مر بنا الحديث في هذه المساحة من الجريدة عن كتاب (طبائع الاستبداد) لمؤلفه عبدالرحمن الكواكبي ومنه تعرفنا على المستبد وكيف يدير شؤونه وشؤون من حوله انطلاقا من اقتناعه بسلامة فكره وصحة تقديره للامور. الا ان الانسان مهما بلغ علمه وحكمته يظل قاصرا عن الالمام بشتى الامور الحياتية التي تعززها حركة الكون فتتحول نظرته الى الامور الى نظرة استعلائية يرى الا احد يستطيع مجاراتها ولا الوصول اليها وهنا.. وشيئا فشيئا ينحرف عن ميزان العدل. ويتحول الاستبداد الى سلطة قمعية لا تريد ان تفتح المجال للرأي الآخر ولا تقبل الحوار العقلاني الذي يزن الامور بموازين المعرفة والعقل ومن هنا برز سؤال: هل هناك مستبد عادل؟
قبل الاجابة عن هذا التساؤل علينا ان نضع كلمتي (المستبد) في كفة, و(العادل) في كفة من ميزان العدالة. ثم نقارن بين ايجابيات وسلبيات كل منهما وبطبيعة الحال سيكون العدل هو الراجح لانه مبدأ الحق سبحانه وتعالى الذي لا يظلم احدا من خلقه وهو القائل (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره.. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) سورة الزلزلة. وقوله تعالى (ولا يظلم ربك احدا).
هذا الخالق العظيم الذي يكرر نفي الظلم فكيف بالبشر المخلوق الضعيف الذي يمكن ان تتلاعب به الاهواء ورغبات النفس حينا واهواء البطانة حينا آخر. فلاشك انه سيزل عن طريق الاستقامة والعدل الى ما يقارب الجور والتسلط حينا آخر. فكيف يكون مستبدا وعادلا في نفس الوقت؟
ان المستبد تملكه عقدة السلطة المطلقة التي لا يراجع فيها احدا فيتصرف حسب ما يمليه عليه فكره مهما يكن قاصرا عن ادراك الحكم الالهية ولا طبائع الكون ولا نوازع النفوس البشرية لذلك تأتي احكامه قاصرة في ناحية من النواحي التي يتطلبها ميزان العدل.
وقد جاء تفسير كلمة (استبد) في لسان العرب 1-222: استبد فلان بكذا اي انفرد به.. ويقال استبد بالامر يستبد به استبدادا: اذا انفرد به دون غيره. واستبد برأيه: انفرد به. ومعنى هذا ان المستبد هو الذي يتمسك برأيه دون ان يقيم وزنا لرأي غيره. ولذلك فهو لا يلجأ الى المشورة.. ومشاركة الرأي بل هو ينفر منها ولا يقيم لها وزنا. وهذا خلاف الشورى التي نص عليها القرآن الكريم في قوله: (والذين استجابوا لربهم واقاموا الصلاة وامرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون) سورة الشورى - آية 38 . بل امر سبحانه وتعالى رسوله الكريم بالشورى في قوله تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر فاذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) الآية 159 من سورة آل عمران.
ولهذا يتضح ان استبداد الانسان برأيه والحجر على تفكير الآخرين امر في غاية الخطورة اذ قد يكون الرأي المنفرد رأيا خاطئا قد يؤدي الى ذيوع الخطأ وانتشاره والبناء عليه فيكون كالبناء على جرف هار.
ولنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اسوة حسنة. فقد استشار اصحابه في الخروج لقتال الاعداء بعد ان علم بخروج قريش. واخذ - صلى الله عليه وسلم - رأي الحباب بن المنذر في اختيار مكان نزول الجيش وموافقته سعد بن معاذ حينما اشار عليه ببناء العريش الذي يمكث فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - اثناء القتال ليباشر بنفسه الاشراف على المعركة. وكذلك استشار - عليه الصلاة والسلام - اصحابه في أسارى بدر يقتلون ام يفادون.. وعلى هذا النهج سار صحابته من بعده يطبقون هذا المبدأ الاسلامي.. لانهم كانوا بصحته الرسول الكريم والآيات تنزل بين ظهرانيهم ويطلعهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - عليها أولا بأول ومن هذا يتضح ان الاستبداد لم يكن نهجا من مناهج الشريعة الاسلامية.
وفي هذا الصدد يقول وحيد الدين خان: (ليس من الممكن ان يتحقق العدل الكامل الا في ظل القانون الالهي حيث يكون كل انسان مساويا للآخرين امام (القانون) وحيث يمكن مقاضاة اي سلطة سياسية وتنفيذية كما يحاكم اي مواطن.. لان الحاكم في هذا القانون هو الله سبحانه وحده والمحكومون هم سائر افراد المجتمع دون تحيز).
وعلى هذا وفي ظل قانون السماء تتوطد علاقة الالفة والمحبة والوئام بين الحاكم والمحكوم. اذ الحاكم يحس باحساس المحكومين كما في قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (والله لو عثرت بغلة في البصرة - او قال في الشام - لسئل عنها عمر). وان يرى الحاكم انه واحد من افراد الشعب ليس له ما يميزه عنهم الا ما افاء الله عليه من السلطة والنفوذ - وبهذه الروح الصافية يكون المجتمع وحدة واحدة لا تؤثر فيه العواصف الهوج ولا تنال منه رياح الشقاق. لان الحاكم قبل غيره يجب ان يكون قدوة لانه مسؤول امام الله لقوله - صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكل راع مسؤول عن رعيته) ولذلك فلا مكان للاستبداد في دولة الاسلام.. وليس الاستبداد وقفا على الحاكم فقط. بل رئيس الدائرة, الوزير, والمعلم بين طلابه, ورب الاسرة بين اهله. كل هؤلاء يمكن ان يمتطوا مطية الاستبداد فيصرفون شؤونهم وشؤون غيرهم دون رجوع الى من حولهم ممن يتوخون فيهم رجاحة العقل وصواب الرأي.
ولذلك يتضح انه اي المستبد لا يستطيع ان يسلك مسالك العدل ولا يتبع السبيل التي يتحقق من ورائها المصلحة العامة لان الاستبداد والعدل لا يجتمعان في شخص ابدا مهما اوتى من العلم والحكمة وما اتصف به من النزاهة وسمو الاخلاق والحرص على مصالح العباد. ولذلك نزل القرآن الكريم على محمد - صلى الله عليه وسلم - مشرعا لمصالح العباد مبينا السبيل المستقيم نحو توحيد الله سبحانه وتعالى بالعبادة والايمان بما انزله على رسله من كتب شرعت للبشر ما يحفظ حقوقهم ويكف شرورهم ويحقق مصالحهم. ومن فرط في شيء منها فقد خرج عن مسار الشريعة السمحة.
فأين يوجد المستبد العادل؟