حداثة الشخصية الروائية "3 ـ 3"
ومن هنا يبدو أغلب تلك المقاربات شكليا, لا تتعدى فيها بنائية الشخصية, الوعاء الأجوف الذي يظل باستمرار في حالة عوز الى إسعافات المؤلف, لتضميده بالمساند المصطنعة, واسباغ النعوت المجانية, حسب تودروف. فابتكار شخصية فاعلة وعميقة كمكون رئيسي في العمل الروائي, أمر لا تخدمه النيات, بل هو بحاجة الى أن يستمد بعض حاثاته من خارجه, الي من تناميات اجتماعية وثقافية وتاريخية وفنية وليس مقاصد الروائي وحسب, أي من حداثه الحياة, لأن انفصال الشخصية الروائية عن تلك المعطيات أو عدم تمثل سمات التحول, وادراك حقيقة وواقع واهمية التبدلات, انما يعني انتفاء فاعلية وصيرورة الحداثة أو ربما عطالة الروائي, بمعنى عدم ادراكه او جديته في مماثلة نصه وشخوصه بحداثة الحياة.
ثمة مقاصد جادة بالتأكيد لتحقيق ذاك التمثل الحداثي, والانقلاب المبيت على كل ما هو كلاسيكي سواء في الروح أو المظهر. فالمتأمل لتاريخ الرواية المحلية في مفصل طفرتها وحداثتها, لابد أن يلحظ الحول الذي طرأ على فهم الطبيعة الفنية للشخصية, والمساحة التي تتبدل ضمنها باستمرار داخل الرواية, فهي على صلة وثيقة بمعطيات الواقع الاجتماعي, وبالتالي فإنها تعكس مراوحات الإنسان في تلك المحطات الزمكانية, ورغبته في تمثل وجوده وهذا لا يعني بالتأكيد تأطير اللحظة, او الرواية المحلية بسلسلة من التمردات أو المردودات فلم تصل بعد تلك الاجتهادات الى تشكيل شخصية على درجة من الامانة والالتصاق بواقع الحياة كشخصية بازاروف مثلا, المثقف العدمي الذي هز روسيا الريفية كما رسمها تورغنيف في رواية (الاباء وبنون) معتمدا اظهاره جلفا ومتحجر القلب وجافا بلا رأفه, حسب تورغنيف نفسه, ربما لأن حراك الواقع, والروائي المحلي بالتأكيد, بما هو عنوان للتغيير أو للسمة الوظائفية لم يتصعد بما يكفي لاستنبات شخصية تماهي ذلك المنسوب التصادمي مع منظومة الثوابت.
عليه يمكن القول أن هناك حلقة ما مفقودة على ارض الواقع, تمنع تنصيص ما يجري, وعليه لا تستطيع الرواية المحلية تجسيد شخصية مقنعة دون النهل من حسية التجربة, ولكن يبدو أن هنالك ما يهابه الروائي, على ارض الواقع وليس بمقدوره التماس معه, فشخصية بازاروف, وطاقة التدفق الفني والفكري في ارتساماتها يوجد ما يقابلها في المعاش وليس في المخيال وحسب, حيث يكمن السر الذي حفظ للرواية ولبازاروف خصوصا جاذبية استثنائية وخلودا فنيا, وهو المرقى الذي تتطلع اليه الرواية المحلية, لكنها لا تطاله نتيجة الوعي القاصر ايضا بوظيفة الشخصية في العمل الفني, ونتيجة الوهم الكبير الذي يعتبر بموجبه الكثير من الروائيين, أن الرواية مجرد مضمار لاستعراض تورمات الذات, والترويج لتاريخها او مكانها الشخصي.
ذلك التأسيس الافتراضي على استيهامات الروائي, هو نتاج كتابة روائية غير مستمدة من حرقة التجربة وحسيتها وهو ما يؤدي الى انتاج شخصية لا تعبأ كثيرا بمعنى(الآخر) مثلا بكل تمثلاته واطيافه الاجتماعية والعرقية والثقافية, كما في رواية (تضاريس الوجع) لابراهيم التركي, حيث المفارقة الكبيرة بين شخصية جاكلين المرسومة من منطلقات افتراضية ومتوهمة كما يبدو مقابل شخصية الاب المصممة باشارية لافتة وبمتانة تعزز منطلقات الكتابة من هذا المكمن الحيوي, بما يعني ان الروائي يكون ضحية الاستيهامات الذاتية والتنميطات الجمعية, او ربما الخوف من إنطاق شخصياته وتفصيحهم كما ينبغي, وهو ما يؤدي الى أن تكون الشخصية مجرد اثر للمقروء المعاد انتاجه وهو ما يسفر بشكل فاضح رهاب الروائيين من مقاربة شخصية المتطرف دينيا مثلا, يما يعني غياب النص الروائي عن لحظة الاستحقاق.
