د. عبد الوهاب المسيري، صاحب موسوعة اليهود واليهودية لا يحتاج إلى تعريف، مواقفه معروفة من الصراع العربي الاسرائيلي، ويملك رؤية متفائلة لصالح العرب رغم كل الصعوبات التي تواجه الموقف العربي وفي حواره مع (اليوم) يؤكد أن الانتفاضة الثانية حققت أهدافها.. وتمكنت من الوصول إلى نقلة نوعية في تحركها وعملياتها، ويشير إلى أن شارون جاء إلى حكم اسرائيل في لحظة يأس، ولا يملك حلا سحريا، ويؤكد أن العولمة العسكرية سبقت العولمة الاقتصادية، وستواجه بمقاومة شديدة.
@ في البداية.. كيف ترصد الواقع في الأراضي الفلسطينية؟
ـ الموقف في الأرض المحتلة أصبح مترديا للغاية ولا أحد ينكر الضغوط التي يمكن أن تقع علي الحكومات.. من هنا كانت أهمية استغلال الموقف الشعبي كورقة ضغط عند أي تفاوض وهو ما يجب أن تتعلمه جيدا الحكومات.. وليس خافيا على أحد أن الوضع يزداد سوءا يوما بعد يوم ويكفي أن وصل الحال بأن تطالب أوروبا عرفات بحل حماس والجهاد واستخدموا في ذلك تعبيرا في غاية القسوة وهو "Dismantel" وهي كلمة ضخمة كانوا يستخدمونها لاتهامنا بأننا "Wanted to dismantel Israel" أي أننا نريد أن ننهي تماما اسرائيل.والآن يستخدمون نفس التعبير صراحة ويطالبون عرفات "بفك" حماس والجهاد دون تقديم مبررات واضحة لذلك. فأصبحت المقاومة في نظرهم إرهابا رغم أن وجود القوانين والأعراف التي تؤيد حق المقاومة باعتباره حقا مطلقا لا يمكن التنازل عنه. وهذا الموقف الأوروبي أصابنا بالدهشة فلم نكن نتصور أن أوروبا والتي لها مصالح مع العالم العربي وكانت تأخذ بالفعل موقفا معتدلا إلا أننا نجدها تتحول بهذا الشكل لتؤكد أن حالة التردي وصلت الي منتهاها.
@ ما تقييمك لمبادرة الأمير عبد الله التي طرحها لحل القضية الفلسطينية ؟
ـ في رأيي أنها مبادرة رائعة للغاية وجاءت في وقتها وتحدد بدقة الهدف من الانتفاضة في وقت اتهم فيه البعض الانتفاضة بأنها غير محددة الأهداف ومع ذلك يبقى التساؤل عن الأراضي التي احتلتها إسرائيل قبل يونيو 67 وهنا تركت المبادرة الباب مفتوحا أمام الاجتهاد والجهاد حيث توجد اتفاقات لدي الأمم المتحدة تتعلق بحق عودة الفلسطينيين لديارهم.
@ ربما دفع ذلك البعض بوصف المبادرة بأنها لعبة سياسية ماهرة؟
ـ المبادرة بالفعل مشروع جيد وما يحولها إلى لعبة سياسية هو رد الفعل الإسرائيلي والذي تركز فقط على الحديث عن التطبيع وأغفل تماما الحديث عن تنفيذ نصوص المبادرة، وأعتقد أن المبادرة ستلعب دورا كبيرا في فضح إسرائيل وكشف إدعائها الكاذب بأنها تريد السلام وأن الحقيقة أنها لا يمكن أن تضحي بالأرض مقابل السلام والدليل على ذلك أننا لم نسمع منهم أي رد فعل عن انسحاب أو عن تفاصيل تنفيذ المبادرة إنما فقط تحدثوا عن إجراءات شكلية تتعلق بمقابلة الأمير عبد الله. واعتقد أن إسرائيل لو كانت جادة حقيقة في قبول المبادرة لطرحت رؤية كلية ولم تنسق إلى إجراءات شكلية. وفي رأيي أيضا أن الدبلوماسية العربية عليها الآن دور كبير في رؤيتها الشاملة والإصرار على الانسحاب الإسرائيلي الكامل من جميع الأراضي العربية. لذلك فبقدر تأييدي للمبادرة بقدر إحساسي بأن المردود عليها سيكون إعلاميا أكثر ولا أعتقد أن إسرائيل ستقبلها من هنا تكمن أهمية الدور الملقى على الدبلوماسية العربية في فضح وجه إسرائيل القمعي الاحتلالي.
