إن تحسس الناقد لمسدسه عندما ينتهي إلى سمعه خبر أي إصدار ، بغض النظر عن جنس المؤلف ، يجلب إلى السطح المغيب والمطمور تحت طيات تاريخ علاقة النقد بالأدب . فالحقيقة الغائبة تحت ركام النظريات والخطابات النقدية المتناسلة من بعض ، وإن بطريقة الاختلاف والتباين. إن علاقة الناقد بالنص غير بريئة من العنف ، خصوصا عندما تتأطر وتتورط المقاربات النقدية بالأخلاقي أو السياسي أو العقدي. إن تاريخ النقد ابتداء من أفلاطون وانتهاء بالدكتور عبد الله الغذامي حافل بتجليات العنف الذي يستهدف النص وقد يتعداه إلى الكاتب ، وما نفي أفلاطون للشعراء من جمهوريته إلا نوع من أنواع العنف أراد به درء عنف متوهم ومتخيل آتيا من جهة الشعر ليهدد الأمن والاستقرار في جمهوريته. ولم يتنبه أفلاطون إلى أن النفي شكل من أشكال العنف وقابل للمساءلة من الناحيتين الأخلاقية والإنسانية.
أما بالنسبة للدكتور الغذامي أفلاطوني النزعة والهوى ـ كما تبدو صورته في (النقد الثقافي) ـ، يتجلى العنف اللغوي والإجرائي النقدي في تحول الناقد الثقافي إلى متهم (بكسر الهاء) وشاهد وقاض وسجان, في محاكمة حرم فيها الشعر أو الشاعر من حق الدفاع عن نفسه مثلما يحدث للشعراء مع أفلاطون. فالشعر أو الشاعر من وجهة نظر الغذامي هو المسؤول عن الاختلالات والإعتلالات الذهنية والسلوكية التي ألمت بـ(الذات العربية) و لا تزال مسكونة بها ، إذا تم افتراض أن هنالك شيئا موجودا اسمه (الذات العربية). واللافت أن عنف النقد الثقافي كما يمارسه الغذامي يذهب في أكثر من اتجاه ويطال اكثر من طرف. فليس الشاعر العربي وحده من يتعرض للعنف ، فالذات العربية المدعى بوجودها بالشخصية والطبيعة والصورة المطروحة في (النقد الثقافي) تتعرض بدورها للعنف عبر تجريدها من الوعي والقدرة على التفكير والفعل ومقاومة تأثير النسق الشعري ، ناهيك عن الزج بها وإقحامها في إطار الصورة النمطية لها، التي تسرمد وتؤبد سلبيتها واستلابها وخورها في حضرة الشعر والشاعر ، في حين أنه لا وجود للذات العربية كما يصورها الناقد الثقافي. فما هو موجود، الآن وعبر آماد التاريخ العربي، هو مئات الآلاف والملايين من الذوات العربية المختلفة ذهنيا ونفسيا وفكريا تبعا لاختلاف الظروف التاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. فمن المؤكد أن تفرز هذه التعددية للذوات العربية تعددية وتفاوتا على مستوى الاستجابات والتفاعلات مع النسق الشعري المدان ، وبالتالي الاختلاف والتباين في درجة التأثر به. فإذا اتفقنا مع الغذامي على أن النسق الشعري مارس و لا يزال يمارس التأثير والعنف على (الذات العربية) ، فان النقد الثقافي لديه هو نوع آخر من أنواع العنف سواء تمثل في سلب (الذات العربية) وتجريدها من الفاعلية أم في فرض التعاقب الاستنساخي عليها مثلما يفرضه على الشاعر، فالشعراء العرب من امرئ القيس إلى أدونيس يتوالدون ويتكاثرون ويتعاقبون بطريقة الاستنساخ، لا أحد يختلف عن الآخر مما يعني نفي الاختلاف والتعددية عن الشاعر العربي والمتلقي على السواء، فكلاهما محبوسان داخل إطار صورتين نمطيتين لا سبيل لهما إلى الخروج منهما. أما التعدد وتغيير الأدوار فهما امتياز واحتكار الناقد الثقافي بنموذجه الغذامي الذي يلعب دور المتهم والشاهد والقاضي والسجان ، وان تظاهر بلعب دور المخلص والمحرر.
