لا يستطيع المرء أن يخفي توجسه وقلقه إزاء محاولات استدراجنا للإجابة على مجموعة من الأسئلة الخطرة، التي تصب في وعاء البلبلة والفتنة. وهي المحاولات التي يقودها نفر من المثقفين. الأمر الذي يثير العديد من علامات الاستفهام حول حقيقة المقاصد المرجوة من وراء ذلك، ناهيك عن صدقية الدور "التنويري" الذي يقوم به المثقفون.
(1)
خذ مثلاً ذلك الحوار الذي يدور منذ أسبوعين على صفحات جريدة "الحياة" اللندنية حول التغيير في العالم العربي، وهل يكون بيدنا أم بيد "عمرو". وعمرو المقصود في هذه الحالة كناية عن التدخل الأجنبي، الذي هو أمريكي في حقيقة الأمر. فقد طرحت الفكرة في البداية بشكل محايد. ولكن أحدهم حذر في مقال لاحق من انه اذا لم يتم التغيير عبر آليات الداخل، فلا مفر في هذه الحالة من تدخل السيد "عمرو"، كما حدث في النموذج العراقي. وجاء آخر ليذهب إلى ابعد، قائلاً انه في بعض الحالات يبدو تدخل الأجنبي مطلوباً وضرورياً. وفي سياق الحوار - حتى الآن على الأقل - بدا أن ثمة تسامحاً شديداً وصل إلى حد القبول والترحيب، مع فكرة التدخل، التي يفترض أنها من المحرمات أصلاً، ومن الثوابت المستقرة في الفكر الوطني، بل في التراث الإنساني. ليس ذلك فحسب، وإنما لاحظت في الحوار المنشور أن من رحب بالتدخل او حبذه، شنوا هجوماً شديداً ضد معارضيه. وكانت تهمة "الغوغائية" في مقدمة الصفات التي ألصقت بأولئك المعارضين.
الأشد غرابة من الجرأة في طرح السؤال، وفتح باب الاجتهاد في قبول التدخل الأجنبي، أن المتحاورين ركزوا على الحالة العراقية واعتبروها نموذجاً للتدخل الذي لم يكن منه مفر او بديل لإسقاط النظام المستبد الذي كان قائماً هناك. وهو طرح لم يخل من مغالطة جسيمة. لان الأمريكيين حين ذهبوا إلى العراق لم يقولوا أن هدفهم تغيير النظام، ولكنهم أعلنوا رسمياً أن حملتهم لها هدف آخر هو تدمير أسلحة الدمار الشامل التي قيل أنها بحوزة العراق، والتي ادعوا أنها تهدد أمن الولايات المتحدة ومصالحها. وحكاية تغيير النظام واستبداله بنظام آخر ديمقراطي، لم يشر إليه السياسيون في واشنطون، ولكن تحدث عنه المنظرون لمجموعة المتطرفين القابضين على السلطة هناك. وتعالت أصواتهم في هذا الاتجاه بعد الفشل في العثور على أسلحة الدمار الشامل. وسوف استغرب كثيراً اذا قيل لي إن المتحاورين لم يدركوا أن للحملة العسكرية أهدافاً استراتيجية أخرى تختلف عن كل ما ذكر، وتكمن في التطلعات الأمريكية الإمبراطورية والنفطية والمصالح الإسرائيلية. أما الطنطنة بمسألة الديمقراطية وأسلحة الدمار الشامل فهي من قبيل الدجل السياسي والإعلامي، الذي استخدم كذريعة لتسويغ الاحتلال وكسب تأييد الرأي العام الغربي له.
(2)
لقد شاءت المقادير أن تسقط الحرمة عن التدخل. ويفتح فيه باب الاجتهاد. في حين أن قبح النموذج الذي يضرب به المثل يتكشف يوماً بعد يوم. ويد "عمرو" المرشحة للقيام بهذه المهمة صارت مجرحة وشائهة على نحو يسقط عنها الجدارة فضلاً عن البراءة، الأمر الذي يفترض أن يغلق باب الاجتهاد في الموضوع، على الأقل من جانب أهل الإنصاف الذين يتوافر لهم بعض العقل وبعض الحياء.
لا ننسى أننا حين نتحدث عن قبح النموذج الذي يستشهدون به نقفز فوق حقيقة أخرى هي من المعلوم بالضرورة في عالم السياسة والثقافة. ذلك أننا لا نعرف في العصر الحديث دولة كبرى احتلت بلداً آخر، لتخليصه من الاستبداد وإعلاء شأن الحرية والديمقراطية فيه. والأوروبيون حين رفعوا في القرن التاسع عشر رايات تحضير أفريقيا وانتشالها من وهدة التخلف والجهالة، ومن ثم البسوا أطماعهم ثياباً رسالية وتبشيرية، انفضح أمرهم بسرعة، وصنفت حملاتهم ضمن الجرائم التي ارتكبها الرجل الأبيض ضد الإنسانية.
