حيثما ذهبت في أوروبا، تسمع أصواتاً عالية تطالب المسلمين "بالاندماج"، لكنك اذا سألت عشرة أشخاص عما تعنيه الكلمة، ستفاجأ بأنك امام عشر إجابات مختلفة، حتى تخلص إلى انهم يعانون من حيرة وارتباك شديدين في كيفية التعامل مع المسلمين، الذين نجحت الآلة الإعلامية الجبارة في تحويلهم إلى "مشكلة" للمجتمعات الغربية، تتراوح بين العبء والخطر.
(1)
في ألمانيا كان النموذج شديد الوضوح. إذ كنت عضواً في وفد مصري وجهت إليه الدعوة في إطار محاولات تنشيط الحوارات الأوروبية العربية. أمضينا أسبوعا هناك لم يمر فيه يوم دون أن ندخل في حوار مع اثنين او ثلاثة من المسئولين الألمان. ولم نشارك في مناقشة إلا وأثير فيها موضوع اندماج المسلمين من ناحية او أخرى. وفي كل الأحوال كانت الشكوى من عدم حدوث ذلك "الاندماج" قاسماً مشتركاً أعظماً بين ما سمعناه من آراء في الموضوع.
كانت المفارقة أننا في النهار كنا نسمع من الألمان شكوى من عدم اندماج المسلمين، وفي المساء كنا نلتقي ببعض المسلمين الذين كانوا يشكون من توجس بعض الألمان منهم ونفور البعض الآخر، الأمر الذي اعتبروه حاجزاً يحول دون حدوث الاندماج المنشود. حتى أصبحنا بازاء مشهد ملتبس لا يكاد يعرف فيه السبب من النتيجة، الأمر الذي يعيد إلى الأذهان سؤال البيضة والدجاجة.
وفدنا ضم سبعة أشخاص جاءوا من ميادين مختلفة، فالمفتي احمد الطيب كان على رأس المجموعة، إلى جانب اثنين من مجلس الشعب وأحد الأكاديميين المخضرمين، وثلاثة من الباحثين، الذين كنت أحدهم. ورغم تباين التخصصات فالخيط الذي كان يصل بين الجميع انهم من المهتمين بالشأن الإسلامي، من داخله او من خارجه، واغلب الظن أن ذلك كان مقصوداً لان خطاب الدعوة التي وصلنا ذكر أن موضوع "الدولة والدين" هو الأرضية التي ستجرى عليها مختلف الحوارات أثناء الزيارة. ولان هذا هو الهدف فقد وضع لنا برنامج يمكننا من الالتقاء مع المسئولين ذوي الصلة، في الحكومة والبرلمان والمؤسسات المدنية والكنيسة. وكان جدول الزيارة المقترح قد تضمن في البداية لقاء مع ممثلي الجالية اليهودية، لكننا تحفظنا قبل السفر على هذا اللقاء درءاً للشبهات، خصوصاً أن الجالية تعد ذراعاً لإسرائيل في ألمانيا. ولذلك ألغيت الفقرة في هدوء.
(2)
"ينظر إلى الإسلام باعتباره معضلة اندماج... ولا أستطيع أن افهم لماذا يمكن لقناعة دينية أن تكون عائقاً للاندماج اذا جاءت من التقاليد الإسلامية، في حين لا تكون كذلك اذا جاءت من تقاليد دينية أخرى". وقعت على هذه العبارة في ثنايا محاضرة لأستاذ العلوم الإسلامية في جامعة برلين، البروفيسور راينهارد شولتسه، كانت ضمن كراسة وزعت علينا قبل السفر، عرضت لخلاصة محاضرات ألقاها 24 من العلماء والمتخصصين على مجموعة من الصحفيين الأوروبيين، نظمت لهم ندوة في برلين خلال صيف العام الماضي. وكان السؤال الأساسي المطروح فيها هو: كيف تتعامل دول أوروبا مع الإسلام؟
استوقفتني محاضرة البروفيسور شولتسه، التي اعتبرتها قراءة ألمانية للمشهد الذي نحن مقبلون عليه. ولاحظت انه وهو يتساءل لماذا تصبح التقاليد الإسلامية عائقاً يحول دون الاندماج، لا يعارض الرد القائل بأن الإسلام دين له وضع خاص.