البطل الإشكالي اذا, حسب التصور اللوكاتشي للشخصية , عنصرا يصعب استيلاده بقسرية داخل الرواية دون مرجعيته في الواقع, فمثل هذه الشخصية تنهض بمهمات البحث عن قيم على رجة من الأصالة والنبل, في عالم يزداد انحطاطا ويتلازم حضورها وغيابها فنيا بمسببات وجودها الواقعي المنعكس على أهميتها وفاعليتها داخل النص الروائي, ويحدث هذا الارتباك التعبيري نتيجة لكل تلك الرهابات وزهد الرواية القصدي في استحضار هامش عريض من الصراعات المسكوت عنها, رغم توافر الصيغة الشكلانية لتلك الاصطراعات في كثير من الروايات, فليلة الجهني ومحمد علوان مثلا قدما شخصيات على حافة الحب, او اضاليله التي توهم بإمكانية استمراريته, وهو أمر يتضخم داخل الفعل الروائي, بتصور فوستر, بما هو ركن من اركان الشخصية المبتكرة روائيا, بشكل لا مثيل له في الحياة الى أن يتحول الى عادة اجتماعية كما هو حال ومال شخصيات (الفردوس اليباب) و (سقف الكفاية).
وهكذا تستمر الرواية المحلية محاولاتها لتجسيد شخصية روائية متكاملة, تتبلور حول دافع واضح يستغرق حياتها ويحدد سلوكها حتى النهاية, بما يجعلها كنموذج بشري, تعلق في الذاكرة الاجتماعية بمغايرتها وجرأتها على الاختلاف، وهذا يعود إلى أن الشخصية الإشكالية الفاعلة تحتل موقعا جدليا في وعي الروائي أصلا، وإن لم يكن متقدما، فالمهم بالنسبة لروائيينا كما يبدو، هو ما تمثله هذه الشخصية في العالم، التي هي انعكاس أولي لتضخم الذات وغيابها عكس ما يقترحه باختين الذي يتأمل أن يأخذ الكاتب في الاعتبار أهمية العالم بالنسبة للشخصية، أي وعي الشخصية لمحيطها وعلاقاتها، وهو أمر يثير يبقي على التساؤل عما إذا كان للشخصية الاشكالية المتمردة وجود واقعي بيننا، وبالتالي يفترض أن تنعكس بأمانة في خطابنا الروائي، على اعتبار أن الشخصية اختراع نفسي / اجتماعي تتأمله (أنا) شديدة الوعي بواقعها، بل وتتعزز به في عبورها للمعوقات والاحباطات.
من هذا المنظور يمكن التمثيل بشخصية (توفيق) في رواية (فخاخ الرائحة) ليوسف المحيميد الذي اقترب من أفق التعددية فاستعار تلك الشخصية من حيز (الآخر) ولكن بوعي ودراية، والأهم شخصية (طراد) التي بلغت في الرواية حدا مقنعاً من الاستواء والتحدي الموجب للبقاء في ذاكرة المتلقي، حيث استهلكت حياتها وتمثلها الفني داخل الرواية لمواجهة حالة قصوى من القهر الاجتماعي فظلت ترفض على مدار الرواية أن تتحول إلى مجرد صورة اجتماعية مستهلكة، تفتتها قساوة المجتمع حتى وإن انتهت مقموعة ومدمرة، لأنها باختصار لم تمتلك مقومات الحياة المختلفة في الواقع، بقدر ما امتلكت الاستعداد للمغايرة، فكانت صوتا منفرداً تنتهي الرواية إلى حد ما ينسدل الستار على جانب من صراع الحياة، بإخراسه، فقد صمم المحيميد شخصية (طراد) باستقصاء صبور لسيكولوجية الأعماق، واستغوار فطن لحالات الوعي، كما تؤكد عليه ناتلي ساروت، وإن لم تسلم تلك الشخصي أحيانا من المصادفات والإنماء المفتعل، أو التصفيح حيث جاهزية الدلالة للاسم المقترن بالمطاردة.
وفي الوقت الذي يتشاغل فيه الخطاب الروائي بهذا السؤال الهام، يبدو أن هنالك من يحاول محليا تجاوزه بالنظر إلى متغيرات الواقع وحداثته التي أملت تصورات فنية مغايرة للشخصية والرواية في آن، فحتى وإن وجدت مثل هذه الشخصية فلا ينبغي الاستسلام لسطوتها أو تركها لتتسيد الخطاب الروائي، فتلك المحطة الشخصانية تجوزت في الرواية العالمية لأسباب موضوعية ولمبررات فنية أيضا، فيما يبدو عودة محدثة إلى التصور الارسطي الذي كان يعتبر الشخصية ثانوية بالقياس إلى باقي عناصر العمل التخييلي، أي خاضعة خضوعاً تاما لمفهوم الحدث، فهي مجرد اسم للقائم بالحدث، وإن لم يتم الاستغناء عن الشخصية.