@ هل ترى أن الاتحاد الأوروبي يمكن أن يلعب دورا لصالح القضية الفلسطينية خاصة وأن هناك تغييرا نسبيا ملحوظا لصالحها؟
ـ الموقف الأوروبي سيساهم بلا شك في رفع معنويات الفلسطينيين وهو دليل على أن الانتفاضة بدأت بالفعل تؤتي ثمارها في تعرية وجه إسرائيل البشع.
@ لكن في ظل الحصار المفروض على الرئيس عرفات واستمرار الاعتداءات الوحشية كيف ترى مستقبل القضية الفلسطينية؟
ـ المستقبل يتوقف على مدى الدعم العربي للشعب الفلسطيني وهم في أمس الحاجة الآن لمزيد من الدعم، فالشعب الفلسطيني ضحى بالكثير ولم يبق إلا الدعم العربي والإسلامي ليتيح الفرصة للضغط في صالح القضية ليقف العدو في النهاية موقف الدفاع وليس الهجوم من هنا تكمن أهمية أن تكون لدينا أجندة واضحة المعالم نتحرك على أساسها لننجح في النهاية في تحقيق هدفنا.
فعل سياسي
@ يحدث ذلك في وقت يؤكد فيه البعض أن ما يحدث ليس صراعا حضاريا وإنما صراع سياسي يرتدي ثوب الدين؟
ـ أنا لا أفصل بين الدين والسياسة لأن الفصل بينهما بدعة أوروبية.. معروف أن الإسلام دين ضد الظلم وعندما نقف ضد الظلم فإننا بالتالي نأخذ موقفا سياسيا، فالباعث هنا ديني لكن التحرك سياسي، فعندما يطالب الإسلاميون بتحرير فلسطين وجنوب لبنان هل هذا يعد عملا سياسيا أم دينيا؟! فمسألة الفصل هنا مسألة مضحكة. فالبواعث دينية والمدتين يرى أن هناك مكافأة له من جهاده ضد عدوه الذي يحتل أرضه وعندما يقاوم فهو يقوم بفعل سياسي.فمقاومة المحتل أمر يتفق فيه الجميع من قوميين وعلمانيين وإسلاميين. لكن الفيصل الأكبر الآن في الساحة هو الإسلام وإن كان الأمر لا يحولها الى قضية دينية محضة ستظل قضية تحرير الأرض قضية سياسية تتم بالقواعد الدينية. نفس الشيء يمكن أن ينطبق على أمريكا.. فالإسلام ضد الظلم وأمريكا دولة ظالمة وعندما نتصدي لها فهل هذا التصدي عمل ديني أم عمل سياسي أم عمل أخلاقي.. من الصعب الفصل. فأنا كنت ضد أمريكا قبل أن أتبني الأيديولوجية الإسلامية ومازلت ضدها بعد أن تبنيت هذه الأيديولوجية وإن كنت أدركت أكثر لخطورتها إلا أن رفضي لها في جوهره لم يتغير وإن كان هو الآخر زاد بفعل ما يحدث ليؤكد أن أمريكا قوة بالغة الظلم تسعى لاستغلال الشعوب والأرض غير عابئة بأية مقاييس أخلاقية وغير ملتزمة بأية قوانين أو معاهدات.. ولننظر الي كم المعاهدات الأمريكية التي انسحب منها الرئيس بوش آخرها معاهدة الحد من انتشار الأسلحة والتي أثبتت نجاحها على مدى 30 سنة ويأتي الآن بوش ليقرر الانسحاب منها ليؤكد أننا أمام امبراطورية الشر بالفعل.
