يرى علماء الاجتماع أن لسلوكنا الاجتماعي والسياسي، أو الحضاري بشكل عام، امتداداته المتأصلة في بنية العائلة. وإذا كان الأمر كذلك، فإن المواقف وأنماط السلوك التي ستأتي الإشارة إليها في هذا (التقرير المُتخيَّل) والتي تعبر عن التفاعل بين أفراد عائلة (ثابت أفندي) إنما هي صور مصغرة للتفاعل الاجتماعي على المستوى العام. إن الأسرة هي النواة الأولى للمجتمع الكبير، كما أنها التربة التي تنمو فيها بذور أنماط السلوك والقيم الاجتماعية المختلفة. وقد كان هذا مضمون ملاحظة أبدتها (كريمة ثابت أفندي) في اجتماع ضم أفراد العائلة حول طاولة غير مستديرة في غرفة الطعام خلال عطلة نهاية الأسبوع.
أما سبب طرح تلك الملاحظة فهو أن أمها (حرم ثابت أفندي) قد اعتادت أن تزجر (آخر العنقود) كلما حاول التعبير عن رأيه خلال تلك الجلسات العائلية باعتباره ما زال صغيرا على هذه الأمور التي تخص الكبار وحدهم. وهو ما لم تقتنع به الابنة الكبرى المثقفة التي ترى أن ذلك التصرف يمثل أول تدريب منزلي على (القمع)، وأنه كفيل بسحق معنويات الأخ الصغير، وهز الثقة بآرائه الخاصة، والحيلولة دون بناء شخصيته وتحقيق استقلاله الذاتي، وتضيف قائلة: "يا لها من مفارقة عجيبة.. نعلم الطفل المشي فإذا مشى طلبنا منه أن يلزم مكانه ويبقى هادئا، ونعلمه الكلام فإذا تكلم انتشينا فرحا في بداية الأمر ثم طلبنا منه أن يتعلم حكمة الصمت". مثل هذه الاعتراضات لا تروق لثابت أفندي لكنه لا يعلق عليها عندما تصدر من ابنته المثقفة المدللة التي يخشى عليها، كما يقول مداعبا، من زيادة جرعات الثقافة!
لكن ما حُرم منه (آخر العنقود) قد مُتّع به الابن الأكبر الذي يرى أنه محور الجلسة ونقطة ارتكازها بعد السيد الوالد طبعا، وأن الشمس لا تشرق صباحا إلا لترى طلعته البهية كونه أكبر الأبناء الذكور في العائلة، وهو ما يجعله ينظر لأخته الأكبر منه سنا نظرة استعلاء على الرغم من آرائها الناضجة وتفوقها الثقافي. وكالعادة يسعى الابن الأكبر إلى كسب ودِّ وتعاطفِ أبيه عازفاً على وتر العبارات التي يرغب أبوه سماعها، منتقيا أكثرها تناغما مع رؤية السيد الوالد في إدارة الأمور، ولا شك أن أخاها بارع في هذا المجال، وقادر على المسايرة والمداهنة والوصول، وصرف ما لا ينصرف، وحين تصر أخته على أن هنالك كثيرا من الشؤون المؤجلة والمشاكل المعلقة التي ينبغي أن تناقش بمشاركة الجميع وفي جو من الصراحة والموضوعية، يرد عليها بأن تلك مجرد تخيلات لا وجود لها على أرض الواقع، وأن كل شيء يسير على ما يرام، ثم يواصل الحديث عن الوضع المتميز الذي "يحسدنا عليه كل الجيران" وهي العبارة ـ الرشوة التي لا يملك ثابت أفندي إزاءها إلا الثناء على ما يتميز به ابنه من "حكمة وبعد نظر وقدرة على التقييم". عندئذ تنظر الأخت إلى أخيها نظرة استهجان وتلوذ بالصمت، مدركة أن الغلبة في مثل هذه الأجواء للبيان وليس للبرهان.
أما الابن الأوسط فإن هذا الجدال المحتدم بين صقور البيت وحمائمه لا يعنيه في شيء، لذلك فهو موجود بين أفراد العائلة بجسمه، أما عقله فمشغول دائما بشؤونه واهتماماته الخاصة. وعندما تحاول أخته أن تشجعه على أن يكون إيجابيا فيدلي بدلوه في هذا الشأن أو ذاك فإنه غالبا ما يختصر المسألة بقوله: "وأنا مالي ووجع الدماغ؟". لكن هذا الموقف السلبي الذي يبديه الابن الأوسط سرعان ما يتغير وبشكل درامي إذا ما شعر أن مصالحه الخاصة قد تضررت. لا يشكل هذا الموقف السلبي أي إزعاج للسيد ثابت أفندي في هذه اللحظة بالذات .. إن ما يزعجه هو حياد الأبناء جميعا حين يحمى الوطيس بينه وبين أم العيال حيث يتوقع منهم (حيادا إيجابيا) والحياد الإيجابي يعني في كل الأحوال الوقوف، أو بتعبير أدق، الانحياز إلى جانبه. وعودة إلى (آخر العنقود) فإن كل الدلائل تشير إلى أن يتبنى حين يصبح كبيرا أحد هذين الموقفين: موقف المسايرة والمداهنة الذي يتبناه الأخ الأكبر أو موقف اللامبالاة الذي يتخذه الأخ الأوسط، وهي نتيجة متوقعة لذلك الأسلوب القمعي الذي يمارس ضده.
أما الزوجة التي غالبا ما تكسب المعركة إعلاميا وتخسرها على أرض الواقع فإنها، وكالعادة، تميل إلى تفسير ما ينتاب هذا الكيان الصغير من قلاقل أو هزات إلى قوى خارجية حارقة. إن هاجس المؤامرة هو ما يدفعها إلى اللجوء إلى محاربة أشباح لا وجود لها إلا في مخيلتها، وسلوك طرق ووسائل غير واقعية تحمي بها بيتها من حسد الحساد وكيد الكائدين.
وفي ظل هذا المزيج من المواقف المتباينة وأنماط السلوك المختلفة التي تمثل الإذعان والمسايرة واللامبالاة والانسياق وراء الأوهام، في ظل هذا كله قد تنتاب المرء الذي "يرى أكثر من اللازم وأعمق من اللازم" حالة من حالات التململ أو فقدان العلاقة بالأشياء والأشخاص فيطل على مجتمعه الصغير من كوة أصغر، لكن كريمة ثابت أفندي غالبا ما تتجاوز حالة التململ تلك لتحمل ـ مثل سيزيف ـ صخرتها من جديد!!