هذا ما ينادي به الشكلاني توماشفسكي مثلا، إذ لا يرى ضرورة لوجود البطل في الحكاية، بقدر الحاجة إلى شخصيات متعادلة في حضورها بالنظر إلى أن الحكاية نظام من الوظائف تستطيع بصفة كاملة أن تتخلى عن البطل وملامحه المميزة، وقد تم بالفعل طمس معالم الشخصية روائيا بتجريدها من أبعادها الفيزيولوجية وتاريخها بصفة عامة إلى حد أنها أصبحت لدى البعض مجرد ضمير متكلم، ولدرجة استخدام الضمائر بمنسوب مكثف للدلالة أو الإحالة إلى الشخصيات، وبحيث تكون الشخصية، برأي ناتالي ساروت أيضا، مجرد حامل بلا اسم لا يرى إلا قليلا، وبالتالي فهو مجرد ارتكاز للصدفة.
وقد خضع مفهوم تذويب الشخصية لبعض التجريب العربي من منطلق التعددية والتنوع كمماهاة لما يحدث على أرض الواقع، ففي ملاحظاته حول الرواية العربية والحداثة، جادل عبد الرحمن منيف ذلك المنحى التعددي والتنوع للشخصية، ومارس الأشتغال عليها مثلا في (روايته) الآن هنا ـ أو شرق المتوسط مرة أخرى، فقد آن لبطل الرواية الفرد أن يتنازل عن بعض سطوته، وبرأيه فإن هذا الذي يملأ الساحة كلها وما الآخرون إلا ديكور لإبرازه وإظهار بطولاته، إن هو إلا بطل وهمي سيطر على الرواية العالمية فترة طويلة، وقد آن له أن يتنحى وألا يشتغل إلا ما يستحقه من مكان وزمان.
عند هذا المفصل يمكن القول أن الشخصية المهيمنة، أو البطولة الفردية لم تعد مناسب لغة العصر التحاورية، نظراً لانبثاق قوى اجتماعية وثقافية مؤسسة على بنى تعددية عريضة قابلة للنماء، انطلاقا مما بات يعرف بالحدث الديمقراطي، أو عصر الجماهير، فنظريات ما بعد الحداثة تحديداً، تضع الاعتراف بالتباين والاختلاف والتنوع والتعدد شرطا لتحديد معنى الثقافة ، ولذلك يقترح منيف الرواية التي يتعاقب فيها الناس ـ الأبطال كمياه النهر الجاري، بحيث لا يتوقف الواحد منهم أكثر مما يحتمله المشهد أو الحالة فاسحا المجال، بعد ذلك، لكي يأتي الآخر البديل، المكمل، ويواصل المشوار الحياة وهو الأمر الذي يعطي للسياق الروائي حيوية ومهابة تلغي أحادية وغلواء البطولة الفردية.
هذا ما حاوله عواض العصيمي في روايته الأولى "أو على مرمى حجر.. في الخلف" وواصل دأبه في روايته الثانية "أكثر من صورة وعود كبريت" بزعزعة مفهوم الشخصية والحبكة، كما يقترحها بيير شارتيه، وذلك من خلال إصراره على منتجة سرده وفق خاصية "الدروب" المتعرجة كما يتقنها ويروج لها كونديرا، وليس بإسترسالية الطريق، أي برواية مركبة مفهوميا وأقرب إلى تصور روب غرييه، فروايته تأخذ كل عادات الحداثة التعبيرية إلى الصحراء، ولكنها لا تهدف إلى تخليق شخصيات، ولا تروي حكايات وأن بدت في ملمحها العام كذلك، بل تتملص من أقمطة الحبكة، وتتحرر من الضغوط الشكلية للحوار التقليدي، فيما تستبطن بعض الحكي، فلا شعور الرواية يومئ إلى شيء من هذا، وأن في مستوى الانزياح عن المعطى الكلاسيكي لمفهوم الحبكة والشخصية، لولا أن رؤى العصيمي يتمركز في النهاية في شخص "ميثاء" و"حافل" حيث تبدو شخصيات سكونية أو استقطابية بمعنى أدق، لا تحمل مفاجآت صادمة للمتلقي إلا في تشكيلها البنائي، وكأنها نتاج ذهنية روائية تخشى أن تدفع بمغامرة التجريب إلى نهايتها، أو لا تطيقها عند اختبارها على محك الواقع. ذلك بالتحديد هو ما أربك الوظائف الدرامية لشخصيات عواض العصيمي كما حددها سوريو، فيما سماه القوة التيماطيقية، التي تعطي للحدث انطلاقته، تماما كما حدث في "الغيمة الرصاصية" لعلي الدميني حيث تقصده الصريح والدائم لتفتيت الحبكة، وفرط الشخصية المحورية، أو تبديدها في الضمائر ليس على مستوى ضمير المتكلم، ولكن بأنوية هي أقرب إلى "الأنا الغفل" أو الكائن كلي القوة والدراية، كما يحلل بيير شارتيه، فالأنا هنا تستقطب كل عناصر السرد حتى تطفو الشخصية فوق النص ولا تنساب داخل سياقاتها، وهو ذات المنحى الذي اتخذه عبده خال في "الطين" لتأكيد هذا البعد، أي تحلل الشخصية وتفككها الدرامي على الطريقة الدستوفسكية، من خلال شخصية مشوهة أو معتلة، كشخصية صالح التركي مثلاً بطل "الطين" مع اختلاف المنطلقات والرؤى السردية. ويبدو أن رجاء عالم تقترب بشكل مغاير من ذلك البناء لشخصياتها، فهي لا تدون الفعل اليومي للتفكير والكلام لتسرد حكاية، إنما تجنح للغرابئي بقصدية ووعي وعليه تتشكل شخصياتها ضمن ذلك الحاضن السحري، كما في "خاتم" مثلاً حيث الكائن المفصوم بين جنوستين والمجسد في شخصية تتجادلها النسوية تحت عنوان عرض هو "ثنائية الكينونة". وكذلك "حبي" كشخصية تعبر جملة من الأحداث الخيالية المتمادية في غرابتها، إلا أن الموضوع يفرض نفسه، فموضوع البحث، أي المغامرة الصوفية التي تسير فيها الشخصية بحثاً عن معنى خفي لحياتها، وتلد الإنطباع عن مصير موسوم واللقية واللغز الصوفي الذي يجب الكشف عنه أو بالأحرى غزو معناه وكشفه، فثمة حلم مخبوء في الحياة يتقصى بواسطة حلم امرأة يمثل المعنى الغامض للمصير الفردي والبطل الإنسان الذي يمر باختبارات رمزية بحسب التقليد الذي ابتدعته الرواية عبر شخصية فارطة في الترمز، وقائمة على آلية كتابة حداثية قوامها المحو والانكتاب، أي طمس التاريخ العام وتدوين الشخصي، بمعنى دس الذات بانتقائية في مجرى التاريخ., ومن منطلقات مغايرة بعض الشيء حاول محمود تراوري تجسيد بعض ذلك الوعي الحداثي للشخصية بمزيج من العناصر المتباينة زمانياً ومكانياً ليرسم بموجبها بعض ملامح الشخصية المؤمكنة، وذلك في روايته "ميمونة" حيث حضر عمر المسك، وقدس، وخالة منه قرمبع، وزكريا، لكن الرواية أخذت في الانزياح- العاطفي ربما- إلى "ميمونة" بما هي قيمة مهيمنة، حيث تخلص تراوري من بعض التخييل القديم للشخصية الروائية، بتغييب الأثر المركزي للشخصية، وتبهيت خالصية "الأنا" وإضفاء الطابع الطيفي الذي يضع الشخصية "ميمونة" في علاقة مع العالم الخارجي، بما يؤكد طريقة بيكيت التي تطالب الشخصية بالتهام ذاتها، حتى صار تراوري ذاته في مكان ما من الشخصية والرواية وتكلمت "أناه" بروح منفتحة تأخذ من روح الماضي ما يرفد حداثة وشخصية الراهن. هكذا بدت العلاقة بين شخوص الرواية في حالة من التعاقب والانقطاع في آن بحيث تتحدث كل شخصية إلى ذاتها، ربما نتيجة انفقاد العمق النفسي لبعض الشخصيات، وتفريغها من إبعادها الداخلية انشغالا بالشخصية المحورية، وربما نتيجة إكتفاء تراوري بتجسيد مظاهرها البرانية، أو ملامح وعيها الأفقي بالحياة، وكأن ميمونة هي المعادل اللساني والنفسي والموضوعي لتراوري، فكما أن مدام بوفاري هي فلوبير نفسه، بتصور خوسيه ساراماغو، وإلا علاج امدام بوفاري بدون فلوبير، لسبب بسيط هو أن مدام بوفاري بدونه لا وجود لها، كذلك "ميمونة" بالنسبة لتراوري، فلا وجود لها بدونه، فالروائي تراوري في نهاية المطاف إنما يروي حكايته الشخصية ولو من خلف قناع، أو بحداثة تقوم على تذويت الوجود كما تفترض النزعات الحداثية.