قبل يوم واحد من عطلة اعياد الميلاد في الغرب، اظهر احد مؤشرات الاقتصاد الاميركي ـ اكبر اقتصاد في العالم ـ ان القطاع الصناعي قد لا يكون على طريق الانتعاش المأمول. فقد تراجع الطلب على السلع المعمرة مما يعني ان هذا القطاع سيعاني الغاء الوظائف ويلقي بظلال كثيفة على الصورة المشرقة التي رسمت مؤخرا للتعافي الاقتصادي في الولايات المتحدة الذي سيقود الاقتصاد العالمي كله نحو التعافي. الا ان الاسواق والاعلام والجماهير لم تتنبه كثيرا لهذا المؤشر لان الجميع اخذ بالذعر الصحي الناجم عن اول حالة مؤكدة لجنون البقر في ولاية واشنطن شمال غرب الولايات المتحدة.
ارسلت المعامل الاميركية عينة من لحم البقرة المصابة الى المعامل البريطانية التي اكدت اصابة العينة بمرض الالتهاب السحائي الاسفنجي الحيواني او بي اس اي المعروف بمرض جنون البقر. ورغم ان السلطات الاميركية حاولت تهدئة مخاوف الجمهور بالقول: ان الخطر على صحة البشر قليل جدا، فقد انتشر الذعر بين الجماهير. المعروف ان تسعين في المائة من انتاج اللحوم الاميركية يتم استهلاكه محليا، ويخشى الاميركيون الا تكون البقرة التي اكتشفت اصابتها ليست اول بقرة مصابة تدخل لحومها سوق صناعة اللحوم الاميركية. وعلى الفور انهارت اسهم سلاسل المطاعم وفى مقدمتها مطاعم ماكدونالد. واعلنت معظم الدول المستوردة للحوم الاميركية حظرا على استيراد اللحوم من الولايات المتحدة وفي مقدمتهم كبار مستوردي اللحوم الاميركية من الدول الآسيوية. فاليابان التي تستورد نصف احتياجاتها من اللحوم من اميركا وكوريا الجنوبية التي تستورد ثلثي وارداتها من اللحوم من اميركا بالاضافة الى المكسيك التي تمثل السوق الرئيسي لصادرات اللحوم الاميركية. كذلك شاركت في الحظر دول كالامارات التي تعد محطة هامة للتجارة واعادة التصدير، واندونيسيا التي تستورد منتجات ماشية، بما فيها منتجات البان، من الولايات المتحدة باكثر من 60 مليون دولار سنويا.
وفي آسيا تضاعفت اسعار الاسماك اكثر من مرة بعد حالة الذعر الصحي في كوريا الجنوبية. فقد انتشر نوع من انفلونزا الطيور شديد العدوى بين قطعان الدجاج هناك مما يكلف صناعة لحوم الطيور في كوريا الجنوبية نحو 6 مليارات دولار هذا الشهر. ويخشى المستهلكون من ان يكون فيروس انفلونزا الطيور خطرا على صحة البشر ايضا.
وهنا ايضا، في حالة الذعر الاميركي، يخشى من ان يصاب المستهلكون الحوم المصابة بمرض بي اس اي بمرض كروتسفلت جاكوب، او سي جي دي، الذي يدمر المخ البشري ويؤدي الى الوفاة. وفي التسعينيات انهارت صناعة الماشية ولحومها في بريطانيا مع تبعات خطيرة عبر كل القارة الاوروبية اثر وفاة 137 شخصا اصيبوا بمرض سي جي دي نتيجة اكل لحوم بقر مصابة بمرض بي اس اي. ورغم ان حجم الخسائر البريطانية لم يحدد بشكل نهائي، الا انها تقدر باكثر من عشرة مليارات جنيه استرليني (اكثر من 15 مليار دولار). واقرب مثال هو ما حدث في كندا التي عانت من حظر استيراد لحومها من قبل عدد من الدول بعد اكتشاف حالة مرض جنون البقر فيها في مايو الماضي.
وتشير التقديرات الى ان صناعة اللحوم الكندية خسرت حتى الآن 3ر3 مليار دولار كندي (5ر2 مليار دولار) جراء الحظر.
وللقيام بكل ما هو ضروري لاقناع الجمهور الاميركي والمستوردين الاجانب قد تضطر السلطات الاميركية لذبح الملايين من رؤوس الماشية. وهذا ما حدث بالفعل مع 4000 رأس ماشية في المزرعة التي اكتشفت فيها حالة جنون البقر الاميركية، حيث تم عزلها جميعا في حجر صحي. وعندما انتشر المرض في بريطانيا من قبل اضطرت السلطات هناك الى ذبح وحرق الملايين من رؤوس الماشية. ويصل حجم صناعة الماشية الاميركية الى 27 مليار دولار وصادرات اللحوم السنوية الى نحو 3 مليارات دولار. واذا استمر الذعر الحالي فترة ستتعرض قطاعات الزراعة وصناعة اللحوم اضافة الى قطاعات اخرى من المطاعم وسلاسل بيع الاغذية الى التصدير والنقل للخسارة بشدة.
وسيكون لذلك اثر سلبي على سوق العمل الاميركي بشكل عام مما يكثف الظلال حول الصورة البراقة للتعافي الاقتصادي. ولنتذكر ما حدث لقطاعات مختلفة في بريطانيا مع انتشار جنون البقر، فقد تراجعت قطاعات السياحة والنقل والبيع بالتجزئة وغيرها بشدة.
هناك عامل آخر، لا يلقى ما يستحق من تدبر، وهو الجانب العلمي وتبعاته على صناعة الابحاث والصناعات الحيوية. فعندما اصبح مرض جنون البقر قضية صحية في التسعينيات تعرضت طرق تغذية الحيوانات على البروتينات المعدلة والمصنعة للانتقاد واعادة التفكير. ومع زيادة اتجاه المستهلكين نحو المنتجات الطبيعية التي تتغذى على ما هو طبيعي، يمكن ان يتراجع الكثير من الميتكرات في مجال التكنولوجيا الحيوية. وتدعو جماعات الضغط الجديدة الجماهير الى تجنب التعامل مع الاغذية المعدلة التي يتم التدخل في طبيعتها. وتعد الصناعات الحيوية عاملا مهما في تطور الاقتصادات الراسمالية في الآونة الاخيرة، واذا تأثرت سلبا في مهدها بانتشار حالات الذعر الصحي فيمكن ان يكون الاثر طويل المدى على الاقتصاد العالمي كبيرا.