@ هل يدفعك هذا الموقف الى تأييد الرأي الذي يرى أن ما قام بأحداث 11 سبتمبر قوة أمريكية داخلية لتحقيق أجندة سياسية كانت معدة مسبقا؟
ـ ارى أن مسألة التكهن بمن وراء أحداث سبتمبر ربما تكون مفيدة إلا أنه ليس مفيدا جدا فالنتيجة في النهاية واحدة بغض النظر عن الفاعل وهي أن أمريكا قررت أن ابن لادن والإسلام وراء هذه العملية وعلى هذا الأساس تدير معركتها ولو ظهرت الحقيقة بعد 30 سنة لتؤكد على ذلك تظل النتيجة واحدة فمن الواضح أن لأمريكا أجندتها السياسية المسبقة التي تدفعها لمحاولة الوصول إلى بحر قزوين للسيطرة على منابع البترول أيضا أكد لي البعض أن المشروع الصناعي الصيني كان يعتمد على مد أنبوب غاز للصين ضمانا لاستمرار النهضة الصناعية الصينية والتي تشكل خطورة على أمريكاولا يمكن أن تقف صامتة أمام هذه النهضة. من هنا سعت للسيطرة على أفغانستان لتزيد من وجودها في هذه المنطقة الاستراتيجية الخطيرة التي تضم الهند والصين والجمهوريات الإسلامية المستقلة خاصة باكستان. مسألة ابن لادن إذن ما هي الاٌ شماعة أو مبرر فقط تسوقه الإدارة الأمريكية لشعبها وإن كان لا يتدخل في صنع السياسات الخارجية إلا أن تأييده للإدارة كان شيئا ضروريا. فهي تقدم له المبرر وتضمن تأييده وفي نفس الوقت تتحرك وفقا لأجندتها السياسية لتحقيق أطماعها الإمبريالية الاستراتيجية. تماما كما تفعل مع اسرائيل تقنع الرأي العام أن إسرائيل دولة صديقة قامت كجزء من تراث ديني يهودي يخدم مصالح الغرب وبالطبع هنا لا يتم الحديث نهائيا أن وجود إسرائيل ما هو في الحقيقة إلا قاعدة لضرب الشعوب العربية.
مقاومه شديدة
@ ربما يدفعنا ذلك لتبني وجهة النظر التي تؤكد أن تحرك أمريكا في المنطقة هو نوع من العولمة العسكرية؟
ـ يحضرني هنا رأي للدكتور سمير أمين رئيس منتدى العالم الثالث حيث يرى أن العولمة العسكرية ظهرت من البداية وليست لاحقة للعولمة الاقتصادية. فلا يمكن فرض العولمة بالمفهوم الغربي إلا من خلال القوة وظهرت المؤشرات واضحة في ضرب العراق وكوسوفا والصرب فكل ذلك نوع من العولمة العسكرية وما يحدث في أفغانستان هو استمرار لنفس النمط. رغم ذلك فأنا من المؤمنين بمقدرة الإنسان على التصدي ومن رأيي أن العولمة في طريقها لمواجهة مقاومة شديدة رغم أنها تفترض أن الشعوب سلبية إلا أن هناك مؤشرات تدل على ظهور المقاومة للعولمة والتي ستدفع في النهاية لتعديل موقفهم. تماما كما حدث مع النظام الاستعماري القديم عندما واجهته مقاومة تراجع وإن عاد للظهور بشكل آخر. فالنظام العالمي الجديد بالطبع هو محاولة للالتفاف نتيجة المقاومة التي واجهته والهزائم التي مني بها سواء في فيتنام أو غيرها. حيث اكتشفوا في النهاية أن المواجهة العسكرية صعبة ومكلفة فلجأوا إلى العولمة الاقتصادية والنظام العالمي الجديد لاستمرار الهيمنة بالتعاون بالطبع مع بعض النخب الحاكمة الفاسدة التي تعمل لمصالحهم.
@ في رأيك إذن أن العولمة ستواجه بمقاومة لكن إلى أي مدى يمكن أن تؤثر هذه المقاومة وهل ستكون في قوة وتأثير العولمة حتى تنجح في مواجهتها؟
ـ ربما لا تكون في نفس قوتها لكنها بالطبع ستأخذ أشكالا عديدة تجعل القوة المهيمنة في النهاية تعيد النظر في سياستها.
