التفكير الحر، او غير المقيد، يشبه نهرا متدفقا من التصورات والمعلومات المتداخلة التي لا ضوابط عليها لتحكمها في مسار محدد لغرض محدد، وهو يشكل عائقا كبيرا في وجه التخطيط لانه يرهق الذهن بكثرة المعلومات التي لا لزوم لها. من هنا نشأ ما يسمى بالتفكير الاستراتيجي، الذي هو مسار فكري محدد له خط سير خاص به يريح العقل من عناء تنقية الافكار المتشابكة من الشوائب والتصورات التي لا يحتاجها الذهن اثناء تفكيره في موضوع معين له اهداف محددة. فالتفكير الاستراتيجي هو (قناة) فكرية تبث وتستقبل صورا وافكارا تتناسب مع الهدف المنشود، ولا تلتقط الصور والافكار المرسلة من اقنية فكرية اخرى ترهق الذهن وتشوشه وتعيق سرعته وفعاليته ـ الا ما كان منها متعلقا بالموضوع.
ويجدر بنا ان ندرك العلاقة الحتمية بين التخطيط والتفكير الاستراتيجي لكي نستطيع الحصول على نتائج مجزية من عمليات التخطيط التي نقوم بها سواء في عالم المال او الاعمال ـ او حتى على الصعيد الشخصي. فان من يخطط لانشاء مسجد مثلا، يأخذ بعين الاعتبار موقعه، وقربه او بعده من التجمعات السكنية والتجارية، واتجاه القبلة فيه ومدى استيعابه وامكانية توسعته، الخ.. وهذا احد اشكال التخطيط الاستراتيجي، حيث يسير التخطيط جنبا الى جنب مع استراتيجية معينة تجعل القائمين بالتخطيط يلتزمون بالعمل في مسار فكري محدد بحيث تتضح كافة العوائق والمعضلات المتعلقة بالمشروع، ولكي يحقق المشروع افضل النتائج المرجوة كما يخطط لها المخططون الاستراتيجيون.
والاستراتيجية في التفكير صفة ايجابية ضرورية لقادة هذا العصر حيث قدرة الناس على الوصول الى المعلومات في تزايد مستمر، وحيث الوقت اصبح اغلى من الذهب، فالعامل الزمني عنصر اساسي في النجاح وفي مواجهة التحديات والتنافس الشرس في عالم الاعمال. فالاستراتيجية في التفكير توفر الوقت لانها تضع الذهن في المسار الصحيح من بداية الطريق: اعرف ما تريد، وحدد مسار تفكيرك فيما يحقق لك ما تريد، ثم خطط من هذا الموقع للوصول الى اهدافك تكن ذا تفكير وتخطيط استراتيجيين.
البحث عن الحقائق
ان اول خطوة في التخطيط الاستراتيجي من الناحية التقليدية هي القيام بتشخيص واع للظروف المحيطة من اجل تقييم الوضع الحالي تقييما صحيحا. وبسبب اهمية هذه الخطوة، فان علينا ان نحاول الاقتراب من الحقيقة قدر المستطاع ثم تحليل كافة العوامل المتصلة بالحالة قيد البحث، سواء منها العوامل الحاضرة او المتوقعة مستقبلا. واننا نستطيع عن طريق تحسين نوعية تفكيرنا، احداث زيادة مهمة في امكانية صنع المستقبل بالشكل الذي نرغبه. ولكننا لا نستطيع ذلك دون رؤية واضحة لما يحيط بنا من معطيات تؤثر سلبا او ايجابا في تشكيل القاعدة الاساسية التي سوف يبنى عليها القرار.
المجازفة والصورة العقلية
حين نرسم هدفا او تصورا، فان العقل الباطن فينا يستطيع تمييز اشارات الخطر والتحذيرات، كما يستطيع استشراف العوائق المتوقعة والموانع التي تقف في طريق ذلك الهدف او هذا التصور فنحن فعلا بحاجة الى رؤية هذه الاشارات التحذيرية المبكرة، وليس الى رؤية السقوط او التحكم. ان اي شخص يستطيع تمييز التحكم، ولكن القادة العظماء يرون نذر الخطر المبكرة فيتجنبوا السقوط.
وهناك بند آخر في ذات المستوى من الاهمية من حيث تأثيره في التصور المستقبلي كما ونوعا، وهو احترام الذات ومدى توفره في نفوس افراد المؤسسة. فالثقة بالنفس او الاحساس الصادق من قبل الفرد بقوته الذاتية وقدرته على جعل الاشياء تحدث، سوف يكون لها تأثير مباشر في ما سوف نختاره من الغايات في المستقبل. ان هبوط الهمة او عدم الثقة بالنفس تقيد صاحبها بالمهام الصغيرة والاهداف المتواضعة، بحيث يهيمن على خط سير حياته أمران: قبول بالمستقبل المتواضع البسيط الذي يخلو من المجازفة ويخلو من المشاكل ورؤية او تصور باهت مستهلك لا روح فيه، ان علو الهمة والاعتزاز بالنفس يجلبان معهما بشكل طبيعي البحث عن المهام والتحديات والمعضلات والاهداف التي تستحق جهد الفرد ووقته. كما ان الاهداف الكبيرة والتحديات العظيمة والمعضلات المستعصية، تخلق الاثارة والشعور بالرضا عن النفس، وتنشط روح المغامرة التي تجعل الحياة جديرة بان نحياها.
وليست المؤسسات التي تتصف بدرجة عالية من تقدير الذات او الافراد الذين يتمتعون باحترام كبير لانفسهم بأشجع من غيرهم بالضرورة وانما هم فقط لايرون في التحديات المطروحة، ذات الدرجة من المخاطرة كما يراها ضعيفو الثقة بالنفس من الافراد والمؤسسات. فهم يعلمون ان باستطاعتهم معالجتها. لذلك كان من الضروري جدا بل ومن الامور الاساسية بشكل قاطع تغذية وصقل احترام الذات في اي مؤسسة بدوائرها وأفرادها على حد سواء.
صنع البيئة الملائمة للنمو
لا يعدم القادة في مختلف المجتمعات وجود اتباع لديهم الرغبة بالعمل، متحمسين مسارعين لتنفيذ ما يطلب منهم. على ان الدلائل تشير الى ان المؤسسات الرائدة في المستقبل ستختط نهجا قياديا فيه يكون القائد خادما لمؤسسة اعضاؤها قادة يتصفون بالحماس والرغبة في العمل. ونحن اذ نحاول مواكبة الايقاع العصري السريع في عالم الاعمال والتقدم التقني، يجدر بنا ان نحذر من السقوط في احبولة التغيير الاعمى، او نبذ كل ماهو تقليدي او قديم لمجرد انه كذلك دون الاستفادة من النواحي الايجابية التي قد تكون موجودة فيه، بل ينبغي ان نعي ان هناك امكانية للتغيير مع الاحتفاظ بالاساليب والوسائل التي اثبتت نجاحها عبر الزمن، كما اننا لا نرى لماذا لا يكون الفكر التقليدي مصدرا غنيا للكثير من الافكار البناءة والاساليب الناجعة التي لو وظفناها جنبا الى جنب مع الافكار الجديدة فانها قد تزيد احتمالات النجاح.