والمثير أن فكرة تعددية أدوار الناقد في (النقد الثقافي) تعيدنا إلى أفلاطون مرة ثانية، مما يؤكد قوة ارتباط النقد الثقافي عند الغذامي بالإرث الأفلاطوني ، فالعنف المتخيل وقوعه بتأثير من الشعر (المسرح) منشأه حسب أفلاطون إغراء وتحريض المسرح/التمثيل مواطني الجمهورية على محاكاة الشخوص/الممثلين لاعبي الأدوار المتعددة في العوالم المتخيلة في المسرحيات الإغريقية- أي محاكاة الممثلين بلعب اكثر من دور في الواقع ، مما يعني تهديد إمكانية تحقق العدل الذي يتطلب قيامه التزام كل فرد بمسؤولية اجتماعية واحدة. من هنا كان ضروريا التخلص العنيف من الشعراء بنفيهم منعا لحدوث العنف والفوضى في مجتمع الجمهورية ذو الصلة بالنفي بلا شك ، إخراج الغذامي للكثيرين من (جمهورية الحداثة) ، مسترجعا بذلك للذهن (حكاية) النفي الأفلاطوني.
ما لا يحتاج إلى تقص دقيق أن المعجم النقدي المعاصر بالذات يحتشد بالمصطلحات والمفاهيم الدالة على العنف مثل التقويضية/التفكيكية والتشريحية ، ويمكن إضافة التفتيقية (من تفتيق النص)، مرورا بإماتة الناقد للمؤلف والمشي في جنازته تحت مبرر تحرير النص والقارئ من هيمنة المؤلف وسلطته. ولأن المصطلحات لا تلغي بعضها إنما تظل متجاورة ، فان من يتحرر من سلطة المؤلف هو الناقد ، أما النص فهو جثة هامدة في انتظار مبضع الناقد المشرح والمقوض والمفكك والمفتق ، أما إذا كان النص جسد حي يلجه القلم كالمبضع كما يقول الغذامي في (الخطيئة والتكفير ،86) ، فان النقد يفضح علاقته بالعنف السادي ، ويؤكد عنفيته . وهذا يعني أن النقد المعا صر في بعض اتجاهاته وتياراته يعود بمسار دائري إلى أصله وارتباطه لغويا بالتقطيع . فكلمة نقد في الإنجليزية على سبيل المثال ((criticism تنحدر كما يكشف تاريخها الإيتيمولوجي من الكلمة الإغريقية (krinein) بمعنى يقطع ويفصل ويقسم ويميز كما يوضح توبين سايبيرز . أعتقد أنه لا يمكن تصور حدوث قطع أو فصل بدون ممارسة عنف وقوة. ما قد يؤكد ما يذهب إليه سايبيرز في أن النقد يعيش أزمة أخلاقية من افلاطون إلى الناقد المعاصر . ولعل هذا ما يفسر وفقا لسايبيرز أيضا اتجاه النظريات المعاصرة مثل الشكلانية والبنيوية وما بعد البنيوية إلى تجريد النقد من بعده و مضمونه الإنساني بالتركيز على الشكل والبنية واللغة للخروج من تلك الأزمة , مجازفة بتورطها في أزمة تجريد ذاتها من إنسانيتها.
قد يبدو حمل الناقد للمسدس ماديا أو مجازا وتحسسه له شيئا جديدا ، لكنه قديم إذا ما وضع في سياق علاقة النقد بالعنف و بالقطع والفصل . لكن من ستصوب إليه فوهة مسدس الناقد ؟ من سيتلقى الطلقة النقدية النجلاء؟ أنفاس من.. ستقطع؟ أنفاس النص أم أنفاس المؤلف؟