أخبار متعلقة
تحاول هذه الدراسة تلمس العناصر المختلفة المكونة لنصوص المجموعة القصصية (شارع الثلاثين) بأدوات بنيوية (من خلال رصد المكان والزمان، والشخصيات، وما ينتج عن تفاعلهم من وقائع وأحداث) تساعد على تأويل النصوص من منظور اجتماعي ، يقيم الصلة بين السرد باعتباره بحثاُ في قيم مجتمع متحول، وذلك لكشف العلاقة بين الفرد والمجتمع (الفرد الذي يعيش الصراع الذاتي من جهة سعيه للخلاص الفردي والتكيف مع الآخر، والمجتمع الذي يمثل قوة ضاغطة تسعى لتحقيق الوجود الجمعي بمختلف عناصره الثقافية من قيم وعادات وتقاليد ومعتقدات بالمواجهة مع الفردية ..
وهذا المنهج لا يعني أن نقطة البدء الطبيعية لنقد هذه المجموعة معنية فقط ببحث الظروف الخارجة عن النص، مثل الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، بل تعنى هذه الدراسة بتفسير وتحليل النصوص السردية في المجموعة كعمل أدبي له خصائصه الفنية واللغوية في إطار زمان ومكان معينين، لهما خصائصهما الثقافية، باعتبار أن الوقائع الإنسانية التي تعكسها النصوص السردية أبنية متكاملة، ذات دلالة تستلزم التأويل، ولتحقيق ذلك نحاول فهم بنية النصوص ونهجها الداخلي من جهة، والنهج الخارجي للنصوص ـ أي السياق الاجتماعي المؤثر على الإنتاج الإبداعي ـ من جهة أخرى .
يبني الكاتب قصته الأولى أحلام نملة عمياء معتمداً على المزج بين الموضوعي (ممثلاُ في صورة فوتوغرافية في خطأ تستحضر ذكريات قرار خاطئ) والوجداني (ممثلاُ في سرد مشاعر حالة شجن) ويقع الكاتب في هذه القصة في خطأ تقني نتيجة نقص الخبرة، هو السرد من خارج الشخصية للحالة الوجدانية (الندم على السلوك الذي ضيع الحبيبة) مما يحدث فصاماً بين المتلقي والحالة السردية، وكان الأنسب استخدام منولوج داخلي يتدفق في تيار الشعور للتعبير عن هذه الحالة .
في القضية الثانية اليوم رحيلك، التي يدير أحداثها مثل سابقتها في اللا مكان واللا زمان، يتناسب السرد بتقنيته البسيطة مع استحضار الماضي الذي تنبني عليه الأحداث (أبحر في صحراء ماضية ) ـ (لملم الأوراق والصور محاولاً إيقاف شريط الذكريات الكئيب) ـ (إخطار بنهاية الرحلة) حيث يطرح الكاتب رؤية أسطورية عن المستقبل الذي يكتبه الماضي من خلال الصورة القديمة المخزونة في صندوق ، والمكتوب عليها مصير البطل .. اليوم رحيلك .
يفقد الزمان والمكان الحاضران أهميتهما مقارنة بالماضي في القصة العضة) ، حيث الماضي مستقر الأحداث الحميمية الدافئة، ويستدعيه الكاتب في ومضة سردية خاطفة، كما لو كانت فقاعة صابون أنهى عمرها أصبع طفل، لنكتشف أن الواقع أجهض أحلام الماضي، وأن حسابات حقل البطل لم تطابق حسابات بيدره، وأن قصة الحب الرومانسية الجميلة انتهت بزواجه بغير من أحب، وذلك في مفاجأة سردية خاطفة (مدت يدها لتمسك الطفلة .. دقق النظر في ساعدها ومعصمها .. لم يكن هناك أثر للعضة) .
ويتداخل الوهم والحقيقة في قصة أخبار الناس بشكل يذكرنا بعوالم كافكا السوداوية حين تفاجىء الجريدة التي سوف تصدر غداً الرجل العسكري النظامي (عواد) بخبر موته منشوراً مقدماً، ويتداخل الزمن في مراحله المختلفة الماضي والحاضر والمستقبل لتعميق الشعور بعبثية الموقف .. وفجأة إذا الجريدة هي نفسها التي شاهدها بالأمس .. قلب الصحيفة فإذا بنفس الأخبار التي قرأها .. اتجه إلى زاوية أخبار الناس فإذا صورته بنفس المكان الذي رآه .. أحس عواد بعودة الموت مجدداً .
