أخبار متعلقة
لا شك ان الصورة العربية في الذهنية الأدبية والفكرية الروسية ماثلة للعيان لعل اهم محرك لها تلك الأنماط العديدة من الاستشراق الروسي، وعلى العموم فان روسيا تشكل في حقيقة الأمر بالنسبة لأقطار الأمة العربية في مجالات متعددة أهمها المجالات الثقافية والتاريخية والعسكرية أهمية لا يمكن الاستهانة بها او تجاهلها، فالتلاقي بين الغرب والروس فيما له علاقة بالمصالح المتبادلة وارد وواضح، وقد تعمقت هذه المصالح لتشكل بدورها ارتباطا عميقا وجذريا ضمن انعطافات نوعية في العلاقات أصلت الى زرع استراتيجية ثابتة من التعاون لاسيما بعد انحلال الاتحاد السوفيتي وظهور روسيا باعتبارها الوريث الشرعي والوحيد للامبراطورية المنهارة السابقة، فثمة تغييرات جوهرية طرأت في العلاقات العربية ترافقت مع ذلك الانهيار لاسيما في الميادين السياسية والتغييرات التي طرأت على أصعدة عالمية عديدة، وكما نعلم ان العلاقات العربية، ابان تواجد الامبراطورية السابقة كانت واهنة، وهذا ما يفسر وجود فراغ كبير بعد تلك القطيعة، أمكن سده بعد مجيء الوريث الروسي.
تعاونيات عديدة
صحيح ان الغياب لم يكن كليا بين العرب والامبراطورية المنهارة غير ان الرغبة العربية في اعادة علاقاتها مع الوريث الروسي ادت الى ظهور تعاونيات عديدة مهدت لسد ذلك الفراغ الكبير، لاسيما اذا علمنا أن التاريخ يتحدث عن علاقات أزلية بين العرب والروس يمكن تجديدها اليوم وبعث الحياة فيها من جديد، وقد وضع مستشرقون روس عدة مصنفات هامة وحيوية تتناول ذلك التاريخ بكثير من الشرح، وهي تطرح رؤية لعلاقات متأصلة انقطعت فترة غير ان ايجاد المخارج المناسبة والواقعية لاعادتها من جديد لا يمثل معضلة، فثمة تفاهم بين الطرفين العربي والروسي يمكن ان يبنى عليه تحالف قومي يستهدف نصرة القضايا العربية العادلة لاسيما ان الروس لا يضمرون اي عداوة لأي قطر عربي فهم اصدقاء، وعلى أقل تقدير فهم يقفون موقفا حياديا لا معاديا ازاء القضايا العربية، وبالتالي فان روسيا تشكل حقيقة حليفا للدول العربية ويمكن انشاء علاقات جيدة على أصعدة اقتصادية وثقافية وسياسية على قواعد واركان ذلك الحلف، فتاريخ العلاقات العربية - الروسية الموغل في القدم يمهد اليوم لقيام علاقات قوية بين الطرفين، وهي علاقات لاشك ستغدو فاعلة ومؤثرة ومتحركة في جوانب عديدة.
تأطير العلاقات
فالدراسات السياسية التي تناولت بغزارة واسهاب الواقع الروسي وكيف يمكن ان تكون له صلة بالعرب مدعاة لبناء علاقات عربية - روسية حديثة، فثمة شخصيات فكرية وأدبية روسية كتبت عن العالم العربي وبالعكس، ومن شأن هذه الكتابات القديمة والحديثة على حد سواء ان تؤطر لعلاقات جيدة يمكن تنميتها وتطويرها على الأماد القريبة والبعيدة لما فيه خير للجانبين وتحقيق مصالحهما المشتركة، ولاشك ان جهود المفكرين الروس في البحث عن الآداب الشرقية والعربية بوجه خاص وانعكاساتها في مصنفاتهم لها أهمية قصوى لمن يسبر اعماق اي دراسة تتناول الشؤون الدولية او العلاقات الثقافية بين الأمم والشعوب، فليس من الضرورة ان تصل الى رجل القرار السياسي او رجل الدبلوماسية، بل يكفي ان تكون تلك الجهود والبحوث واحدة من الأسس التي تبنى عليها العلاقات الروسية - العربية لاسيما في جوانبها الفكرية والثقافية، غير ان الحاجة ملحة لتعميق تلك الروابط من انشاء مركز للدراسات الاستراتيجية يقوم بدراسة طبيعة تلك الروابط بين الجانبين ويدعو الى تأصيلها، لاسيما ان اسرائيل تفعل الأفاعيل في موسكو حيث أنشأت مركزا لما يسمى بدراسات الشرق الأوسط، ولكنه معني بكتابات ودراسات ضد العالم العربي، تسوق وتروج للمشروعات الاسرائيلية في المنطقة في حين ان العالم العربي غائب او مغيب عن هذه المسألة.
