أخبار متعلقة
أثارت الورقة التي قدمها الدكتور عبد الله إبراهيم في ندوة الرواية العربية بمهرجان الإمارات الثقافي جدلاً حاداً حول بعض المفاهيم فمنذ البداية كان العنوان مصدراً إشكالياً حاداً حيث كان (الرواية في بلاد المشرق العراق - مصر - بلاد الشام - الأردن - السودان) ولكن المحاضر لم يتطرق لأي من هذه البلدان في ورقته، حيث لم يذكر على سبيل المثال روائياً مثل الطيب صالح أو مثل نجيب محفوظ. ورغم أن المحاضر أشار في بداية ورقته أنها لا تشير من قريب أو بعيد إلى الرواية في هذه البلدان، وأنها تبتعد كلياً عن هذا المنحى، إلا أن ذلك لم يشفع له الهجوم الذي شنه على سبيل المثال الروائي جمال الغيطاني، من أنه تجنى على كل هذا الإنجاز والإرث في هذه البلدان. مما اضطر الدكتور عبد الله إلى القول بعد السماح له بالرد ان منظمي المعرض هم الذين أثاروا هذا الإشكال، حيث أن العنوان كان من اختيارهم، وبإمكان أي شخص الرجوع إلى العنوان الحقيقي الذي أعد للورقة وهو (السرد الكثيف في الرواية العربية) وهو لا يرتبط بأي حال بالعنوان الذي وضعته اللجنة المنظمة الذي ورطته في هذا المطب. وعلى أن المحاضر استشهد ببعض الروائيين وببعض الأعمال كرواية (البحث عن وليد مسعود) لجبرا إبراهيم جبرا وبعض أعمال مؤنس الرزاز، إلا أن ذلك يبقى في إطار تدعيمه لرؤيته الفنية حول السرد الكثيف الذي ركز ورقته حوله.
مستويات السرد
يقول الدكتور عبد الله في بداية ورقته لكل خطاب سردي مستويان، المستوى الأول اللفظي المباشر، والمستوى الحكائي المتخيل الذي ينبثق عنه.
وينقسم البحث إلى ثلاثة أقسام:
الأول: تعريف المصطلح مقارناً إياه بالسرد الشفاف.
الثاني: نظرة عجلى على تاريخ هذه النوعية على الصعيد العالمي والعربي
الثالث: يقدم استنطاقاً نقدياً وقراءة لبعض الأعمال التي ورد فيها السرد الكثيف.
بين الشفاف والكثيف
وفي المجال الأول يقول إن السرد الكثيف يظهر حينما يحجب الكاتب المادة المتخيلة أو يحول دون وصولها بشفافية مباشرة إلى المتلقي. وحينما يتوارى المؤلف بصورة كلية، فلا يشير إلى نفسه ودوره يظهر السرد الشفاف.
ويضيف الدكتور إبراهيم هذان الضربان من السرد يتنازعان الرواية. وكانت هيمنة الشفاف واضحة في الرواية إلى مطلع القرن العشرين، إذ راحت تقنيات السرد الكثيف تظهر بصورة واضحة بعد ذلك، وكلما اتسعت وظائف السرد وكلما استثمرت الرواية التقنيات التي تفرزها الأنواع الادبية والمناظرة لها، والعلوم الإنسانية، تتعدد الوسائل التي يستعين السرد الروائي بها، مشيراً إلى أن السرد الكثيف يضفي حيوية على الرواية لأنه يكشف مستوياتها السردية والتركيبية والدلالية.
بداية ظهور السرد الكثيف
ويتحدث المحاضر عن محوره الثاني قائلاً لم تكن تقنية السرد غائبة تماماً عن السرد الأدبي بشكل عام ولكنها كانت أقل حضوراً وأهمية مما هي عليه الآن، ففي المرويات السردية القديمة يقتحم الراوي السياق ليعلن عن دوره في ترتيب مادة الحكاية، ويشير الدكتور إبراهيم إلى أن ذلك يتضح في السير الشعبية العربية.
أما بالنسبة للرواية الغربية فيمكن العثور على هذه التقنية في دراسة استقصائية لرواية جيان دو سانتري للكاتب الفرنسي دولاسال والتي ظهرت في عام 1465م، وقال المحاضر إن جوليا كرستيفا أشارت إلى أن هذه الرواية قد تكون أول عمل روائي فرنسي يشير إلى تقنية السرد الكثيف. كما أشار إلى رواية (دون كيخوته) لسرفالنتيس حيث يدعي المؤلف أن مخطوط دون كيخوته كتبه في الأصل مؤرخ عربي هو سيدي حامد الإيلي وأن المؤلف عثر عليه في سوق الكتب القديمة في طليطلة واشتراه بثمن بخس وكلف مورسيكياً بترجمته... وذكر كذلك أسماء أخرى وصولاً إلى أكثر تجليات هذه التقنية في رواية (اسم الوردة) لإمبرتو إيكو.