وتؤكد قصة عطش سطوة المكان في جو مشابه لقصة أخبار الناس، حيث محاولات البطل للتمرد على المكان، وتحرير ذاته من الضغوط التي تتولد عن سطوته، فينتقل بخياله إلى الصحراء وجزيرة ومدينة، إلا أن المكان الأصيل (تمثله الغرفة التي يقيم فيها) ينتصر عليه في النهاية فجأة .. ظهرت سحابة سوداء في سقف غرفته ! .
وتتميز قصة مركوز أكبر قصص المجموعة بحبكة مليو درامية، تصور الإنسان عن ملاحقة التغيير في الحياة من حوله حين يفقد أدوات الارتباط بالواقع، ولا يستطيع المواءمة بين سرعته المحدودة وانطلاقة السريع، فيصبح الماضي ملجأ، ورفض الواقع نتيجة إ أنها نتيجة تؤدي إلى الموت، ثمناً للجمود في الماضي، حتى لو كانت المبررات الإنسانية بقوة إنسانية مركوز الذي يتحول إلى مجرد حروف على ورقة، ترمز لذكرى حزن عاجز، يمثله المشرف الاجتماعي الذي تكيف مع الواقع .
وتناقش قصة الوسيم التكوين النفسي المزدوج لشاب تحاصره ثقافته البدوية التي تعادل موضوعياً وسامته التي يشعر تجاهها بالدونية ويود أن يتحرر منها، ويتوق إلى العيش المتحضر، الذي تمثله فتاة اعتقد للحظة أنها تهتم به، وتشير القصة بذكاء إلى أن الانتقال من حالة حضارية إلى أخرى أكثر تقدماً لن يتم بمجرد التمني، فالوهم الجميل يداهمه الواقع في ختام القصة بالحقيقة القاسية ...
وتفقد الأشياء الشاعرية رونقها، ويتحول الإحساس الملتهب بالحب إلى تفاصيل حياتية حين يتحول الحلم إلى واقع في قصة خيوط العشق، ولا يصبح لدى البطل إلا استبطان الماضي الجميل (وما أن يسكن إلى النوم حتى يبدأ مسلسل أحلام شيقة ومسلية تعيد له البهجة والأمل .. يتمنى أن تستمر بهجة الحلم حتى تصبح حياة ! إلا أن مسلسل الأحلام هذا تتناوشة تفاصيل الواقع (يتململ ورنين الهاتف ينخر أذنيه) فيفقد العاشق تاريخ الحب الوردي بين تفاصيل الواقع المملة .
إن الواقع القاسي الذي يمثله سلوك الأدب، لا يكلفه قلب واحد لتغييره .. هذا ما يدركه الطفل فيتسلخ بقلب آخر .
يفاجئنا الكاتب في الغرفة 6 بأسلوب تعبيري سردي، مضفر في تناغم أنيق مع أربع جمل حوارية عامية وبين شعر شعبي واحد، يصف من خلالها مكاناً هو أشبه بمقبرة الأفيال، لكنه للبشر، الذين يتساقطون في صمت واحداً وراء واحد في غرفة ستة .. مستقر الموت .. في تساؤل مليء بالحيرة المستترة عن الموت، والحياة، والإنسان .
ويستخدم الكاتب في قصة (لأني احبك) المنولوج الداخلي بعد مقدمة سردية غير مبررة لقص حكاية روميو وجولييت.
وتناقش قصة السيف كقصة عبث وجونيه حدود العلاقة بين الوهم والحقيقة، فالشاب الباحث عن بطلته السينمائية على تلك الشاشة الفضية الضخمة، يقر الاتفاق غير المكتوب بين صناع الفيلم ومتلقيه بأنهم سوف يهدونه وهماً جميلاً وأنه سوف يتعايش مع هذا الوهم سعيداً وراضياً، إلا أن هذا الوهم المشابه لواقع الشاب المغلق، يتعرض لهزة قاسية حين يفاجئه الواقع المختلف بفتاة حقيقية من مجتمع أكثر انفتاحاً، فيكتشف أن الأنثى ـ معادل الحياة المختلفة ـ موجودة في العالم الحقيقي وليس في الوهم فقط، وفي عبث نجد العلاقة بين الوهم والحقيقة مستشكلة، فالرسائل من تأليف الزوج حقيقية مليئة بالمشاعر الدافئة، بينما الزوجة تهشم الورود، وفي جونيه يسقط الوهم هذه المرة، معلناً أنحيازاً واضحاً للحياة، ممثلة في أنثى عابرة البطل شعلة صغيرة من النار ومرة أخرى يمتزج الوهم بالواقع في قصة حدود الحوارية الرشيقة التي تقدم لنا بطلاً ممتلئاً بنشوة