إن الأداة الأساسية لأي نهضة هي امتلاك العقل الانتقادي فعندما تسود العقول الانتقادية يسود التفكير الخلاق ويسود الابتكار ......
إن العقل الانتقادي هو أهم مقومات النهضة ، بل هو صمام أمان لتفادي السقوط في غياهب الانحطاط الوخيم، ومن هذا المنطلق عزا كثير من النقاد أسباب ما نحن عليه من تخلف في البلاد العربية إلي غياب العقل النقدي والانتقادي عن فكرنا العربي، ويبدو أن هذه المقولة صحيحة إلي ابعد حد، والشواهد على ذلك كثيرة، ومنها موضوع الإرهاب فقد قالوا لنا: أنتم إرهابيون، فأصابنا الرعب وأخذنا نهرب من الاتهام المسلط كالسيف فوق رؤوسنا التي واريناها الثرى يوم أُكِلَ الثورُ الأبيض وربما تعطلت لغة العقل لدينا منذ ذلك الحين، وانتهك شرف الدفاع عن كرامتنا بل وحتى معايير الحمية والشجاعة التي عُرفنا بها كعرب عبر التاريخ قد نهشتها كلاب الطريق، وبعد ذلك الانتهاك، وما تبعه من سلسلة التُّهم المتلاحقة وقع المزاد علينا حيث وسَمُونا بسِمَة الإرهاب، وأعلنوا هرطقتنا وأخضعونا لمحاكم التفتيش حتى يُكرَّسَ استبدادُ القرون الوسطى التي أرَّخت لأسوأ دركٍ وصلت إليه إنسانيتنا.
ولم يتوقف اخضاعنا عند الحدود السابقة التي حددتها محافل خارجية تدعي صفة الدولية وهي التي مازالت تمارس إرهابنا بأختام دولية، ولكن تحت مسميات أخرى مستفيدة من تفوقها علينا .لنتوقف عند مفهوم الإرهاب كمصطلح تمّ استعماله في نهاية القرن الثامن عشر، وأشار بشكل رئيسي إلى أعمال العنف التي تقوم بها الحكومات، والمصمّمة لتأمين الخضوع الشعبي، ولكن المعنى الأساسي لهذا المصطلح تمّ التخلي عنه، واصبح يطلق للدلالة على التهديد بالعنف أو استعماله للتخويف، أو الإكراه لأهداف سياسية والسؤال الذي يفرض نفسه هاهنا: مَنء الذي يتحكم بآلية عمل مصطلح كهذا، وما الذي يفعِّل محتواه ؟.
إن المصطلحات المفصلية عادة لها معنى فني معزول عن معناها العادي والفني هنا مرهون باعتبارات سياسية تفرض لغتها الخاصة التي قد لا تمت إلى الكيان العام بأية صلة، وعلى كل المستويات، وهكذا نكون قد دخلنا محور الخداع، وتسمية الأشياء بمسميات تضليلية تتوافق مع تاريخ تم بناؤه غربيا فقط ليخدم أيديولوجيا عنصرية مطبوخة خصيصا لتتناسب مع ما سُوِّق عن صورة العرب والعالم العربي والإسلامي. هذا من جهة, ومن جهة أخرى ليساهم في بناء صرح من التبريرات الجاهزة لأي عدوان أو اعتداء يقوم به الآخر والدليل الساطع على ذلك هو دور الضحية الذي دأبت أنظمة الغرب و إسرائيل على تمثيله بمنتهى البراعة، وهذا يذكرنا بالإدعاء الشهير ضربني بوجهه على يدي ليمارس بعدها جرائم ارتدَت حلَّةَ الردّ الانتقامي أو الضربة الاستباقية. يقول نعوم تشومسكي العمل الإرهابي يكتسب الشرعية فقط عندما يقوم به الطرف الآخر وليس نحن وهذا يعني: أن أعمالهم الإرهابية مُستثناة من القانون بينما أي هجمة ضدهم يُنظَرُ إليها بمنتهى الخطورة بل وتستدعي العنف دفاعا عن الذات ضد هجمات مستقبلية إن المصطلحين إرهاب و انتقام على ما يبدو لهما معنى خاص في العرف الأمريكي إذ أن الإرهاب يشير إلى الأعمال الإرهابية التي ينفذها القراصنة خاصة العرب أما الأعمال الإرهابية التي ينفذها الأباطرة وعملاؤهم تسمى انتقاماً أو ربما ضربات استباقية شرعية في حساباتهم هدفها تفادى الإرهاب (كما أُعلن مرارا ) وذلك بمعزل عن الحقائق التي تعني بالضرورة تكريس مصالح الأباطرة ليس إلاَّ .بما أننا وصلنا إلى لغة المصالح سنزيل الأقنعة عن أمثلتنا لنسمي الأشياء بأسمائها؛ فعلى سبيل المثال لو تناولنا الحملة التي قامت بها الولايات المتحدة الأميركية في نيكاراغوا في أواخر القرن الماضي ضد ما أسمته الإرهاب الدولي نجد أنها هدفت في الأساس إلى إحداث تغييرات في سلوك حكومة نيكاراغوا ولكن بشكل أساسي إلى وضع نهاية للبرامج التي توجه الموارد إلى الغالبية من الفقراء، والعودة إلى السياسات المعتدلة والديمقراطية التي تعطي الأفضلية لمصالح رجال الأعمال الأمريكيين وشركائهم المحليين .
