هذا أسبوع الفرقعات السياسية في بغداد. الضجيج فيها من نصيب العراقيين، بينما أريد للطحن أن يصب في حملة الرئيس بوش الانتخابية. وهو ما يسوغ لنا أن نقول: إننا تابعنا خلال الأيام الماضية مشاهد فيلم هوليوودي أخرجته الإدارة الأمريكية، وفرضته على صدارة نشرات الأخبار في العالم.
(1)
مشهد انتهاء الاحتلال كان جزءاً مهماً في الفيلم. وهو ما حرص الأمريكيون على تسجيله وإبرازه، بدءاً بتقديم السيد بول بريمر (الحاكم المدني الأمريكي) إعلاناً مكتوباً إلى رئيس مجلس القضاء العراقي اعترف فيها بسيادة العراق الكاملة وانتهاء الاحتلال، ووصولاً إلى لحظة مغادرته بغداد وعودته النهائية إلى واشنطون. ثم دخول السفير الأمريكي جون نجروبونتي إلى المسرح وتقديمه أوراق اعتماده إلى الرئيس العراقي. وإذ فهمت أن ذلك كله اقتضاه إخراج الفيلم، فان ما أدهشني أن البعض تعامل مع تلك المشاهد باعتبارها حقيقة لا تمثيلاً. على الأقل فهذا ما عبرت عنه عناوين الصحف التي تحدثت عن طي صفحة الاحتلال واكتمال تسليم السلطة للعراقيين، ذلك فضلاً عن البشارات التي أطلقها بعض المطبلين والمزمرين الذين هللوا لما اعتبروه ميلاداً لعراق جديد.
لم افهم كيف يمكن الحديث عن اكتمال سيادة بلد في حين لا يزال 140 ألف جندي أمريكي وإنجليزي يرابطون على أرضه، وهؤلاء لم يدعوا من قبل الحكومة الوطنية، ولكنهم جاءوا غزاة ولا يزالون يسيطرون على مقدرات البلد الذي قاموا بتدميره. ليس ذلك فحسب، وإنما أعلن رسمياً على لسان رئيس الأركان الأمريكي ريتشارد مايرز انهم سيبقون في العراق لمدة خمس سنوات أخرى على الأقل، قابلة للزيادة بطبيعة الحال. وسيكون من حقهم القيام بعمليات هجومية حساسة (طبقاً لقرار الأمم المتحدة الأخير رقم 1546). ولن تكون القوات الأجنبية التي ستتمركز مستقبلاً في ثكنات أو قواعد خارج المدن، وحدها التي ستخضع للإدارة الأمريكية، ولكن قوات الأمن الداخلي العراقية (اكثر من مائتي ألف جندي) ستخضع بدورها للقيادة الأمريكية. وهو ما يعني أن الجيش والشرطة في العراق الجديد لن يتبعا السلطة الوطنية، ولكنهما في ظل استعادة السيادة المفترضة سيخضعان للقيادة الأمريكية مباشرة.
كذلك لم افهم كيف يمكن أن يجرؤ أحد على الحديث عن مسألة السيادة في حين أن جميع الوزارات العراقية تدار بواسطة المستشارين الأمريكيين، الذين يتولون توجيه النَّصح لكل وزير في جهة اختصاصه - وهذا كلام أعلن على الملأ، في تصريح نقلته الوكالة الفرنسية (يوم 17/6) على لسان الرجل الثاني في السفارة الأمريكية ببغداد، جيمس جيفري. وهو الذي قال: إن 150 عضواً من أعضاء السفارة، سيمارسون دوراً استشارياً لدى السلطة العراقية، وسيتوزعون على الأرجح في جميع الوزارات، بما في ذلك وزارة الداخلية. (للعلم، بسبب كثرة المستشارين والخبراء فان السفارة الأمريكية في بغداد التي اتخذت أحد القصور الرئاسية مقراً لها، ستصبح اكبر سفارة في العالم).