أننا اذا نحينا هذه الصفحة جانباً، وأمعنا النظر في المشهد الراهن، فسنجد أن أولئك الذين يرشحون لإصلاح أوضاعنا في الداخل تخلوا عن النزاهة في المبتدأ، وعن البراءة في المنتهى، ومن ثم قدموا نموذجاً غير مشرف، يفقده أهلية القيام بالدور المنشود. فلم يعد سراً أن الذين خططوا لاجتياح العراق هم نفر من المتطرفين الأصوليين والصهاينة، الذين لجأوا إلى الكذب والغش وخداع الرأي العام لإيهام الناس بأن ثمة خطراً داهماً يهدد أمن الولايات المتحدة. وحين شنوا حربهم فانهم داسوا بأحذيتهم على الشرعية الدولية وتخطوا مجلس الامن، وتصرفوا كعصابة مسلحة خارجة على القانون، وليس كدولة كبرى تحترم القانون. وحين اسقطوا النظام القائم في بغداد، فانهم نجحوا في هدمه. لكنهم فشلوا في كل ما عدا ذلك، واعتمدوا فيما حاولوا بناءه على نفر من رجالهم، الذين كان بعضهم من العملاء ومرتكبي الجرائم المخلة بالشرف. ثم أنهم مارسوا القهر والإقصاء بحق الذين اعترضوا على احتلال بلادهم، وأرادوه حراً مستقلاً. ومن هؤلاء من كان منفياً بالخارج، ولم يسمح لهم بالعودة إلى وطنهم! - وحتى الآن فان تغيير النظام القائم في العراق - كما في أفغانستان - فتح الباب لإشاعة الفوضى وعدم الاستقرار.
والأمر كذلك، فان الصورة التي يطالعها المرء لحالة العراق تعد شهادة ضد دعاة الاستعانة بالخارج لإحداث التغيير المنشود إلى الأفضل، وليست في صالحهم بأي معيار. لذلك فان الدهشة لا بد أن تمتلكنا، والشكوك لا بد أن تساورنا، إزاء إثارة الجدل ومحاولة الاجتهاد في شأن فكرة مزيفة، مجرحة في اصلها، ومجرحة في تطبيقاتها.
(3)
ثمة قائمة طويلة من الأسئلة المماثلة التي تثير البلبلة وتصب في مجرى الفتنة الذي أشرت إليه. منها ما هو من وحي الحالة العراقية، مثل ما اذا كان علينا أن نختار بين الاستبداد والاحتلال فأيهما نفضل، وما اذا كان الذين يقاومون الاحتلال إرهابيين أم وطنيين، وما اذا كان الذين يتعاملون كمرشدين لقوات الاحتلال عملاء أم متعاونين.. الخ.
انك اذا دققت في تلك الأسئلة وأمثالها ستلاحظ على الفور أنها تنطلق من رؤية رخوة ولينة إزاء الاحتلال، فهي تدغدغ مشاعر المواطن العادي مثلاً بالسؤال الأول، فتخيره بين أمرين يفترض انهما مرفوضان من الأساس. لكن الاستبداد يذل المواطن في حين أن الاحتلال يذل الوطن كله، وقد يضعف الإنسان فلا يرى بأساً من أن يتغاضى عن إذلال الوطن بالاحتلال، في مقابل أن ينقذ نفسه من الاستبداد. كما أن السؤالين الآخرين لا يعتبران أن رفض الاحتلال او مقاومته هما الموقف الطبيعي لأي مواطن سِوىّء لديه حد أدنى من الكرامة واحترام الذات. ولا يحتاج هذا الموقف إلى إرهابي او متطرف كما انه لا يشترط فيه أن يكون بعثياً او من أنصار النظام السابق. وقد يكون الاخيرون من بين المقاومين لأسباب مفهومة، لكن لا ينبغي لنا أن نفترض أن يكون كل مقاوم بعثياً او صدامياً. وأحسب أن عملية تليين الموقف من الاحتلال، وهز الثقة في المقاومة والتشكيك في مقاصدها، هو الهدف من إثارة مثل هذه الأسئلة المغلوطة، التي يراد لها أن تهز ما هو ثابت، وتجعل مثل هذه الأمور مجالاً للاجتهاد الذي يؤدي إلى اختلاف وجهات النظر، وتهوين العزائم في نهاية المطاف.
ثمة أسئلة أخرى تستنكر الانتماء العربي وتشكك في جدواه، وتستدعي ملف الهزائم والانكسارات لكي تستشهد بها في ذم العروبة والمنتمين إليها، والتحذير من إحياء شعارات تجاوزها الزمن وأوصلتنا إلى الفشل. وهو ما تبنى عليه خلاصات من قبيل رفع شعار "بلدنا أولاً" التي تبطن دعوة إلى التمسك بفكرة نحن فقط، ولا شأن لنا بالعرب او فلسطين، ومن قبيل ضرورة ملاحظة حركة العالم والانفتاح على متغيراته، التي تبطن بدورها دعوة إلى التحالف مع الولايات المتحدة - زعيمة الحالة الحرة! - فلديها النموذج ومعها تتحقق المصالح، والمراهنة عليها سبيل التقدم والازدهار. في حين أن معارضتها هي سكة الندامة التي خير فيها ولا رجعة منها. وهو ما أزعج عقلاً عربياً كبيراً مثل الدكتور كلوفيس مقصود، الذي كتب محذراً من هذا التراجع، وقائلاً أننا في الماضي رفعنا شعار عدم الانحياز، لكن الأمور تغيرت في هذا الزمان حتى اصبح غاية مرادنا أن تقف عند حدود عدم الانصياع.