@ ترى من يمكن أن يقوم بدور واضح لمقاومة العولمة؟
ـ من الصعب التنبؤ الآن وإن كانت هناك مؤشرات وأشكال لهذه المقاومة ظهرت بالفعل.. فالانتفاضة واحدة من أهم هذه الأشكال.. هناك أيضا تحركات في الغرب نفسه لمواجهة العولمة فنسمع عن تحرك "الخضر" ونقابات العمال وأطباء بلا حدود. فأي تنظيم يدافع عن إنسانية البشر لابد أن يقف في النهاية ضد العولمة لأنه لا يحترم آدمية الإنسان ويصنفه الى منتج ومستهلك لا ينظر إليه كإنسان كامل وهو في النهاية يسعى الى محو الثقافات حتى يتحول الجميع الى نظام "التنميط" أي نشر القيم النمطية لتجعل العربي والأمريكي لديهم نفس التطلعات ونفس الرؤية وإلا كيف تسوقه لمصانعها النمطية. أمريكا تتحرك وفق سياسة لا تهدف في النهاية إلا لمزيد من الهيمنة.
@ إذن لا حل من وجهة نظرك لهذه القضية سوى باستمرار الانتفاضة لكن الى أي مدى تنجح هذه الانتفاضة في تحقيق هدفها؟
ـ في رأيي أن الانتفاضة الثانية حققت نجاحا وأنها تجاوزت الظروف التي دفعت للانتفاضة الأولى فأصبح لديها نقطة انطلاق وأرض خاضعة للسلطة وأصبح تحرك الشعب الفلسطيني يتم بسهولة وثبت أنهم وصلوا لتصنيع الهاون أي أنه من الممكن أن يقوموا بعمليات ويضربوا أهدافا ثم يعودون. حدث إذن نوع من التصعيد في أدوات الحرب لم تقتصر على مجرد الحجارة. الوضع الآن مختلف وتشير لذلك أن نسبة الضحايا من الجانب الفلسطيني معقولة عكس ما وقع في الانتفاضة الأولى. لكن ربما يكون أهم هدف حققته الانتفاضة الثانية أنها أصابت إسرائيل بما يسمى "ظاهرة العجز المكتسب" والتي بدت مظاهرها واضحة. فشعر الشعب الإسرائيلي أن الغرب وضعه في مأزق وفي طريق مسدود فوضعهم في بلاد ساعدهم للبقاء لكنه وجد نفسه في مواجهة دائمة مع الفلسطينيين.
@ وما الذي تقود اليه ظاهرة العجز المكتسب؟
ـ المشكلة أن احدى نتائج هذه الظاهرة أنها تحتاج لحل سحري وفي رأيهم أن شارون هو الذي يمتلك هذا الحل.. إلا أن الأحداث أثبتت أن شارون نفسه يتآكل.والنتيجة ان تزايدت الرغبة في الهجرة من إسرائيل.. وفي "موقع علي الانترنت" قرأنا عن إسرائيلي يعرض شقته للبيع ويعلن عن رغبة أسرته في الهجرة من إسرائيل وتمت مناقشة قضية الهجرة على الانترنت مما يؤكد على زيادة القبول الاجتماعي لذلك فالقضية أصبحت مثارة ومعرضة للمناقشة بعد ان كانت من الموضوعات التي لا تناقش.
@ قلت إن شارون يتآكل فما هي مظاهر هذا التآكل؟
ـ في رأيي أن شارون هو جنرال اليأس وهو وصف أطلقته عليه من اليوم الأول لمجيئه لحكم إسرائيل فإسرائيل في لحظة يأس وشارون لم يقدم شيئا وأثبت بالفعل فشله وأدرك الجميع أنه لا يمتلك الحل السحري الذي كانوا يحلمون به.
@ تحدث البعض عن دور الجاليات العربية في أميركا وأوروبا. فكيف ترى هذا الدور في مناصرة القضايا العربية؟
ـ الجاليات العربية في أميركا وأوروبا لديها حرية كبيرة، فهي تعيش داخل هذا المجتمع وتعرفه.. وأعتقد أنهم يقومون بدور، لكن مع قليل من التنظيم يمكنهم أن يكونوا أكثر فاعلية.. ويمكنهم القيام بدور تنويري مثلا بتوضيح الحقيقة في مسألة امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، وتوضيح أبعاد القضية الفلسطينية والمذابح التي ترتكبها إسرائيل، وهم لديهم مساحة حرية وديمقراطية كبيرة للقيام بهذا الدور.