هذه الخصوصية للإسلام اعتبرها مصدراً للقلق، حيث ربط بينها وبين ما جرى في 11 سبتمبر. وذكر في هذا الصدد أن انتماء منفذي تلك الاعتداءات إلى الحضارة الإسلامية "يظهر الدين الإسلامي وتقاليده بأنها قابلة للاستخدام سياسياً، بل إرهابياً، كما لا تفعل حضارة دينية أخرى وهذه الإمكانية تفتح الباب لتبرير الربط بين المهاجرين المسلمين والإرهابيين في وعي الرأي العام" (ملحوظة: هذا الذي فيه مغالطة لان استخدام الدين لأغراض سياسية او حتى إرهابية حاصل في الديانات الأخرى ومع ذلك لم يوضع جميع المتدينين في قفص الاتهام إلا في الحالة الإسلامية. فالكنيسة في أمريكا اللاتينية قامت بدور سياسي ونضالي تمثل في فكرة لاهوت التحرير، والمستوطنون في اسرائيل لهم منطلقاتهم الدينية، و "جيش الرب" في أوغندا الذي يضم عناصر كاثوليكية لا تختلف لافتته كثيراً عن حزب الله).
خلص البروفيسور شولتسه إلى أن الرأي العام الغربي اصبح يظهر عدم الارتياح للتعامل مع الحضارة الإسلامية، وقال انه "لا تزال الأسئلة تراود كثيرين حول جوانب الحضارة الإسلامية التي تتعارض مع العالم المتحضر" - وبسبب من تلك الشكوك - أضاف - فان البعض في ألمانيا وبقية دول أوروبا اصبحوا يطالبون بقوانين سلوك محددة للمسلمين، كشرط مسبق لدمجهم. فيدعون مثلاً إلى أمور محددة هي: الاعتراف بالفصل القاطع بين الدين والدولة - وبأفضلية الدستور على الشريعة الدينية الخالصة - ورفض الجهاد كإجراء سياسي - وإلغاء الفتوى - والاعتراف بتعدد السلطات - ودعم أولوية الأعياد الإسلامية - والاستغناء عن الدعاية العلنية للدين بواسطة المآذن والآذان، وعن الرموز الدينية في حال العمل في دوائر الدولة (المقصود حجاب السيدات) - والاعتراف بحظر الذبح وبمبدأ التعليم المختلط.
انتقد شولتسه هذه المطالب، وقال أن من شأنها أن تدفع البعض إلى رقعة الاندماج، وانه لا يجوز باسم الاندماج توجيه الانتقادات للهوية الحضارية. ومن الضرورة حلاً لاشكال العمل على إحداث وفاق مشترك بين أصحاب البلاد الأصليين والمهاجرين حول قيم التعايش التي تعد من مكتسبات الحضارة الإنسانية.
(3)
على الأرض كانت الصورة على النحو التالي: هناك ثلاثة ملايين وربع مليون مسلم يعيشون وسط 82 مليون ألماني. والمسلمون لهم 2000 مسجد (سمعنا رقماً آخر ارتفع بالعدد إلى 2600) - والأتراك يمثلون اكبر جالية إسلامية (في برلين وحدها 182 ألف مسلم، بينهم 126 ألفاً من الأتراك)، يليهم في العدد البوسنيون ثم اللبنانيون والإيرانيون. ووجود ذلك العدد الكبير نسبياً جعل من الإسلام الديانة الثانية في ألمانيا بعد البروتستانتية التي هي ديانة الأغلبية في البلاد. ورغم وجود المسلمين هناك منذ نصف قرن تقريباً (كان الأتراك هم السباقون، حيث سدوا حاجة ألمانيا إلى الأيدي العاملة لإعادة بناء ما دمرته الحرب العالمية الثانية)، إلا أن الحديث عن "مشكلاتهم" برز بشكل واضح بعد أحداث 11 سبتمبر. وهناك تسليط مستمر للأضواء على المسلمين دون غيرهم من اتباع الديانات الأخرى (قيل لنا أن في ألمانيا 120 جماعة دينية مختلفة). خلال اللقاءات التي أجريناها احتلت مشكلات المسلمين هناك النصيب الأكبر. وكان واضحاً أن الجميع يتعاملون مع الإسلام كدين له وضع خاص. وهذه الخصوصية فهمها البعض في حدود رفضه لفكرة العلمانية الداعية إلى فصل الدين عن الدولة. وفهمها البعض الآخر على نحو يوحي بشكهم في توافق الإسلام مع قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ومساواة المرأة والرجل.