وفي حين تتم خلخلة ثوابت الانتماء العربي، ويتم تليين الموقف من الاحتلال، فان الحلقة الثالثة من مسلسل الفتنة تدور حول تعبير طريق التطبيع مع اسرائيل من بابين، باب توهم تحري المصالح الخاصة الذي يرفع عليه شعار "بلدنا أولاً"، وباب الرغبة في مد الجسور مع الولايات المتحدة الذي اقتنعت بعض النخب العربية بأن مفاتيحها في اسرائيل ومع قوى الضغط الصهيونية في واشنطون. ولأجل ذلك فان القبول بأي تسوية تحت أي تسمية وبأي ثمن، يصبح واجباً، وهجاء المقاومة واعتبارها تطرفاً وإرهاباً يغدو وارداً بل مطلوباً، ونحن نشهد تطبيقات عملية لتمارين تمهيد طريق التطبيع وتوسيع نطاقه على اكثر من جبهة في العالم العربي.
(4)
لا نبالغ اذا قلنا أن هذه الحوارات والإشارات اذا لم تكن تجري وفقاً للاجندة الأمريكية، فهي تصب في صالحها. الأمر الذي أدى إلى تراجع العديد من أولويات الاجندة المحلية. وهو نجاح للسياسة الأمريكية يجب الاعتراف به. إذ ليس سراً انه منذ أحداث 11 سبتمبر فان الضغوط الأمريكية استطاعت أن تفرض اجندتها على العالم بأسره، وأصبحت مكافحة الإرهاب مثلاً هي الشغل الشاغل للجميع، حتى في دول العالم الثالث التي تعاني من الفقر وسوء التغذية والملاريا والسل والإيدز.
غير أننا في الوقت ذاته نسجل ملاحظة أخرى لا تخلو من مفارقة، هي أن الأسئلة التي تطرح والجدل الذي يدور حولها، ذلك كله يجري في دائرة محدودة نسبياً، تضم جماعات المثقفين ذوي الاتجاهات التغريبية، ومنهم من هو محسوب على "حزب أمريكا" في العالم العربي. وهذه الموضوعات والعناوين المثيرة للجدل والتي تتعدد فيها الاجتهادات محسومة إلى حد كبير لدى الرأي العام العربي، الذي يبدو انه يتمتع بدرجة من الوضوح والنقاء والإخلاص، تفوق بكثير ما لدى أولئك النفر من المثقفين. وكنت قد نوهت إلى تلك الملاحظة في مقام سابق، وقلت أن من نصفهم "بالغوغاء"، ونعتبرهم أناساً من الدرجة الثانية في الوعي والإدراك، يثبتون بين الحين والآخر انهم افضل وأكثر براءة من المثقفين الذين اصبحوا يعانون من ضبابية الرؤية وتعدد الولاءات، وضغوط المصالح والأهواء.
نحن الآن بصدد موقف من ذلك القبيل، إذ الأمر محسوم ومستقر بين الناس إلى حد كبير إزاء الاحتلال والهوية والمقاومة والتطبيع. وما نشهده في العراق وفلسطين وفي كل عاصمة عربية تمكن من توصيل صوتها إلينا، يؤيد هذا الذي ندعيه.
ورغم أن ذلك يطمئننا بصورة نسبية، إلا أننا لا نستطيع أن نقطع بان استمرار طرح أسئلة الفتنة وتهوين العزائم لن يكون بغير صدى، خصوصاً أن أعداداً غير قليلة ممن يتصدون لتلك المحاولات يعلو صوتها في الأجواء الراهنة، وتلقى دعماً وتشجيعاً من الخارج. ثم منهم من يتصدى لبعض المواقع الإعلامية المؤثرة التي تتبنى دعاواهم وتبثها طول الوقت.
يبعث على الحيرة ويضاعف من التوجس أن ذلك النوع من البث او الإرسال يصدر مكثفاً في لحظة تاريخية حرجة للغاية. فمن تطرف واستعلاء مشهودين لفريق الغلاة المتحالفين مع القوى الصهيونية في الولايات المتحدة، إلى إرهاب غير مسبوق من حكومة شارون الدموية في اسرائيل، إلى انفراط للصف العربي وهشاشة شديدة في بنيانه. وهي ملابسات تدفعنا إلى التساؤل عما اذا كان التزامن بين محاولة إشغال الناس بمثل الأسئلة التي قدمناها وبين هذه الأجواء مجرد مصادفة، أما ماذا؟