@ د. المسيري.. الفكرة المعروفة عن تأثير اللوبي الصهيوني داخل أميركا.. هل هي فكرة حقيقية أم أن بها الكثير من المبالغة والتضخيم، خاصة إذا قلنا إن أميركا دولة مؤسسات؟
ـ اتفق معك تماما في أنه يوجد الكثير من التضخيم لحجم وقوة ضغط اللوبي الصهيوني على الإدارة الأمريكية، ووصلنا إلى درجة إعفاء الولايات المتحدة من المسئولية بحيث تحولت أميركا إلى "ضحية".. وهذا خطأ لأن الولايات المتحدة كدولة عظمى امبراطورية لها استراتيجيتها الاستعمارية، وأعتقد أن اللوبي الصهيوني استمد قوته داخل المجتمع الأمريكي من كونه منفذاً لسياسات الاستعمار الأمريكي، وهذا لا يعني أنه ليس له نفوذ. فهو له نفوذ ولكن ليس بالشكل الذي نتصوره.
@ إذن ما طبيعة العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل؟.. بمعنى مَن يستغل مَن في هذه العلاقة المعقدة؟
ـ الفكرة أن هرتزل ـ مؤسس الحركة الصهيونية ـ اكتشف أنه لتنفيذ مشروعه يجب أن يكون جزءا من الامبريالية، وهو القانون نفسه الحاكم لأوروبا وهو أن يجعلوا أنفسهم جزءا من الاستعمار ليكون هناك استمرار للدعم، وفي البداية كان الغرب يستغل الصهيونية كمكان للاستيطان وسط العرب والمسلمين، ونتيجة لغباء النخبة الصهيونية والعنصرية الغربية الذين رأوا أن شعوب العالم الثالث غبية ومتخلفة تم زرع إسرائيل في أرض فلسطين، وبعد ذلك تحولت إلى جزء من العالم الإمبريالي وهي ليست علاقة عضوية.. والأمر نفسه ينطبق على علاقة إسرائيل بالولايات المتحدة على اعتبار أنها تمثل العالم الامبريالي.
@ بصراحة شديدة.. هل يوجد حل للقضية الفلسطينية في الإطار الصهيوني و"مائدة المفاوضات"؟!
ـ لا يوجد أي حل للقضية الفلسطينية في الإطار الصهيوني، وهم يعلمون ذلك تماما، فلا يوجد شعب على وجه الأرض استولى على أرض شعب آخر طواعية، ولقد جاء الصهاينة واستولوا على أرض فلسطين فلابد أن يضربوا بيد من حديد على الفلسطينيين إلى أن يقتنعوا أنه لا مفر من التسليم، الصهاينة كانوا يعيشون على هذا الأمل، أي أن يستسلم الفلسطينيون للأمر الواقع، لكن المقاومة الفلسطينية اصابتهم بخيبة الأمل واليأس ودفعتهم لارتكاب الحماقات بدافع الخوف، مثل بناء الجدار العازل والغارات المستمرة. والأمل الذي يعيش عليه الإسرائيليون الآن هو ان تظهر قوى عربية جديدة تقبل الحل الذي يتمثل في الاستسلام.. لذلك فهم يعيشون على المسكنات واغتيال الشيخ ياسين والرنتيسي أحد هذه المسكنات التي تدل على يأس وتخبط وخوف الإسرائيليين.
@ ألا يعد الجدار العازل بمثابة تخلى إسرائيل عن حــلم "إسرائيل الكبرى".. وما دلالاته؟
ـ الجدار العازل جزء من العجز الإسرائيلي وسيكون بمثابة زنزانة أو سجن كبير، وهو يضع نهاية للحلم الصهيوني وله - كما قلت دلالة واضحة على حالة اليأس والخوف والتخبط التي يعيشها الصهاينة.