وكيف يمكن الحديث عن الاستقلال في حين أن عصب الاقتصاد العراقي سيظل بيد السلطات الأمريكية طيلة وجودها في العراق، حيث نص قرار الأمم المتحدة على حق الحكومة العراقية في الإشراف على الصندوق العراقي للتنمية بعد رحيل قوات التحالف. وهذا الأجل مفتوح ولا حدود له. وللعلم فانه منذ احتلال بغداد وصل دخل العراق من النفط 18 بليون دولار، ذهبت جميعها إلى الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي. وقد دفعت سلطة الاحتلال نصف ذلك المبلغ لتنفيذ عقود طويلة الأجل لشركات الإعمار الأمريكية. وما تبقى بعد ذلك انفق على أجهزة الدولة، والفتات كان حظ الشعب العراقي ونصيبه!
أما الذين تسلموا وثائق السيادة فهم رموز اختارتها الولايات المتحدة في مرحلة الاحتلال المكشوف، ومنهم من عمل لحساب المخابرات المركزية، مثل السيد اياد علاوي رئيس الوزراء الذي ذكرت نيويورك تايمز ونقلت عنها الشرق الأوسط في 10/6، انه تم تجنيده لصالح جهاز المخابرات الأمريكية في عام 1992.
إزاء ذلك، فلعلي لا أبالغ إذا قلت: إننا بازاء محاولة لتجميل وجه الاحتلال، أريد بها تحقيق أهداف عدة، أهمها إيهام الرأي العام الأمريكي بأن المهمة الرسالية التي نهض بها الرئيس بوش في غزوه للعراق قد حققت مرادها، الأمر الذي يتعين إضافته إلى رصيد الإنجازات، التي ترجح كفته في مواجهة منافسه على مقعد الرئاسة في انتخابات شهر نوفمبر القادم.
(2)
كأن التاريخ يعيد نفسه في العراق. ذلك أن ما نشهده الآن بمثابة إعادة إنتاج لما فعله البريطانيون هناك بعد ثورة العشرين. وكانت بريطانيا قد احتلت العراق عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، في إطار عملياتها العسكرية ضد الدولة العثمانية. وحين دخلوا بغداد في 11/3/1917 وزعت قيادتهم بياناً على العراقيين قالت فيه: لم ندخل بلادكم أعداء فاتحين ولكننا جئنا محررين - أيضاً! - ثم عينت إدارة مدنية تولت تسيير أمور البلاد، أسندت إلى كبار الضباط والخبراء البريطانيين. ولكن المقاومة العراقية تحركت ضد البريطانيين، وكان من ابرز علاماتها انتفاضة النجف (أواخر عام 1917) التي أثارت غضب البريطانيين، ففرض قائدهم حصاراً على المدينة استمر 40 يوماً، وقام بإعدام 11 مواطناً ونفى 170 منها (هل يذكرك ذلك بما حدث مع الفالوجة؟). وخشية أن يفلت الزمام من أيديها، عينت بريطانيا السير ارنولد ولسون وكيلاً للمندوب المدني في العراق، الذي حاول إضفاء الشرعية على الاحتلال، وأجرى استفتاء صورياً حول مستقبل البلاد، جاءت نتيجته، حسبما كان مرسوماً، لصالح استمرار الاحتلال والإدارة البريطانية. وبناء على ذلك فرض مجلس الحلفاء الانتداب على العراق - في مؤتمر سان ريمو - عام 1920، الأمر الذي فجر غضب العراقيين، الذين لم يجدوا مفراً من التصدي للاحتلال بالقوة، وكانت الانتفاضة التي عمت البلاد واشترك فيها الجميع، الأكراد والتركمان والعرب (كتب التاريخ العراقي تحدثت عن العرب بإطلاق، ولم تميز بين الشيعة والسنة). واستمرت الثورة حوالي خمسة اشهر، تكبدت القوات البريطانية خلالها خسائر كبيرة في الأرواح. بلغت حوالي 2500 شخص، بين قتيل وجريح.