من جهة أخرى في الشرق الأوسط، وتحديدا في الصراع بين إسرائيل والشعب الفلسطيني نجد أن القرصنة الإسرائيلية، واحتجاز الشعب الفلسطيني كرهينة على أرضه والمجازر شبه اليومية في حقه وهو لا يملك وسائل للدفاع عن نفسه بصورة متكافئة هي أعمال لا تقع ضمن إطار مفهوم الإرهاب بل كل ذلك ما هو إلاّ ردّ انتقامي أو استباقي على إرهاب الشعب الفلسطيني الءمُعتدى عليه ! ترى ما الهدف الذي أراد أن يستبقه الجيش الإسرائيلي الذي يمتلك قدرات عسكرية جبارة عندما دخلت دباباته عقر دار أناس أبرياء عُزَّل جُلّهم من الأطفال والنساء والشيوخ واليافعين؟ ولماذا ارتكب بحقهم أفظع الجرائم في جنين؟
وماذا عن قصف منازل الأبرياء بالمقاتلات الحربية، وتجريف الأراضي الزراعية، وبناء المستوطنات على أشلاء الشعب الفلسطيني، وماذا عن مواجهة الحجر بالمدفعية والدبابات وصواريخ الطائرات؟ وماذا عن بناء جدار عازل لن يكون سوى مقبرة جماعية لشعب فلسطيني حيّ يرزق يعاني مصيبته الكبرى بموت النخوة العربية بعد خسارة الأرض ؟. أما في لبنان: فأيُّ عذر يمكن أن يبيح لجيش مدجّج بالعتاد أن يمزق عائلات بأكملها وعلى مرأى الحماية الدولية في قانا عام 1996 م؟ وماذا عن اجتياح لبنان وقتل المئات من المواطنين الأبرياء، وتهجير الآلاف وتدمير البنية التحتية واجتياح بيروت في عام 1982 م ؟ كل هذا فقط من أجل حماية الجليل الشمالي، هل هذا مبرر كافٍ لذلك الثمن الباهظ ؟ هل هذا هو السبب الحقيقي ؟ لماذا ترتفع أسهمنا في بورصة الضحايا دائما في حين أن أسهمنا في بورصة المواقف المبنية على اعتبار عالٍ لكرامتنا وتراثنا وتاريخنا تبقى في الحضيض؟ ما الذي ينقصنا ؟ بل ما الذي يزيد ؟هل الذي يزيد هو الكم الهائل من العملاء الذين لا يقلون خطراً عن أي قاتل مأجور ؟ وهل ما ينقصنا هو الشجاعة اللازمة لتسمية الأشياء بأسمائها، ووضع عدونا في مكانه الصحيح ؟
لكن كيف استطاع الغرب وتحديدا الولايات المتحدة وإسرائيل تطويع الرأي العام حتى صار يتحدث بلسان مصالحه سواء أكان هذا داخل أوطانهم و مستعمراتهم أو خارجها أي على مستوى الرأي العام العالمي ؟ إن الأدوات والأساليب كثيرة، ولعل أنجعها يتمثل بوسائل الإعلام التي وعى الغرب والولايات المتحدة بل وحتى إسرائيل أهميتها منذ زمن طويل، واستثمروها إلى أقصى حدّ حيث استخدم التضليل الإعلامي في الولايات المتحدة كأداة للهيمنة الاجتماعية، والذي ساعد على تكريس ذلك هو هيمنة من نوع آخر مارستها مجموعة من المؤسسات المشتركة والتكتلات الإعلامية التي سيطرت على محطات الإذاعات وشبكات التلفزة والصحف والمجلات، وحتى صناعة السينما و كل ما تمت إليه صناعات التلاعب