@ كيف ترى حديث البعض عن المجتمع الإسرائيلي من الداخل وديمـقراطية سمحت بوجود إسرائيليين يناصرون القضايا العربية؟
ـ المجتمع الإسرائيلي مجتمع متنوع به ديمقراطية، لكن هذا التنوع يسير داخل الإطار الصهيوني، فحتى المعتدلين لا يرون للعرب أي حق في أي أرض، ربما يرون مثلا أن سياسة الاغتيالات والتصعيد خاطئة لكنهم لا ينكرون حقهم كصهاينة في إسرائيل.
توقع الحجارة!
@ صرحت لاحدى الصحف العربية قبل انتفاضة الاقصى إن إلقاء الحجارة سيكون أحد أهم أشكال النضال الأساسية.. وبذلك توقعت بالانتفاضة قبل وقوعها بسنوات. إلى ماذا استندت كي تصل إلى هذا التحليل ـ التنبؤ؟
ـ يمكنني القول إنني تنبأت بوقوع الانتفاضة من خلال عملية تحليل مركبة للغاية بدأت بإدراكي للمنحنى الخاص للوضع في الضفة الغربية وانتهت بوصف ما اسميته "النموذج الانتفاضي" وكانت نقطة البداية هي حديث جرى في القاهرة بيني وإحدى الطالبات الفلسطينيات من غزة ولاحظت مدى إزدرائها للإسرائيليين وعدم خوفها منهم. وبدأت ألحظ أن فلسطينيي الداخل غير منكسرين على عكسنا نحن العرب في الخارج، فالفاعل الإنساني العربي هناك قوى ومتماسك، ثم قرأت إعلانات إحدى الجرائد الإسرائيلية عن إحدى المستوطنات الصهيونية في الضفة الغربية، فلم أجد أي إشارة عن أرض الميعاد أو لصهيون أو للمثل العليا الصهيونية أو العقيدة اليهودية، بل يقتصر الحديث على المزايا والإغراءات المادية والمعيشية والترفيهية، وهكذا ولدت في عقلي صورة للعرب والصهاينة، مغايرة تماما للصورة المألوفة. نبهني الحديث مع الطالبة والإعلان في الجريدة الإسرائيلية إلى ضرورة استرجاع كل من الفاعل الإنساني العربي والصهيوني، ثم بدأت أرصدهما في تفاعلهما ومواجهاتهما اليومية ودوافعهما الداخلية، وكانت هذه هي الخطوة الأولى في صياغة نموذج تحليلي جديد، فأدركت أن الفاعل الصهيوني أصبح محايدا غير مكترث بما يسمى "المثاليات الصهيونية"، متمركزا حول ذاته.. ويدرك العالم من خلال حرصه الشديد على المعدلات الاستهلاكية المادية العالية التي يتمتع بها، والمستوطنون الصهاينة في تصوري أساسا مرتزقة.. ولكن بينما كان القدامى منهم على استعداد لتحمل شظف العيش وإرجاء الإشباع وانتظار المكافأة المادية المؤجلة، نجد أن المستوطنين الجدد مع تزايد معدلات "العلمنة" يصرون على تحقيق مستويات معيشية وأمنية عالية عاجلة دون تأجيل.. ولذا فالمنظمة الصهيونية تدفع لهم منحات باهظة على هيئة منازل مريحة وطرق معدة خصيصا لهم، ومدارس لأطفالهم، وحراسة مشددة حتى ينعموا بالعيش في هواء أرض الميعاد المكيف. وصغت في ذلك الوقت مصطلح "الاستيطان مكيف الهواء"، وبعدها بعدة سنوات صاغ المعلق العسكري الإسرائيلي "زئيف شيف" مصطلح "الاستيطان دي لوكس"، وبالتالي كانت رؤيتهم للعرب ولأنفسهم آلية اختزالية مادية.. وانطلاقا من هذا أشرت في مقالي إلى "الوهم الإسرائيلي" الذي يستند إلى الرؤية المادية بأن المقاومة اجتثت تماما من جذورها وأن هناك علامات وقرائن على ما أسماه الجنرال "بنيامين بين اليعازر" ـ منظم الأنشطة في الضفة الغربية وحاكمها العسكري آنذاك ـ، "التكيف مع الأمر الواقع وتقبله" أي القبول بوجود إسرائيلي، وفي مقابل ذلك رصدت ما أتصور أنه النموذج