الحرية والاستقلال
ولاشك ان روسيا مهتمة بما يجري في منطقة الشرق الأوسط وتسعى جاهدة من خلال مواقفها السياسية المعلنة لوقف نزيف الدماء على الأراضي الفلسطينية، وترى روسيا من تجاربها الخاصة ان اراقة الدماء توقع الى الوراء اي عمل سياسي مؤهل للتفاوض والحوار، وللحق فان موسكو مازالت تثمن الحقوق المشروعة لشعب فلسطين، وحقه الطبيعي في اقامة دولته المستقلة، كما انها تحترم نضاله المشرف لبلوغ أهدافه، وشاء موقع روسيا الجغرافي ان تكون على مفترق طرق الغزوات المختلفة عبر التاريخ، سواء من الشرق نحو الغرب او العكس، فموسكو تدرك جيدا اهمية الحرية والاستقلال والسيادة لأي شعب من الشعوب، والروس ضحوا بالملايين من الضحايا في هذا الطريق، وعندما قامت اسرائيل في غفلة من العالم في قلب الكيان العربي في اعقاب الحرب الكونية الثانية اعتبرت موسكو ان للفلسطينيين الحق في اقامة دولتهم المستقلة على تراب ارضهم الوطني، ولم يتغير هذا الموقف الروسي منذ اعلانه، ولا يجوز الحديث من هذا المنطلق عن تغيير قد يطرأ في الموقف الروسي، رغم ان روسيا شهدت تواجدا مكثفا للوبي الصهيوني على اراضيها، وقد حاول هذا اللوبي مرارا وتكرارا تغيير تلك السياسة او زحزحتها واعطاءها دور المراقب الموضوعي بهدف ارضاء الجميع، ولكن روسيا رفضت هذه الممارسات، وعندما فشلت تلك المساعي اللوبية بذلت الجهود لتحييد روسيا واخراجها من عملية أزمة المنطقة.
موقف ثابت
وليس من الصعب القول ان بوتين حصل على ارث سياسي صعب ومعقد، وقد جرت عملية جرد لهذا الارث، وانتهت العملية، ولعل من اهمها ذلك الاختبار الموضوع للدبلوماسية الروسية، اعني التصويت الذي جرى قبل فترة في مجلس الأمن الدولي، حيث اثار هذا التصويت بملامحه الهستيرية المتشنجة القوى المؤيدة لاسرائيل في داخل روسيا نفسها، وتعرض الموقف الروسي لانتقادات عنيفة وصاخبة من وسائل الاعلام في الغرب وفي داخل روسيا ايضا من قبل وسائل اعلامية يديرها اشخاص يحملون جنسيات مزدوجة روسية واسرائيلية، غير ان ذلك لم يغير من الموقف السياسي الروسي الثابت تجاه القضية الفلسطينية، ويبدو واضحا للعيان ان الدبلوماسية الروسية لها مسلك متميز ازاء قضية الشرق الأوسط، ففي الوقت الذي يقف فيه الرأي العام الروسي الى جانب الشعب الفلسطيني فان المواطنين الروس في جميع ارجاء بلادهم يتساءلون بالحاح: لماذا لا يحصل الفلسطينيون على حقوقهم ويقيمون دولتهم المستقلة، ولماذا لا تجرى مساواة بين الفلسطينيين والاسرائيليين، وعلى العموم فان مجلس الدوما الروسي يقف الى جانب الفلسطينيين بالمطلق.. فرغم عدم وجود سيناريو روسي جاهز لحل النزاع في منطقة الشرق الاوسط، الا ان روسيا ترى أن الحلول ممكنة، وان الولايات المتحدة يجب الا تتحمل المسؤولية كاملة عما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
الانفراد خطأ
ويرى الروس ان الولايات المتحدة يجب ان تعطى الفرصة لدول كبرى لتأخذ دورا في المشاركة في حل ازمة المنطقة والا تنفرد هي وحدها بمعالجة موضوع المستوطنات الاسرائيلية والقصف الذي تتعرض له المدن الفلسطينية على سبيل المثال، وترى روسيا ان ذلك كله ربما يتوافق مع الأوضاع السياسية على اعتبار ان الولايات المتحدة تمثل القطب العالمي القوي الأوحد بعد سقوط القطب السوفيتي، فالولايات المتحدة تعتبر نفسها ملمة بكافة الأمور، وان مفاهيمها الديمقراطية هي مفاهيم عالمية ينبغي تطبيقها في كافة ارجاء العالم، وترى روسيا ان تلك الهيمنة ربما تعود الى ان الولايات المتحدة لا تملك تاريخا عريضا، وبالتالي فهي لا تملك احترام تقاليد الثقافات الأخرى، بل هي تخشى من تلك الثقافات، ولا تفهمها كما يجب ان تفهمها، ومنها الثقافة العربية والروسية والصينية مثلا، وتظن روسيا ان ثمة اخطاء في التعامل السياسي الامريكي مع ازمة منطقة الشرق الاوسط، فالولايات المتحدة ارادت تسريع المفاوضات بين الفلسطينيين والاسرائيليين، وهو تسريع ارادت تحقيقه قبل نضوج نقاط معينة مثل عقبة القدس، حيث لم يتوفر حل وسط لهذه المدينة، وبالتالي فمن الصعب ايجاد حل سريع للأزمة الفلسطينية بمنأى عن حل قضية القدس، فمن الخطأ من وجهة النظر الروسية تكثيف المفاوضات وتسريعها دون النظر في تلك المسألة وحلها، لأن ابقاء قضية القدس معلقة سوف يؤدي الى مزيد من اندلاع العنف، وهذا ما يحدث على ارض الواقع حاليا.