الحياة، يلتقي بحورية مستلقية على شاطىء القمر، تفاجئه بنقد مشاعره الدافئة، وتدعوه إلا يعشق، وتحبذ أن يكون بلا مشاعر، في إيحاء بأن هذه الحورية ليست إلا الحياة المتقلبة ذات الوجهين.. جميل مغر، وآخر مجهول قاس.. حياة تستمد من الواقع القاسي " بعض الرمال الغريبة " لأنها تحتاج " لبعض الجفاف" في عالمها الآخر. يوضح هذا العرض المختصر لقصص المجموعة أن اختيار " شارع الثلاثين" عنواناً للمجموعة هو انحياز واضح للمكان، يتأكد في أكثر من قصة فيحرك الكاتب أبطاله في أمكنة السرد بحرية كبيرة، فبينما ينحصر مكان السرد في غرفة النوم في قصة خيوط العشق، أو غرفة في مستشفى كما في قصة غرفة 6، وكافتيريا في قصة الوسيم، يصبح أرحب مجالا فينتقل إلى الطريق في ( شارع الثلاثين) والشارع وبيئة العمل في قصة عبث، ومتنزه بحري في قصة العضة، أو ينتقل عبر البلدان حتى يصبح شارعاً وقاعة سينما ننتقل بين الغرفة والصحراء وجزيرة ومدينة، وبالتالي لا يفاجئنا أن نجد المكان غير محدد في قصتي أحلام نملة عمياء، واليوم رحيلك. هذا التحرر في العلاقة بالمكان لا ينفي- بل يؤكد- الانحياز له، ويقر الكاتب بذلك صراحة في قصة أحلام نملة عمياء التي لا تدور في مكان بعينه ورغم ذلك يقول لنا الكاتب: " يشير المؤشر.. ربما ناحية الشمال، أو الشمال" إلا أن ذلك الانحياز ليس نوعاً من التعصب، بل هو حيرة تعكس ارتباط المكان بالانتماء وبالتالي كل القيم الثقافية الاجتماعية التي تؤرق الكاتب فالمكان لدى الكاتب ليس وجوداً مادياً في فراغ بل هو ًجزء من علاقة مركبة بينه وبين الزمان والإنسان والفعل، وبالتالي يصبح المكان- في بعض الحالات- رمزاً للتحرر كما هو شارع الثلاثين بكل ما يجري فيه من أحداث. وتجري غالبية القصص في زمن السرد الذي هو غالباً الزمن الكرونولوجي للفعل، فلا نجد حيلا فنية للتعامل مع الزمن، ما عدا استخدام تقنية العودة بالزمن للوراء (flash back) في عدد محدود من القصص ( مثل ممر مركوز وخيوط العشق) لإلقاء مزيد من الضوء على الأحداث، ومن هنا ندرك أهمية توثيق زمن كتابة كل قصة في ختامها، حيث يربط ذلك موضوع السرد بالفترة التاريخية التي كتب فيها، وما في هذه الفترة من أحداث ومتغيرات. وتبدو علاقة الكاتب بالزمن علاقة مشكلة، حيث الزمن بتقسيماته التقليدية الثلاث الماضي والحاضر والمستقبل هو زمن متفاعل، فالماضي رغم ما يمثله من عبء ( خيوط العشق- العضة- لأني أحبك) هو حالة من النوستالجيا المحملة بعبق الذكريات ( ممر مركوز- غرفة 6) فلا يمكن للكاتب قبول الماضي قبولاً كاملاً، ولا رفضه رفضاً تاماً، أما الواقع فهو الآخر لا يحقق بما فيه من حقائق جميلة كل التوقعات المأمولة ( الوسيم- عبث- جونيه- حدود) ويحمل المستقبل أحلاماً بغد أفضل يصنعه أطفال اليوم رغم غباء آبائهم ( شارع الثلاثين) كما يطوي المخاوف التي تصل للتهديد بالموت ( أخبار الناس) وبالتالي فإن الزمن لدى الكاتب ليس جيداً أو رديئاً في حد ذاته، بل يكتسب أهميته مما يحدث فيه. وتنحصر الشخصيات الرئيسية والثانوية بالقصة في عدد محدود لا يتجاوز الخمسة لأكبر عدد من شخصيات القصة الواحدة كما في قصة جونيه، ويتراجع لصوت واحد كما في قصة عطش، وهذا العدد المحدود من الشخصيات يساعد الكاتب في التركيز على الحدث الذي هو ومضة خاطفة في مكان وزمان محدودين، حيث الشخصيات نماذج إنسانية تعاني آلام مخاض وبالتالي فإن الشخصيات تعكس أنماطاً سلوكية تكشف عن