بالعقول بصلة. هذه العوامل مع عناصر أخرى ساهمت بتأسيس ما يسمى بنظام غسل الدماغ في ظل الحرية وهو متطور جدا في الولايات المتحدة إذ يقوم على تشجيع الحوار في قضايا السياسة ولكن في إطار الافتراضات المسبقة التي تتضمن العقائد الأساسية في الحزب مثلا، وكلما كان الحوار أكثر حيوية تتغلغل هذه الافتراضات بشكل أكثر نجاعة بينما المشاركون والمتفرجون تعتريهم الرهبة والمداهنة الذاتية لشجاعتهم وللحريات الرائعة التي يجري التمسك بها في مجتمعهم هذا جزء من هندسة الموافقة الديمقراطية أو فبركة الموافقة وما تناولناه ما هو سوى عينة متواضعة جدا لآلية عمل السياسة الأمريكية في الداخل والخارج، و هي واضحة للمراقب الفطن أي لمن يريد أن يستخدم أهم خاصية منحها الخالق عزّ وجلّ للإنسان وهي العقل الذي يميزنا عن الحيوان أو كما يفترض وذلك لوأد حملات الوهم التثقيفية التي تقوم بها الإقطاعيات الجدد .
ترى ما الفرق بين تكميم الأفواه بقبضة حديدية أو بكمامة من حرير ؟ إذا كانت بعض الدول العربية تعاني من أنظمتها الديكتاتورية بسبب تخلفها وركودها العام؟ ماذا عن دولة حرة كالولايات المتحدة عندما يتم فيها التحكم بالفكر وبأساليب ماكرة؟ ما الصفة التي قد تطلق على سياسة كهذه ؟
يقول الصحفي هنري ديفيد ثورولا حاجة لقانون يكبح التصريحات للصحافة فالمجتمع قد توحد حول ما يجب التلفظ به من الأشياء واتفق على برنامج وعلى تحريم أولئك الذين يخرجون عنه، وليس واحد بالألف يجرؤ على التلفظ بشيء آخر أما الصحفي جون دولان يرد قائلا ليس الأمر أن الناس تنقصهم الشجاعة للتعبير عن الأفكار خارج المدى المسموح به وإنما هو نقص القدرة على التفكير بهكذا أفكار إن هذا يذكرنا بالفرق بين الديكتاتورية الغبية وهي التي يعرفها البعض الكثير منا في العالم العربي والديكتاتورية الذكية وهي التي عرفها الغرب وهاهو يفرضها علينا بنفس المسميات الذكية التي سوقها بواسطة مكره منذ عقود خلت . ما هذا سوى القليل من الكثير المؤلم والحارق لكل ما قد يمكن أن يكون جميلا مع أن العقل الانتقادي هو الحل الأمثل لتفادي هذه المحرقة الكبرى للتراث وللتاريخ وللجغرافيا وهو بين أيدينا، وكذلك الأدلة على احتقارنا والاستخفاف بنا والطمع بمقدراتنا هي أيضا أمامنا، وهي كثيرة فما الذي ينقصنا ؟ لعله الإيمان بالخالق عزّ وجلّ أولاً، ثم بأنفسنا وبقدراتنا لأننا بهذه الثقة نحرر أنفسنا من لعبة الكبار التي مهما تبهرجت وتزينت وتنكرت ستظل أهدافها واحدة وهي تقويض المستهدف وتطويعه، وغرس الأكاذيب في رأسه ليتحول إلى رقم أو صوت دمية مبرمجة تتحدث بخطاب واحد لا يحمل سوى لغة العبيد أمام أسيادهم المستبدين .