الإدراكي الذي يرى الفلسطينيون أنفسهم من خلاله، فلاحظت أنهم يرفضون الانصياع للنموذج الاستهلاكي الاختزالي المادي وأنهم يدركون أنفسهم بطريقة مغايرة، وحاولت أن أرصد إدراكهم لحالة الإسرائيليين أنفسهم العقلية فلاحظت أن مواطني الضفة الغربية أدركوا أن كل ما ينغص على المستوطنين حياتهم هو في نهاية الأمر إحباط للمخطط الصهيوني.. ومن خلال عدد من الحوادث المتفرقة والتي كان يستخدم فيها الفلسطينيون الحجارة، مثلما حدث مع الجنرال "بن اليعازر" عندما صرح لجريدة "معاريف" ـ في 14 نوفمبر 1983، بأنه قرر وضع حد لظاهرة إلقاء الحجارة ثم بعد يومين ذهب لافتتاح مبنى بلدية جديدة في إحدى مدن الضفة ظنا منه أنه يستطيع كسب الفلسطينيين برفع مستوى معيشتهم، لكن الجماهير الفلسطينية استقبلته بالحجارة.. ولذلك رأيت أن الحجارة ستصبح سلاحا أساسيا في الضفة الغربية.
@ توقعك بأن "الحجر" سيكون هو السلاح الأساسي.. هل يعود إلى تكرار حوادث إلقاء الحجارة على المستوطنين؟ ولماذا الحجارة تحديدا وليس أي شيء آخر؟
ـ قبل الحجارة ابتدع الفلسطينيون شكلا جديدا من أشكال المقاومة، حيث كانت القوات الإسرائيلية تحظر عليهم رفع العلم الفلسطيني وتقبض على أي فلسطيني يفعل ذلك.. فكان الفلسطينيون في غزة عندما تمر عليهم قافلة عسكرية إسرائيلية يأتون ببطيخة ويقطعونها ويرفعون نصفها وألوان البطيخة هي ذاتها ألوان العلم الفلسطيني (أخضر وأحمر وأسود)، ولم يكن بمقدور القوات الإسرائيلية أن تقبض على الفلسطيني بتهمة "قطع البطيخة" وإلا ستصبح أضحوكة العالم. ومن خلال صورة البطيخة هذه، وطريقة استخدامها بدأت أرى أن المقاومة تستند إلى المخزون الحضاري في لا وعي الإنسان العربي، وأن إبداع الانتفاضة يكمن في أنها تعود إلى التراث (حكمة الأجداد)، واكتشفت أن الحجر ذاته سلاح لا يستورد من الخارج، ولا ينفد فهو يمكن تدويره.. تقاتل به ثم تلتقطه مرة أخرى، وإن هدموا منزلك فهو يتحول إلى حجارة تقاوم بها، وكما قال لي أحد الجرحى الفلسطينيين إن الحجر في كل مكان في وجداننا.
@ ماذا كان شعورك بعد أن شاهدت توقعاتـك السياسية تتحقق بإنطلاق انتفاضة الحجارة؟ ورد فعل من حولك؟
ـ في البداية أود أن أقول إنني تعرضت لانتقادات كثيرة عندما أعلنت عن وجهة نظري عن الانتفاضة، واتهمني الكثيرون بالرومانسية الحالمة.. وأذكر أنني قبل الانتفاضة بعدة أسابيع كنت في عمان ألقي محاضرة في مؤسسة "شومان" واقترحت استخدام الحجر كوسيلة للكفاح ضد العدو، وقد قام أحد الحاضرين واتهمني بالرومانسية، بل وأشار من طرف خفي إلى أنني قد أكون عميلا صهيونيا.. فقد كان يرى أن مثل هذه الدعوة للكفاح بالحجارة ضد عدو يمتلك السلاح الذري هي من قبيل العبث والزج بالجماهير في معركة خاسرة، وأنه من الضروري الانتظار إلى حين امتلاك سلاح ذري عربي.. المهم بعد ثلاثة أشهر كنت في عمان ـ أيضا ـ ألقي محاضرة بعد أن أصبحت الانتفاضة ملء الأرض والسماء وبدأت تعيد الثقة إلى نفوسنا، وشاهدت "صاحبنا" بين الحضور.. وجهت له وللجمهور الحديث وأخبرته بأنني لم أكن رومانسيا بل كنت "حالما واقعيا" و عنفت صاحبنا لواقعيته الانهزامية. ولم يستطع الرد، فالتاريخ الحي كان يقف في صفي وضد منطقه العلمي الإنهزامي.