ويصل إلى تجليات هذه التقنية في السرد العربي حيث يقول إنها تكرست مع الاتجاهات التجريبية الحديثة وبخاصة بعد منتصف القرن العشرين، وهذه الإشارات تفضي بنا إلى فحص هذه التقنيات في الرواية العربية والوقوف على دورها في تركيب أبنيتها السردية والدلالية وتحديد أدوار الرواة، وتبادل أدوارهم السردية، وكشف تداخل مستويات البنية السردية.
تطبيقات نقدية
وهنا ينتقل المحاضر إلى القسم الثالث من ورقته حيث يحاول قراءة هذه التقنية بمنظور نقدي ليستبطن بعض الأفكار والنتائج حول ما آلت إليه هذه التقنية من خلال التنقل في مجموعة من الأعمال السردية العربية والغربية، مبتدئاً برواية (البحث عن وليد مسعود) لجبرا إبراهيم جبرا حيث يشير إلى أن جواد حسني وهو أحد أبطال الرواية يبحث عن مدونات وأوراق تدل على وليد مسعود بعد اختفائه، ويقوم في سبيل ذلك بإيراد مصادر كثيرة، منها ما هو داخل العمل ومنها ما يوهم القارئ بأنه خارج العمل في لعبة سردية توحي للقارئ باختلاط الأزمنة وتداخل الشخصيات، فمن هو الحقيقي ومن هو الخيالي، وهل وليد مسعود حقيقي أم خيالي... (علي أن أغربل الحقائق والمعطيات علي أن أعزل عنها التضليلات والتخرصات والأوهام علي أن ابلغ نهاية ليس فيها إلا أقل ما يمكن من التناقض، لكنني حرصاً على مسئولية الباحث لن أفعل ذلك حتى التخرصات والأوهام...) هكذا يتحدث جواد حسني، ليشي بنوع من السرد الكثيف الذي يعمل عليه الباحث.
ويشير الباحث إلى أن المتلقي يشارك في الدخول في إنتاج الدلالة السردية والمشاركة في صنع الأحداث، وتنقيح الوقائع والتدخل في مسار الحكاية من خلال التساؤلات التي يضعها الراوي أو الروائي في نهاية روايته أو ربما داخل الأحداث، مدللاً على ذلك برواية اعترافات كاتم صوت لمؤنس الرزاز فمع أن متن الرواية يتركب من خليط من النبذ والشذرات التي يتناوب ظهورها على التعاقب وهي إما تصور الختيار والصغيرة والمرأة وهم يمضون رتابة حياتهم رهن الإقامة الجبرية حيث الانقطاع عن العالم الخارجي إلا من صوت الابن أحمد الذي يصل إليهم متقطعاً... رغم كل هذه الأصوات إلا أن المؤلف يضيف إلى روايته ملحقاً ينعطف بالسرد إلى اتجاه آخر ، فينقل النص من كونه أحداثاً خاصة بالشخصيات إلى أحداث خاصة بالمؤلف نفسه.
رواية زينب.. الحقائق ليست مطلقة
وفي رده على عدم الإشارة إلى رواية (زينب) كأول عمل روائي عربي قال الدكتور إبراهيم إننا نعيش وهم الحقائق المطلقة، فرواية (زينب) ليست أول رواية عربية، بل لقد فضل كاتبها عدم وضع اسم رواية عليها، مؤكداً قوله أنا نفسي انخدعت بهذه المقولة وظللت أدرسها لطلابي سبع سنوات، وهأنا الآن أعلن (قلت ذلك لطلابي أيضاً) إن هناك 180 رواية سبقت (زينب)، كانت أولها عام 1888م، جاء ذلك عن طريق البحث والتنقيب في عدد من الجامعات والمؤسسات ذات العلاقة.
وأشار في هذا المجال إلى أننا نعاني من أن أي أمر لا يطابق الخطاب الاستعماري فإننا لا نأخذ به، ونلغيه من وجودنا.
تجاهل التراث
وفي مداخلته أشار الروائي جمال الغيطاني إلى أن البحث تجاهل تراثاً عربياً بأكمله فأين شهرزاد و(ألف ليلة وليلة) وقال إنني أعتبر (البخلاء) على سبيل المثال رواية، مشيراً إلى أن دولاسار ليس أول روائي خاض تجربة السرد الكثيف. وقال المحاضر يجب أن نفرق بين السرد كحكاية والسرد كفن يشتغل عليه بوعي، مؤكداً ان التقنية قد تكون موجودة منذ زمن بعيد ولكنها لم تمارس بوعي إلا مؤخراً.
محمد حسين هيكل
د. عبدالله ابراهيم