إزاء ذلك غيرت بريطانيا من سياستها، ولكي تهدئ من ثورة العراقيين فإنها قررت أن تخطو خطوة إلى الوراء، بحيث تسلم السلطة إلى واجهة عراقية، في حين تمسك بالمقاليد والخيوط من وراء ستار - ماذا فعلت؟
دعت الأمير فيصل بن الحسين الذي كان قد فقد عرشه في سوريا، إلى لندن لتتداول معه في استلام عرش العراق. وفي الوقت ذاته أرسلت في خريف عام 1920 أحد رجالها إلى العراق - السير يرسي كوكس، كمندوب سام، لكي يتولى إخراج المشهد. وفي بغداد حاول صاحبنا تهدئة الأوضاع، وافلح في تشكيل حكومة مؤقتة برئاسة عبد الرحمن الكيلاني نقيب بغداد.
في عام 1921 وصل الأمير فيصل إلى العراق بعد ترتيب الأوضاع وتأمينها لصالحه. فنودي به ملكاً، وأعلن عن مشروعه إقامة نظام دستوري نيابي ديمقراطي مقيد بالقانون، وأجرى استفتاء حول الرجل جاءت نتيجته لصالح تنصيبه على عرش البلاد في 23/8/1921. وكانت تلك بداية لفصل جديد في مشهد الاحتلال. حيث ابتعد السير يرسي كوكس عن الصدارة، وقبع في مقر السفارة البريطانية التي أصبحت مطبخ القرارات السياسية، في حين ظهرت في الواجهة حكومة وطنية عراقية وبعض المؤسسات الإدارية الأخرى.
ولتقنين العلاقة بين الطرفين، وقع العراق المستقل في عام 1922 معاهدة حددت أسس الانتداب، وتضمنت أربعة ملاحق رسمت معالم الاحتلال الناعم، وبسطت نفوذ بريطانيا على البلاد، ووفرت حصانة للموظفين البريطانيين، وأبقت على القوات البريطانية في معاهدة عسكرية وضعت إطار التعاون على ذلك الصعيد بين البلدين. وكان ذلك إشارة إلى ميلاد عراق جديد انضاف إلى خرائط العرب في زمن العشرينات.
(3)
إذا كان استعراض تسليم السلطة والاختباء في معسكرات بعيدة أو وراء معاهدات واتفاقات مفروضة مشهداً قديماً، فينبغي أن نعترف بأن مشهد محاكمة صدام حسين كان جديداً، ومتضمناً درجة عالية من الإثارة الهوليوودية، لم يعرفها أسلافهم البريطانيون. ذلك انهم حين أرادوا إخلاء المسرح لارتقاء الأمير فيصل عرش العراق، تخلصوا من منافسه السيد طالب النقيب الذي كان مرشحاً أقوى، فألقوا القبض عليه وقاموا بنفيه إلى جزيرة سيلان، حيث لم يكن هناك مبرر لمحاكمته واغتياله أدبياً.
اعترافنا بجدة مشهد محاكمة صدام حسين يستصحب اعترافاً آخر بنجاح المخرجين في تسويقه وفرضه على مختلف وسائل الإعلام، المرئية والمقروءة والمسموعة. إذ لم يخطر على بال أحد يوماً ما أن يرى الرئيس العراقي السابق الذي ظل ملء السمع والبصر في العراق طيلة اكثر من ثلاثين عاماً، وقد اقتيد مكبلاً بالأغلال في يديه وساقيه لكي يستمع إلى لائحة اتهامه من قاض عراقي شاب في عمر أبنائه. وهي لقطة لا تنافسها في الإثارة سوى صورته وهو خارج منكوش الشعر من القبو الذي كان مختبئاً فيه.
مشهد المحاكمة لم يكن مسكوناً بالإثارة فقط، ولكنه كان مسكوناً بالمفارقة أيضاً. فهذا رئيس لم يحكم يوماً ما بالقانون، كتب عليه أن يحاكم بقانون زائف من قبل سلطة مشكوك في شرعيتها. ثم أن موعد إعلانه بلائحة الاتهام تحدد بعد يومين من إعلان استرداد العراق لسيادته وإنهاء الاحتلال. في حين أن الموعد حدده الأمريكيون، وقد جيء به تحت حراسة أمريكية، كما أن الأمريكيين هم الذين وضعوا لائحة اتهامه، وحددوا صوره التي يسمح بظهورها وتلك التي يحظر نشرها. والرقيب العسكري الأمريكي هو الذي قرر ما الذي يمكن أن يسمع من كلامه وما الذي يحذف ويحجب عن الناس (كانت النتيجة أننا سمعنا من كلامه ثلاث دقائق فقط في حين أن مثوله ومناقشاته مع قاضي التحقيق استمر نصف ساعة تقريباً).