@ هل تعودت على مثل هذه التوقعات السياسية، وهل توجد أحداث أخرى توقعت بها قبل وقوعها؟
ـ تعودت أن أرى الواقع وأرى الإمكانية وأرصد كليهما ثم أصدر حكما في ضوء ما هو ظاهر وباطن، وهذا ما يجب أن يفعله المفكر الذي يحاول أن يرى المستقبل، ويوجد الكثير من الحوادث المشابهة.. فقد كنت ألقي محاضرة لبعض القيادات المصرية قبل حرب (أكتوبر 1973) وطرحت عليهم فكرة أن الإسرائيليين يتعمدون إخافتنا ببناء "خط بارليف"، وأن هناك من الدلائل ما يشير إلى خوفهم العميق منا، وكنت ألاحظ ـ على سبيل المثال ـ أنه حينما ينشب حريق ما بداخل إسرائيل فإنهم عادة ما ينشرون الخبر في الصفحة الأولى ويسارعون إلى التأكيد بأنه حريق ليس متعمداً، كما لاحظت ذات مرة أن فلسطينيا وضع قنبلة في سينما في "حيفا" ولم تنفجر ومع هذا اجتمعت الوزارة الإسرائيلية لمناقشة الحدث الذي لم يحدث.. كل هذا اقنعني بمخاوف الإسرائيليين الشديدة ورغبتهم في إخافتنا ربما لإخفاء مخاوفهم، وهذه المخاوف كانت تقف شاهدا على أن التدعيمات العسكرية التي يتباهون بها ربما لا تكون بمثل هذه القوة التي يدعونها، ويحرصون على الإعلان عنها، وهذه المحاضرة القيتها في (ابريل 1973) أي قبل العبور بشهور، واقترحت على القيادة المصرية أن تعبر قواتنا إلى الضفة الأخرى من القناة، وهناك بعد العبور سنكشف العدو بإمكاناته الفعلية ونعيد تشكيل خططنا بناء على ذلك، وثارت بعض القيادات ضدي واتهموني بالعمالة لإسرائيل، وبمحاولة زج القوات المصرية في حرب لا قِبل لهم بها (ربما لإخفاء نية الاستعداد للحرب). وهناك حادثة أخرى أسوأ من سابقتيها، حينما قام الانقلاب ضد غورباتشوف عام 1993 أجرت معي مجلة "الإذاعة" المصرية حوارا عن توقعاتي بخصوص الانقلاب وأخبرتهم بأن الإنسان السوفييتي قد فرغ من الداخل وقوضته الاستهلاكية تماما، ومن ثم ليس عنده القدرة على القيام بأي انقلابات أو فرض أي تحولات، وما يهم في هذه الأمور ليس عدد الدبابات وإنما من يقودها، والجنود السوفييت لا يختلفون كثيرا عن الإنسان السوفييتي، لذا تنبأت بأن ينتهي الانقلاب بالفشل وبسرعة. أجرى الحوار معي في اوائل الأسبوع.. ومع نهايته كان الانقلاب قد فشل بالفعل، وانتظرت يوم (السبت) ـ موعد صدور المجلة ـ لأرى الحوار منشورا وفيه ما قلته وقد تحقق (ربما مع تنويه بذلك) لكن فوجئت بأن الحوار لم ينشر وحين اتصلت بالمجلة مستفسرا قيل لى إن رئيس التحرير وجد أن الحوار أصبح غير ذي موضوع بعد فشل الانقلاب، ويبدو أن رئيس التحرير لم يسمع من قبل عن السبق الصحفي أو عن المنطق الداخلي للتحليل.