عوامل كثيرة تحول دون التقدم في المعلوماتية، ومدن الانترنت العربية تحكمها الانشطة التجارية والاعلامية.
كانت صورة الهند في العالم العربي مقترنة بالتخلف، وخاصة في الخليج العربي، حيث تنتشر بكثافة العمالة الهندية، التي تتمركز في مجالات العمل الشاقة، لقاء أجور زهيدة. لكن للهند صورة جديدة بدأت بالصعود، منذ عقد التسعينيات، فهي (وادي سيليكون) جديد، جنوبي آسيا.. إذ تستقطب الهند صناعة تقنية المعلومات بشكل متزايد، وقد تحولت مدينة بنغالور الهندية إلى معقل عالمي لهذه الصناعة، استوطنت فيه كبرى الشركات العاملة في هذا الحقل على مستوى الأرض، وبرعت فيه شركات محلية أيضاً.
ويكتشف العرب اليوم، بما في ذلك منطقة الخليج، التي تتطلع إلى الإفادة من العوائد الاقتصادية لثورة المعلومات، أنّ للهند وجهاً آخر سبق إلى المنافسة، تجدر قراءة تجربته، طالما أنّ الهند تقع في الجوار الخليجي، وأنها أمة نامية أيضاً.
ومما يلخص قصة النجاح الهندية، في مجال تقنية المعلومات، توقعات اتحاد شركات البرمجيات الهندية (ناسكوم)، التي تقدِّر قيمة الصادرات الهندية من صناعة البرمجيات وخدماتها في العام 2008 بنحو خمسين مليار دولار، بينما لم تتجاوز هذه القيمة في عام 2002 ستة مليارات ومائتي مليون دولار، وهو ما كان حتى الآن نجاحاً كبيراً، أو مذهلاً.
وفي المحصلة، تكون الهند قد نجحت في بناء صورة لها كمصدر أول لمحترفي تقنية المعلومات في العالم. وقد عُرفت الهند بدءاً من خمسينات القرن الماضي بكونها مصدراً أساسياً لخبراء الحاسوب في العالم، وشجع انخفاض الأجور، وتواضع تكاليف المعيشة فيها، وانتشار اللغة الإنكليزية، الكثير من الشركات الأجنبية، ليس فقط على الاستعانة بشركات هندية لأداء خدمات التطوير الخارجي، ولكن أيضاً على افتتاح فروع كبرى لها في الهند، تضم آلاف الموظفين لأداء هذه العمليات.
ويبدو أنّ تنامي هذه الصناعة في الهند بأشكالها المختلفة، وانتشار الخبراء الهنود حول العالم، قد أصبح يشكل تهديداً لسوق العمل لأخصائيي تكنولوجيا المعلومات في بلد كالولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي دفع ممثل ولاية نيوجرسي في مجلس الشيوخ، لاقتراح تشريع يمنع على غير مواطني الولايات المتحدة، أو الذين لا يملكون رخصا للعمل، أن يعملوا في بعض مشروعات تقنية المعلومات.. وقد أعلنت شركة (أوراكل) العاملة في قطاع تقنية المعلومات في حزيران/يونيو الماضي عن عزمها على مضاعفة عدد موظفيها في الهند من ثلاثة آلاف إلى ستة آلاف خلال سنة واحدة. ويأتي ذلك منسجماً مع كون الهند هي المقر الرئيس لعمليات الدعم الفني لهذه الشركة العملاقة، كما يجري فيها قسم كبير من عمليات التطوير، بل تعتزم الشركة نقل خدمات أخرى تابعة لها إلى الهند، بما في ذلك المحاسبة الداخلية.
ولكن ما هي العوامل، التي تقف وراء تفوق الهند في صناعات تكنولوجيا المعلومات وخدماتها، بحيث أصبحت الآن الدولة الأولى في خدمات التطوير الخارجي (Outsourcing)؟
يرى معتصم زكار، الخبير في القرية الإلكترونية في أبوظبي، أنّ عوامل نجاح التجربة الهندية يتمثل في الكتلة البشرية الهائلة، التي ينطوي عليها هذا البلد، فالهند هي ثاني أكبر دولة في العالم، بالنظر لعدد السكان، الذي يتجاوز المليار نسمة، ويساعد انتشار الجامعات والمعاهد التقنية على تخريج أعداد هائلة من أخصائيي تكنولوجيا المعلومات.