من ناحية أخرى، فان الأمريكيين الذين وضعوا سيناريو المشهد على ذلك النحو، فاتهم أن بيتهم من زجاج. فقد اتهموه بغزو الكويت، في حين انهم مجرحون في غزو العراق واجتياح أفغانستان. بالتالي فان ما فعله لا يختلف كثيراً عما فعلوه هم. وهم استدعوه لا ليحاكموه، لان المحاكمة ستتم بعد عدة اشهر، ولكن لاستثمار إظهاره ذليلاً وضعيفاً ومكسور الجناح، لكن إظهاره جاء بنتيجة عكسية في العالم العربي على الأقل، لأنه بدا متماسكاً وقوياً ومهاجماً، فكسب من حيث أرادوا له أن يخسر.
(4)
لا احسبه انه كان جاداً ويعي ما يقول، وزير العدل العراقي مالك الحسن، حين قال انه سيتم الإفراج عن صدام فوراً، إذا لم تتوافر الأدلة التي تدينه (الشرق الأوسط 2/7). فهو يعلم جيداً أن الرجل لن يفرج عنه، ويعلم أيضاً أن المحاكمة لن تستمر علنية، وان محاكمته هي في النهاية سياسية وليست قانونية، بسبب الشك القوي في شرعية مجمل الوضع الجديد الذي صنعه الاحتلال بالكامل. وفي كل الأحوال فان صدام حسين سيظل ورقة توظفها الإدارة الأمريكية لتحقيق ما تشاء من مآرب، وما إظهاره أمام قاضي التحقيق بعد يومين من تسليم السلطة، وقبل ثلاثة أيام من احتفال الولايات المتحدة بيوم الاستقلال (4 يوليو) إلا نموذج لعملية الاستخدام هذه. ذلك أن إظهاره يبعث برسالة إلى الشعب الأمريكي تدعوه إلى تعزيز ثقته في إدارة الرئيس بوش، وتطمئنه إلى انه الرجل القوي الذي أطاح برموز الشر وأذلهم، وهي رسالة ليست لوجه الله بطبيعة الحال، ولكن يراد بها أن تضيف نقاطاً إلى رصيده المتراجع في حملته الانتخابية. خارج هذه الدائرة فان محاكمة صدام حسين وأعوانه ليست هماً عراقياً، ولا أظن أنها تمثل شاغلاً للناس - باستثناء خصومه الراغبين في الثأر منه - بعدما اصبح الرجل جزءاً من الماضي، في حين أن ثمة تحديات تنوء بها الجبال في الحاضر والمستقبل. وإذا خطفت المحاكمة الأنظار وأثارت فضول الجميع لفترة زمنية محدودة، فإنني اشك كثيراً في أنها ستصرف الاهتمام عن معاناة العراقيين اليومية أو عن المشكلة الأكبر المتمثلة في الاحتلال، الظاهر منه والخفي. وهو أمر لا يغيب عن بال الذين أحدثوا الفرقعة واخرجوا المشهد، لذلك فانهم بإظهاره أو استعراضه أمام المحكمة أرادوا بلوغ هدف قصير المدى ليس العراقيون أو العرب طرفاً فيه، ولذلك ازعم أن الرسالة كلها كانت موجهة إلى الرأي العام الأمريكي بالدرجة الأولى. اغلب الظن أن هذه لن تكون آخر الفرقعات أو الألاعيب، فأمامنا خمسة شهور تقريباً قبل إجراء الانتخابات الأمريكية، ولذلك فسوف نتوقع فرقعات أخرى، حيث المطلوب أن توظف كل الأوراق والفرص لإنجاح الرئيس بوش. وليس سراً أن الوضع العربي الهش دخل ضمن تلك الأوراق، ولعلك قرأت في مستهل هذا الأسبوع كيف أن ثمة أنظمة أصبحت تتنافس على نيل رضا البيت الأبيض وتقديم فروض الطاعة والولاء لساكنه!