حفظ الأمن
ولعل من الملاحظ في عرف السياسة الروسية ان لحظات الوصول الى مفاوضات في مسألة القدس كان كل من الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي قد استنفد مالديه من مرونة ومن تنازلات بما ادى الى عدم الاقدام على اي تنازلات جديدة، وبالتالي تعرض الجانبان لانتقادات عديدة، في وقت تحث فيه الولايات المتحدة على التوقيع على حلول نهائية بين الطرفين.. وهو امر اشبه ما يكون بالمستحيل.. وازاء ذلك فشلت المفاوضات، واشتعلت الأوضاع في المنطقة، وغدت أكثر سخونة، وترى روسيا ان الولايات المتحدة تتحمل الجزء الأكبر في الاخفاق الذي منيت به عملية التسوية في المنطقة على اهم مسار من مساراتها، وترى روسيا منذ زمن بعيد، وقد جددت هذه الرؤية مؤخرا أن من الضرورة بمكان ارسال قوات سلام دولية الى الشرق الأوسط لحفظ الأمن، وتظن ان تلك القوات سيكون لها دور فاعل وايجابي في حفظ الأمن المفقود في الأراضي الفلسطينية، ومن ثم التمهيد لاحياء المفاوضات من جديد، اي ان الفرصة ستكون سانحة ساعتئذ لوقف اراقة الدماء والدخول في عملية احياء مسيرة التفاوض.
مفاوضات حقيقية
ومن هذا المنطلق فان روسيا لاتزال عند رأيها بأن قوات حفظ الأمن الدولية ستتمكن من اطفاء نار العنف والتمهيد لمفاوضات حقيقية بين الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي، ورغم عدم وجود آراء مشتركة بين روسيا واوروبا حيال هذه الرؤية السياسية بسبب الضغوط الصهيونية التي تمارس ضد صناع القرار في عديد من الدول الأوروبية، الا ان روسيا ترى ان ثمة نموا للاقلية الاسلامية في عدد من البلدان الأوروبية، وهي تعول على هذا النمو كثيرا، ففي فرنسا على سبيل المثال ستة ملايين مسلم، والاحصاءات الرسمية تشير الى وجود اربعة ملايين مسلم في المانيا، والمسلمون يتكاثرون في بريطانيا ايضا، بمعنى ان الجاليات الاسلامية آخذة في التكاثر في اوروبا، وهذا يعني على المدى القصير ان الحكومات الأوروبية سوف لن تتجاهل القضايا العربية المصيرية وعلى رأسها قضية القدس التي تهم المسلمين والعرب، فالمسلمون في تلك الشعوب مواطنون ولهم رأيهم ازاء ما يجري في الشرق الأوسط، ولاشك انهم سوف يسعون للتأثير بشكل مباشر على مواقف حكوماتهم، ويرى الروس ان التواجد الصهيوني في القارة الأوروبية قوى ومتأصل وفاعل، ولكن الاقليات الاسلامية ايضا لها كلمة، وبالتالي فان الصراع بدأ يظهر بينهما هناك، ويمكن ازاء ذلك تفسير الانقسامات التي حدثت داخل الاتحاد الأوروبي اثناء التصويت حول الشرق الأوسط، غير ان روسيا مازالت ترى ضرورة اتخاذ موقف اوروبي موحد تجاه مسألة النزاع الفلسطيني - الاسرئيلي، وترى انه لولا وجود الاتحاد الأوروبي كهيئة سياسية لكانت عدة بلدان اوروبية كبرى اشتركت منفردة مع روسيا في رعاية العملية السلمية في منطقة الشرق الأوسط وأشرفت عليها.
ايفانوف والامير سعود الفيصل في مؤتمر صحفي