ثم إنّ للعامل اللغوي دوره في هذا الميدان، إذ تعتبر اللغة الإنكليزية، وهي اللغة المهيمنة على قطاع تقنية المعلومات، اللغة الرسمية الثانية في الدولة، وفي كثير من الأحيان يتكلم الهنود بها، وخاصة في الولايات الجنوبية من شبه القارة. وبالمقابل، ساعد انخفاض تكاليف المعيشة في الهند وما يتبعه من انخفاض في الأجور، على زيادة قوة العمل في البلاد.
ولكن للجودة الهندية دورها. فمعظم الشركات الهندية العاملة في خدمات التطوير الخارجي حائزة على شهادات الجودة (الإيزو)، إلى الدرجة التي جعلت ثلاثة أرباع الشركات الحائزة على شهادات الجودة المتعلقة بشركات تكنولوجيا المعلومات SEI-CMM، موجودة في الهند.. ومما ساعد الهند على تحقيق نجاحها في هذا الميدان ما تتمتع به من بنية اتصالات قوية، خاصة في مراكز صناعة المعلومات. ويؤكد معتصم زكار أنّ مزودي الإنترنت ومزودي الاتصالات اللاسلكية متوفرون في كل أنحاء الهند، علاوة على شبكة فاعلة من الأقمار الصناعية والكابلات البحرية، التي تؤمن اتصالاً جيداً مع كافة أنحاء العالم. وتضطلع هذه البنية التحتية العملاقة بدور هام في تنمية خدمات التطوير للخارج، فتجعل الشركات الأجنبية على اتصال مستمر ودائم مع مزودي هذه الخدمات.
إلاّ أنّ أحد العوامل الحاسمة في النجاح الهندي في ميدان تقنية المعلومات يعود إلى تطوير حلول برمجية متقدمة، فهناك الكثير من التجارب الهندية الناجحة، التي مرت عليها سنوات من التطوير، وتشمل هذه التجارب حلول التجارة الإلكترونية، وحلول قواعد البيانات بكل أنواعها، وحلولاً محاسبية، وحلول النشر الإلكتروني، مما يسهل على الشركات الأجنبية الاعتماد الكامل على الشركات الهندية لاستعمال مثل هذه الحلول.
أما الاقتصاد الهندي فهو عامل آخر مشجع، فهو يحقق نمواً مستمراً، ويساهم قطاع الخدمات بنحو 51 في المائة من الدخل القومي، في حين يشهد قطاع تصدير البرمجيات نمواً سنوياً يتراوح بين 40 إلى 50 في المائة، إلى الدرجة، التي جعلت الهند تتبوأ المكانة الثانية في العالم في تصدير البرمجيات، وسط ظهور متزايد لشركات عملاقة فيها مثل (ويبرو)، و(إنفوسيس).. ويرى الخبير العربي معتصم زكار أنّ هذا النجاح الهندي لا يمكن فصله عن وجود (نظام سياسي مستقر وحكومات ديمقراطية، تشجع وترعى تطور صناعة البرمجيات والاتصالات، وتتبع سياسات اقتصادية وضريبية خاصة تجاهها)، كما أورد في دراسة أعدها عن التجربة الهندية في هذا الحقل وعرضها في الاجتماع السنوي الثالث للقطاع الخاص الذي نظمه في الأردن المكتب الإقليمي العربي للاتحاد الدولي للاتصالات في شهر تشرين الأول/أكتوبر الحالي. ويدعم النظام الضريبي الهندي صناعة البرمجيات والتطوير الخارجي للخدمات، فهناك إعفاء ضريبي لمدة خمس سنوات للشركات المزودة للإنترنت، وإعفاء لمدة عشر سنوات للمجمعات التقنية مثل المجمع، الذي شيدته شركة صن مايكروسيستيمز في بنغالور، والذي