يرى الدكتور الطاهر مكي المتخصص في الأدب الأسباني، وله ترجمات كثيرة في هذا المجال، أن النقد تخلف لأن الإبداع نفسه تخلف، والذين يشغلون الساحة الأدبية الآن في جملتهم أنصاف مبدعين ونقاد وما ينشرونه لا يغري بالقراءة، فضلاً عن تناول العمل نفسه بالتحليل والتقييم.. أسهمت في هذا عوامل كثيرة من بينها سهولة النشر وكل ما يملك قليلاً من المال يستطيع ان ينشر ما شاء من الكلام، وغيبة الحدود الفاصلة، وميوعة المصطلحات وتذويبها. فالزجال يسمي نفسه، أو يسميه أصدقاؤه شاعراً، وكل من له نافذة في أية صحيفة، مهما صغرت الصحيفة وضاقت مساحة النافذة، يعد نفسه ناقداً.. وأصبح الحكاء قصاصاً، والمنشئ روائياً، والخطأ في قواعد اللغة العربية تجديداً، وهكذا اختلطت الأمور، ولم يعد أي شيء يساوي شيئاً، ويكفي ان تكون لك شلة، أو بعض الصداقات، وأن تطل على الناس من شاشة التليفزيون أو صفحات الصحف لتصبح كاتباً عظيماً، ولا يهم ماذا تقول. ولكن إلقاء التبعة على الإبداع والمبدعين وحدهم هو جزء من الحقيقة، ولعله الجزء الأهم، ولكنه ليس كل الحقيقة، فهناك طائفة من النقاد خانت ضمائرها وفسقت بعقولها، ولا يهمها ان ترتقي بالأدب والثقافة والفكر، بقدر ما يعنيها ان يكون لها جمهور يصفق لها، وان تجد لها في مناطق النفوذ والرزق والجاه مكاناً، إشرافاً على سلسلة في وزارة الثقافة، أو هيئة الكتاب، أو استكتابهم لصحيفة ما، أو مجلة أسبوعية، والأرزاق على الله "وحسنة قليلة تدفع بلاوي كثيرة" كما يقول المثل ، وبعض هؤلاء النقاد، في دعمهم وإشادتهم بالأعمال التي تتخذ من هدم التراث غاية، كان دورهم شائناً ومقززاً، ولن يسامحهم فيه التاريخ مهما تحفظ وراء حرية الإبداع والديمقراطية، وهم في قرارة أنفسهم يعرفون انهم كاذبون.
وقال دكتور مكي في عام 1980 أصدرت الطبعة الأولى من كتابي "الشعر العربي المعاصر.. روائعه ومدخل لقراءته" وأسقطت من نماذجه أي شعر غير عامودي، وكتبت فقرة عن الشعر الحر، وقلت ان التسمية خاطئة فليس هناك أي فن يمكن ان يكون حراً من القيود، كل فن له قواعده، والخروج عليها يعني ان ما يكتب أو يقال ليس فناً، وكان عباس العقاد يقول: لا فن بلا قواعد. وهوجمت بضراوة من أصحاب الشعر الحر، وأوذيت، ولكني صمدت وتحملت، وكنت أراها زوبعة في فنجان، وقلت كل إنسان يعبر عن داخله بالوسيلة التي يراها، وفي حدود إمكاناته الفنية، ولكن هذا الشعر الحر، أو المنفلت، أو السايب ليس بشعر على الإطلاق، وتنبأت للظاهرة بالموت خلال الخمسين عاماً القادمة (من 1981) ولكنها ماتت قبل ذلك بكثير.. صمت الزامر، وانفض الساهر، ولم يبق من الحركة إلا بقايا أوتاد الخيام، وقل على حركة الشعر الحر السلام. والآن، لم يبق منهم غير فلول الهاربين على مقاهي بيروت والقاهرة، يجترون دعاوى لم تقنع أحداً. وعن مستقبل الشعر قال د. مكي لقد كان الشعر سلاحنا في نضالنا على امتداد العصور، ونفتقده الآن، لأننا نفتقد الشاعر الحق والبراعم الناشئة محاصرة، ويئدونها قبل ان تنبت أصولها، وما لم يتغير الموقف، فإن المستقبل سيكون مظلماً وغامضاً، ومطلوب من الهيئات غير الرسمية ان ترعى الشعر، وألا تبالي بهجمات المدعين..
وأضاف قائلاً : لقد أنشأ عبد العزيز سعود البابطين جائزته الكبرى لدعم الشعر العربي، وسرعان ما حولها النقاد لدعم أي شعر، والشيء نفسه يقال عن جائزة العويس الكبرى، أو جائزة أحمد زكي اليماني التي تحمل اسم الشاعر العربي الكبير محمد حسن فقي، أناديهم من هذا المكان ان يجعلوها وقفاً على الشعر العربي بمعناه الدقيق، وأن يقولوا ذلك صراحة، وألا يأبهوا بالنقاد المجاملين والخائفين، ولنا أمل كبير في ان هذه الجوائز العظيمة وهي بعيدة تماماً عن الشللية والمجاملة، يمكن ان تساهم في إنهاض الشعر العربي من كبوته.
وفي نهاية حواره اكد د. الطاهر مكي على ان انشغال البعض بمسألة هل مصر فرعونية أو عربية مضيعة للوقت لأنه علينا أن نحيي دور مصر في المنطقة العربية للنهوض به بعد تراجعه منذ زمن بعيد. وأشار إلى أن مصر والشام والحجاز كانت تشكل في إحدى المراحل التاريخية دولة واحدة لذلك فمناقشة هل مصر فرعونية أو عربية يلغي دور مصر ودورها الذي يجب أن نناقش كيف نعيده ونقويه.