طبيعة المجتمع وتحولاته، وإنماط الخلل فيه كما يراها الكاتب، فنحن في قصة ممر مركوز مثلاً نرى التفاعل غير المتحقق بين مركوز الذي يعيش عالمه الخاص، ويرفض التحولات التي تحدث حوله حتى يموت نتيجة لهذا الرفض، وفي المقابل نجد أن الطبيب والممرضة ( الآتيان من خارج المجتمع) عاجزان عن التواصل مع هذا التكوين، ويحتاجان لوسيط ( هو المشرف الاجتماعي الابن الحضري للمجتمع) الذي يفشل هو الآخر في التعامل مع عالم انفصل عنه، وجل ما يستطيع تقديمه له هو الاحترام ليس بصفته الإنسانية، ولكن بصفته تاريخاً. ويتراوح الحدث القصصي في المجموعة بين استبطان حالة شعورية- شجن في الغالب- تفجر ذكريات ماض من خلال تيار الشعور كما في قصص ( أحلام نملة عمياء- العضة- غرفة6) أو عبر استحضار وهم كابوسي كما في قصتي ( أخبار الناس، واليوم رحيلك) أو صيغة الرسائل كما في قصتي ( لأني أحبك، وعبث) إلى استخدام الحوار لبناء فعل درامي كما في قصص ( ممر مركوز- شارع الثلاثين- السيف- جونيه- حدود). ورغم أن اللغة في حالة السرد الوصفي للحكي لغة متزنة تخضع لقواعد المنطق اللغوي إلى حد بعيد، وتلتزم لدرجة جيدة بالتراكيب النحوية، إلا ـن السرد يعاني بعض الأخطاء على مستوى التكوين اللغوي- الإملائي والنحوي- من السهل تداركها ( حتى من خلال تدقيق لغوي احترافي) وفي نفس الوقت نجد اللغة في حالات التعبير الشعوري لغة غرائبية تبدو سحرية أحياناً، إلا أنها تقع في تناقضات نتيجة استخدام المعنى ونقيضه في سياق واحد.. " جئتكم محطماً أعاصير الخضوع، كاسراً تهم الجوع، مطفئاً إنارة الشموع" عطش " لذة الكآبة، وحسرة السعادة" أحلام نملة عمياء.
ورغم تميز استخدام اللهجة العامية في الحوار بشكل يثري النص في بعض القصص كما قصة مر مركوز وغرفة 6 والاستشهادات الشعرية (أنت الذي حطيت بالقلب رمحين .. رمح العيون ورمح وردي شفاتك) قصة خيوط العشق، إلا أن المفردات العامية تتحول إلى لغة مربكة في بعض التركيبات السردية التي لا تستفيد من العامية ـ خاصة مع القارئ العربي من خارج بيئة الكاتب ـ ونجد مثالا على ذلك في قصة الوسيم (الوسيم هو السعيد الحظ) وفي قصة غرفة 6 ( تتأمل تعكرش جلد أيديهم اليابس) وغير ذلك من الأمثلة والمدهش أن هذا الأسلوب يختفي في بعض القصص حتى أن الحوار في قصة أخبار الناس ، والوسيم على سبيل المثال كله مكتوب باللغة الفصحى .
يعيب السرد أيضا تداخل التقنيات بغير مبرر فني في بعض الأحيان، حين تتضمن القصة الواحدة أسلوبين للسرد يمكن ببساطة الاستغناء عن أحدهما دون تأثير فني يذكر ، نموذج على ذلك تداخل صوت الكاتب كراو وصوت المنولوج الداخلي للبطل في قصة الوسيم .
ولا نجد في المجموعة علاقات اجتماعية مؤسسة على أبعاد اقتصادية أو سياسية وبالتالي لا يمكن استخلاص موقف أو وجهة نظر فلسفية أو سياسية للكاتب من المجموعة، هناك فقط رؤية اجتماعية مندهشة رافضة لتلك القيود التي يراها الكاتب غير منطقية وتقف سداً في وجه تدفق الحياة.
هذه المجموعة لا تعلن فقط عن ميلاد فارس الهمزاني ككاتب ، بل تعلن بوضوح عن ميلاد وجهة نظر سعودية شابة لجيل جديد، يتناول ماضيه وواقعه ومستقبله كما يعلن بقوة تمرده على العوامل السكونية في المجتمع ويسعى إلى المشاركة في علاقة حيوية تربطه بعناصر المجتمع المختلفة بثقة، عن المشاركة وإبداء الرأي ، وتحقيق تغييرات جوهرية في المجتمع الذي يحبه وينتقده في نفس الوقت .. هل ينجح ؟
غلاف المجموعة