يضم خمسة آلاف مبرمج وفني، بينما تمنح الهند إعفاء ضريبياً لمدة عشر سنوات للشركات العاملة في البحث العلمي. وإذا كان العالم العربي ينظر إلى التجربة الهندية بوصفها دليلاً إضافياً على حالة العجز العربي المزمنة، فإنه يرى فيها بالمقابل فرصة مشجعة على إمكانية اللحاق بقصة النجاح ذاتها، طالما أنّ الهند تبقى دولة نامية، وتعج بملامح الفقر. وفي الوقت الذي يطمح فيه مسؤولون عرب إلى تقليد التجربة الهندية في بلدانهم، يؤكد معتصم زكار، الخبير في القرية الإلكترونية بأبوظبي، أنه رغم كل ما يقال عن توجه الدول العربية نحو تقنية المعلومات، وإنشاء مدن للإنترنت، وتجمعات تقنية، إلا أننا ما نزال بعيدين عن القيام بتجارب مماثلة للتجربة الهندية، على حد تقديره.. ويربط ذلك بعوامل موضوعية، فعدم الاستقرار السياسي في المنطقة، والصراع مع الاحتلال الإسرائيلي قد ألقى بثقله على بعض من أكبر دول المنطقة كمصر وسورية، وأعاق التنمية فيها، إضافة إلى الدول الأخرى كلبنان والأردن.. ثم إنّ هناك ضعفاً في البنية الأساسية للاتصالات في العالم العربي. وأما الدول التي تمتلك بنية اتصالات متطورة كالإمارات، فيبدو أنّ التوجه نحو الأنشطة التجارية هو المسيطر، بحسب زكار، الذي يقول إنه رغم الصورة المشرقة لمدينة دبي للإنترنت، إلا أنّ معظم الأنشطة فيها هي أنشطة تجارية وإعلامية.
ويلفت زكار الانتباه إلى ارتفاع تكاليف المعيشة في الإمارات، بوصفه يحدّ، أو حتى يجعل من المستحيل على شركات تقنية المعلومات العملاقة، أن تفكر بإنشاء تجمعات تضم أكثر من عشرين شخصاً في دبي، بينما الجار الهندي يفتح ذراعيه لهذه الشركات، ويزودها بجيوش جرارة من المبرمجين، وبأجور أقل بنحو 50 إلى 75 في المائة من الأجور، التي تحتاج هذه الشركات إلى دفعها في الإمارات، كما يورد الخبير في دراسته. ومن الواضح أنّ اهتمام الحكومات العربية بصناعة تقنية المعلومات لا يرقى إلى ما تفعله الحكومة الهندية، وبالتالي لا يوجد هناك إعفاءات ضريبية ولا تسهيلات خاصة للمستثمرين، باستثناء دولة الإمارات، لكن بالمقابل، هناك فرصة كبيرة تستطيع دول المنطقة اغتنامها لإنشاء صناعة خدمات التطوير الخارجي، وذلك بالعمل على زيادة عدد المعاهد والكليات، التي تدرس تقنية المعلومات، بحيث يكون في كل مدينة عربية معهد أو كلية واحدة على الأقل، مع تشجيع الدارسين على الحصول على درجات عالية كالماجستير والدكتوراه.
ويشير الخبير إلى أهمية إيلاء الأهمية القصوى لتحديث المناهج في هذه المعاهد والكليات باستمرار، وإعطاء حرية للمدرسين لتغيير جزء من المنهاهج، بحسب الضرورة. ثم إنّ الأمر يتطلب اعتماد سياسات خاصة لتشجيع قيام صناعة تكنولوجيا المعلومات، تشتمل على إعفاءات ضريبية، وتسهيل المعاملات واستقطاب المستثمرين الأجانب للمشاركة فيها، دون إهمال ضرورة تطوير البنية الأساسية للاتصالات، وتشجيع البحث العلمي.