أما فيما يخص المسلمين فقد تركزت انتقاداتهم على النقاط التالية: انهم مشتتون وموزعون على منظمات وجهات عديدة، (قال أحدهم أن المسلمين في ألمانيا جسم بلا رأس)، بحيث لا توجد جهة تمثلهم تستطيع السلطة أن تتعامل معها - يطالبون بإقامة المساجد وسط التجمعات السكانية مما يسبب إزعاجاً للألمان - ينكفئون على أنفسهم ويتقاعسون عن التفاعل مع المجتمع. حتى أن بعض الآباء والأمهات يمتنعون عن حضور اجتماعات أولياء الأمور بالمدارس التي يتعلم فيها أبناؤهم - تريد أغلبيتهم تدريس الدين الإسلامي لأبنائهم، في حين انه لا توجد جهة تمثيلية واحدة لهم تتحمل تلك المسئولية كما هو الحاصل مع الديانات الأخرى، ناهيك عن أن الأتراك يريدون تدريس الإسلام باللغة التركية - تتمسك بعض نسائهم بارتداء الحجاب في أماكن العمل الرسمية. مما يعتبره كثيرون انتهاكاً لتقاليد فصل الدين عن الدولة - هناك شك في أن بعض شبابهم يحتفظون بعلاقات مع الجماعات الإرهابية ، وينخرطون فيما يسمى "بالخلايا النائمة" - حرص المسلمين على نحر الذبائح في مناسبة عيد الأضحى أثار احتجاج جماعات الرفق بالحيوان التي طالبت بإيقاف هذه "التصرفات الوحشية".
(4)
بسبب تنوع الشخصيات التي التقيناها، فان المناقشات تجاوزت حدود مشكلات المسلمين، وتطرقت إلى موضوعات أخرى شتى. فقد سمعنا مثلاً من وكيل وزارة الخارجية، السيد يورجن كروبوج، انتقادات مهمة للسياسة الأمريكية في فلسطين والعراق، انصبت على سكوت الإدارة الأمريكية على ممارسات حكومة شارون، واستقوائها على العراق. في هذا الصدد فانه نبهنا إلى أن "خريطة الطريق" هي في الأصل فكرة ألمانية، تبنتها المجموعة الرباعية ثم الولايات المتحدة في النهاية. كما ذكرنا بأن ألمانيا نجحت في تعديل القرار الذي أصدره مجلس الامن لاحقاً بخصوص العراق، حيث كان المشروع الأمريكي الأصلي الذي قدم سيئاً إلى حد كبير. ومن الملاحظات المهمة التي أبداها في الشأن العراقي أن الولايات المتحدة كانت مستعدة لخوض الحرب في العراق، في حين لم تنشغل بكيفية إقامة السلام، وهو ما اعتبره مفتاحاً يفسر التخبط الأمريكي وعدم الاستقرار الحاصلين هناك.
سمعنا أيضاً كلاماً صريحاً من رئيس لجنة الشئون الخارجية في البرلمان الاتحادي، السيد فولكير روهه، انتقد فيه العالم العربي، الذي اعتبر انه لا يدافع عن قضاياه بالهمَّة والإصرار المفترضين، وهو الذي يملك إمكانيات كبيرة ولا ينقصه شيء. ليس ذلك وحسب، وإنما أعرب الرجل عن دهشته لان ثقة العرب في الولايات المتحدة اكثر من ثقتهم في الجامعة العربية، التي يفترض أنها تعبر عن إرادتهم. اخبرنا الوكيل البرلماني لوزارة الداخلية السيد فريتس رودولف (قاض سابق وعضو البرلمان الاتحادي) بأن ثمة تحولاً مهماً في الرأي العام الألماني تجاه العرب. فقد كانت نسبة النفور من العرب عالية بعد أحداث 11 سبتمبر، لكن هذه النسبة تراجعت إلى حد كبير بعد غزو العراق، بحيث ارتفعت بشكل ملحوظ نسبة التعاطف معهم (هل يفكر أحد في استثمار هذا المناخ؟). وكان مما أثار دهشتنا حين زرنا قسم اللغة العربية واللغات السامية بجامعة برلين الحرة، حجم متابعتهم الدؤوبة من جانبهم للحالة الثقافية في العالم العربي، ناهيك عن تمكنهم الملحوظ من اللغة العربية. وكان ذلك واضحاً في حديث رئيسة القسم الأستاذة انجيليكا نويفيرت التي علمنا أنها قرأت تفاسير القرآن، وكان تفسير الكشاف للزمخشري الأقرب إلى قلبها. ولازمتنا تلك الدهشة حين التقينا المسئولين عن الحوار بين الأديان في مؤتمر الأساقفة الألمان، وأقرانهم المسئولون عن الحوار بين الحضارات في مؤسسة فريدريش ايبيرت، وكان مصدر تلك الدهشة، بالنسبة لي على الأقل، هو إحاطتهم الواسعة بواقع المجتمعات العربية التي يتابعونها بدقة، إضافة إلى جديتهم الشديدة في التعامل مع الملفين. أخيراً سمعنا أيضاً كلاماً مثيراً للانتباه من رئيسة لجنة حقوق الإنسان في البرلمان الاتحادي السيدة كريستا نيكلس في دفاعها عن مفهوم الأسرة في الغرب، وتجاوزه للتعريف التقليدي المستقر في "مداركنا الشرقية"، إذ اعتبرت أن الأسرة تتشكل بمجرد التوافق والاستلطاف بين أي "نفرين"، ورغبتهما في العيش معاً. لا يهم بعد ذلك أن رجلاً وامرأة، او رجلين او امرأتين.
