآن الكريم، ووضحت له ما يمر به من الضعف والتدني، فقال: يا أستاذ لقد اجتهدت قدر المستطاع، ولكن لا جدوى!! فما الحل؟ فقلت له: اعلم يا بني أن المرء لا يولد عالماً.. ولا تبلغ الغايات بالتمني استعن بالله والتحق بحلق تحفيظ القرآن.. وسر على بركة الله تجد النور أمامك.. فأشرقت الابتسامة على شفتيه، وأبدى إلي حماسه وشوقه لتلك الحلق.. ثم انصرف إلى فصله.. وفي اليوم التالي لمحته في ساحة المدرسة، فأقبل إلي شاحب الوجه حزيناً.. فلما بادرني بالسلام.. سألته: بشر ما الذي استجد في الموضوع؟ قال: أي موضوع؟ قلت: موضوع الحلقة. قال: آسف يا أستاذ!! فصدمت بذلك! وقلت: لماذا؟! قال: لقد فاتحت أبي في الأمر وبينت له ضعفي وتدني مستواي في التلاوة.. فرفض وحاولت إقناعه وبينت له محبتي لتلك الصحبة الصالحة التي تأخذ بيدي إلى طريق الخير.. فقال لي ضاحكاً: فيهم البركة. عند ذلك توقفت قليلاً وسألت نفسي: أيعقل أن أباً يحرم ابنه من حلق الذكر!! ويا ترى بأي حجة يتحجج! وبأي مبرر يبرر رفضه!! ان كان حريصاً على دراسته وتفوقه فأكثر المتفوقين والمتميزين من طلاب الحلقات! والمشرفين على الحلقات يسعون لتفوق طلابهم ويفخرون بذلك، ويشجعونهم بشتى السبل.. وان كان حريصاً على حفظه من رفقاء السوء فأنعم وأكرم بأهل القرآن رفقاء وخلاناً!!.. ألم يسمع ذلك الأب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " من قرأ القرآن وتعلمه وعمل به ألبس والداه يوم القيامة تاجاً من نور ضوءه مثل ضوء الشمس ويكسى والداه حلتين لا تقوم لهما الدنيا فيقولان: بما كسينا هذا؟ فيقال: بأخذ ولد كما القرآن".. ألم يعلم ذلك الأب أن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم وعظماء القادة ورجالات الأمة الإسلامية من علماء وأدباء ومفكرين تخرجوا من حلقات القرآن؟ ألم يسمع ذلك الأب قول أم سفيان الثوري لابنها: اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي؟! أخي الكريم.. من حقك أن تستغرب! ومن حقك أن تنذهل!! ولكن من فضلك عزيزي قلب صفحات الواقع.. تجد أن الناس في تربية أبنائهم على صنفين.. صنف يحرص على أن يسلك ابنه زمام كل طريق للخير ويفرح لانضمامه إلى حلق القرآن أو مكتبات المساجد ويشجعه على ذلك بالحوافز تارة وبالهدايا تارة أخرى، ولا يألو جهداً في توجيهه والحرص عليه ويدعو الله أن يصلحه ويثبته على الطريق المستقيم.. وصنف آخر يغلق الطريق أمام ابنه.. فيمنعه من المشاركة في أي نشاط ديني، ويلفق أي حجة واهية يقذفها الشيطان في قلبه.. ويركز على إشباع رغبات ابنه في المأكل والملبس والترفيه والسفر فقط.. ووصل الحال ببعضهم إلى كره الملتزمين وكره مجالسة ابنه لهم لئلا يتأثر بهم، فيتعقد نفسياً ( كما يزعم) أعاذنا الله وجميع المسلمين من مهاوي الردى ومصارع الضلال.
خالد النجم