(5)
لك أن تتصور أننا لم نكن مستمعين طول الوقت. وفي اغلب الحوارات كان كل واحد منا يدلي بدلوه فيما أثير من موضوعات. وكانت الملاحظة الأساسية التي توافقنا عليها في شأن موضوع الاندماج أن الفكرة فضفاضة وتحتمل العديد من التأويلات، وأنها في بعض ممارساتها على الأقل لا تخلو من دعوة إلى القهر الثقافي، الذي يلغي التنوع والتعدد الذي هو من صميم الفكرة الديمقراطية. وهذه الدعوة وجدت أذناً صاغية بعد أحداث 11 سبتمبر بوجه أخص. أية ذلك أننا وجدنا المجتمع الألماني مشغولاً بقضية الحجاب، بعد أن صدر قرار في ولاية بادن فورين بمنع سيدة من اصل أفغاني تحمل الجنسية الألمانية، اسمها فريشتا لودين، من التدريس للأطفال وهي تغطي شعر رأسها بالحجاب. وهو خلاف عمره خمس سنوات حقاً، لكنه الآن معروض على المحكمة الدستورية الاتحادية، التي يفترض أن تصدر حكمها في صدده منتصف الشهر الحالي. وقد لاحظنا أن موضوع الحجاب مثار في مناقشة في حين أن عدد المدرسات المحجبات في كل ألمانيا لا يتجاوز 13 مدرسة (من بين 300 مدرسة مسلمة) - وقيل لنا أن إحدى مدارس "أخن" ترتدي مدرسة ألمانية مسلمة الحجاب منذ 20 عاماً، ولم يتحول الأمر إلى قضية شاغلة للرأي العام إلا مؤخراً. وفي شتوتجارت ظلت إحدى المدرسات تقوم بواجبها طيلة خمس سنوات خلت، ولكنها منعت من التدريس مؤخراً، بسبب الضجة المثارة حول الموضوع. هناك اكثر في إشكال آخر في الموضوع، هو أن منع الحجاب يتعارض مع وجوب احترام الحريات الدينية المنصوص عليه في الدستور، ثم انه يثير سؤالاً حول الموقف من الراهبات اللاتي يقمن بتدريس الدين للطلاب في بادن بادن منذ اكثر من نصف قرن وهن يرتدين زيهن التقليدي. ذلك أن محامي المدرسة المسلمة يقول أنها اذا منعت من ارتداء حجابها في المدرسة، فينبغي في هذه الحالة منع الراهبات من الظهور بزيهن الديني.
من الملاحظات الأخرى التي أبديت أثناء الحوارات أن تشويه المسلمين والانتقادات المستمرة لهم عبر وسائل الإعلام، حتى على ألسنة بعض المسئولين (وزير الداخلية اوتوشيللي دعا في أحد الكلمات التي ألقاها إلى محاربة ما سماه بـ: ثقافة الموت الإسلامية التي يدعو إليها المتطرفون) - مثل هذه الحملات تنمي شعور القلق والاغتراب عند المسلمين، والأمر الذي يدفعهم إلى التقوقع والتوجس، ويحول دون تفاعلهم مع المجتمع او اندماجهم فيه.
في اليوم التالي للعودة إلى القاهرة فتحت جريدة الصباح فوجدت خبراً نقلته الوكالة الفرنسية يقول أن المجلس الوطني للحريات في تونس اصدر بياناً احتجاجياً على منع الطالبات المحجبات من دخول قاعات الامتحان في الجامعات، بموجب تعليمات من وزارة التعليم العالي. استشعرت غصة حين وقعت على الخبر وقلت: يظل الوضع في ألمانيا افضل، على الأقل لان هناك قضاء يمكن التظلم أمامه والاحتكام إليه.