شكلت الطاقة في القرن الماضي أهم الاحداث والصراعات على الكرة الارضية.. وستبقى في هذه الألفية محورا للصراعات والأحداث.. والحديث عن النفط وموضوع استراتيجية التعامل مع مشكلة اقتصادية في حجم النفط يجب أن يتواكب مع طبيعة العصر وصراعاته.
وفي مستهل الألفية الثالثة وكامتداد لقرن الأحداث الجسام الماضي برزت أزمة الطاقة بقوة على حافة جميع الصراعات الدولية في مناطق عديدة من العالم بدءا من استعمال امريكا (للقوة المعراة) بغزوها أفغانستان واحتلاله بالقوة الذي يشرف بموقعه الاستراتيجي على نفط بحر قزوين الذي يصل احتياطيه الى حوالي (50 بليون برميل).
وتحت غطاء الارهاب وأسلحة الدمار الشامل (التي اختفت) نقلت امريكا ومعها بريطانيا صراعهما الى العراق لتحتله تحت أعين الامم المتحدة التي قال عنها السيد بوش انها (دفنت).
احتل العراق باستراتيجيته الهامة وباحتياطيه (112.5) مليار برميل فأدخلت امريكا نفسها والعرب والمجتمع الدولي برمته في دوامة جديدة في العلاقات الدولية يصعب الخروج منها الا كما خرجت امريكا من فيتنام!!
إذا ازمة الطاقة التي تصدرت احداث وصراعات القرن المنصرم (قرن النفط) ها هي اليوم تتصدر احداث وصراعات الألفية الثالثة، لكن بثوب جديد.. انه الاحتلال (بالقوة) واصبح النفط يتحكم في الاحداث ويسخرها.. ينطبق على ذلك قول تشرشل (من يملك بترول الشرق الاوسط يستطيع ان يحكم العالم). ومن يحلل باستراتيجية نفطية ما تجسد في الألفية الثالثة على ارض الواقع من غزو لأفغانستان واطلاله على بحر قزوين الغني بالنفط واحتلال حقيقي للعراق تحت نهر من دماء الامريكيين والبريطانيين والعراقيين طمعا في الثروة النفطية العراقية الهائلة يدرك هذا الذهب الأسود الذي (نحرت) الديمقراطية من اجله واصبحت كذبة (العصر). أذا من يملك بين يديه ناصية النفط سيتحكم في ادارة صراع سوق النفط الدولية بل ومسرح الاقتصاد الدولي رغم انخفاض نصيب النفط في التجارة الدولية الى 8% اليوم بعد ان كان 18% عام 1980.. لكن يبقى هذا النفط الذي تصارع عليه الكبار بالأمس، يشنون الحروب غير العادلة من أجله اليوم وسيستمر الصراع للقناعة نفسها.. ووضعت الديمقراطية تحت (الحذاء) من اجله!!
ويؤكد تقرير وكالة الطاقة الدولية الصادر في 12 مايو 2004 ان استهلاك العالم من النفط لهذا العام يبلغ متوسطه 80.6 مليون ب/ي وان انتاج الاعضاء العشرة في الاوبك 25.4 مليون ب/ي وباضافة انتاج العراق يصبح 28.21 مليون ب/ي. وسيبقى النفط سيد الثروات بمحيطه الشاسع في خليجنا العربي خاصة مع تعاظم استهلاكه عاما بعد آخر والذي تقدر وكالة الطاقة الدولية ارتفاعه الى حوالي 115 مليون ب/ي عام 2020 وتذهب وزارة الطاقة الامريكية الى تقدير مقارب له لنفس الفترة.. اما الاوبك فتقدر مابين 99 ـ 103 مليونب/ي لنفس الفترة.
وقوة ونفوذ هذه السلعة السحرية التي تتجسد في مساحة جغرافية محدودة في العالم الذي يزيد عدد سكانه على 6.5 بليون نسمة.. هذه المنطقة هي (الخليج العربي) صاحب المحيط الاحتياطي الشاسع المؤكد البالغ 671 مليار برميل وصاحب اكبر انتاج وتصدير في العالم اليوم.. الذي قد نطلق عليه انه عالم نفط بنفط.
كانت هذه المحاور الرئيسية وغيرها موضوعا للقاء تليفزيوني خاص دعاني له رئيس محطة المستقلة الاعلامي العربي المتميز دكتور محمد الهاشمي واعد وقدم اللقاء الذي بثته المستقلة عن ازمة الطاقة العالمية بتاريخ 19 اغسطس 2004 الاعلامي النشط عادل الحامدي الذي من محاور أسئلته العديدة الى اين ستذهب اسعار النفط التي كانت وقتها تلامس الخمسين دولارا.
ونوهت إلى انه يصعب تقرير الى اين تتجه اسعار النفط!! ولا يصعب التنبؤ بهزات نفطية قادمة!! مع احتلال امريكا وبريطانيا للعراق.
وشهر اغسطس كان نقطة الارتكاز في ازمة اسعار النفط ففي خلال ذلك الشهر بدأت الاسعار تزحف بسرعة الى اعلى حتى كسرت حاجز الخمسين دولارا في اواخر الشهر لتعود الى النزول النسبي ليبلغ سعر (برنت) حوالي 42 دولارا، والخام الامريكي حوالي 45 دولارا في اواسط سبتمبر رغم قرار وزراء الاوبك في اجتماعهم الوزاري في فيينا بتاريخ 15 سبتمبر رفع الانتاج الى 27 مليون ب/ي اعتبارا من اول نوفمبر المقبل.. واعلان وزير النفط السعودي المهندس علي النعيمي في كلمته بتاريخ 16 سبتمبر امام منتدى أوبك الدولي في فيينا ان المملكة تدرس زيادة الانتاج لحفظ التوازن في السوق البترولية الدولية.
ومع نهاية شهر سبتمبر ورغم اعلان المملكة امكانية رفع انتاجها الى 11 مليون ب/ي. إلا أن الاسعار تخطت الخمسين دولارا للبرميل وتحقق ما ذكرناه في لقاء محطة المستقلة بأن الأسعار يحكم ارتفاعها او انخفاضها الاحتلال الاجنبي لدولة نفطية عربية ذات احتياطي كبير.
عوامل ارتفاع الأسعار
اذن توافرت عوامل رئيسية عديدة هامة لاستمرار ارتفاع اسعار النفط من اهمها الأوضاع الجيو ـ سياسية وفي مقدمتها احتلال امريكا ومعها بريطانيا العراق، وقد وضح هذا العامل الرئيس الفنزويلي قائلا في خطاب له في دي لوس موروس يوم 7 مايو 2004: ان السياسات الاستعمارية للرئيس الامريكي بوش والحرب التي قادتها بلاده على العراق هي سبب رفع اسعار النفط.. وان المذنب الحقيقي هو بوش.
يضاف الى ذلك عوامل هامة معها عدم التوازن بين العرض والطلب خاصة من قبل دولتين كبيرتين في الاستهلاك الولايات المتحدة والصين، ثم هناك عامل التوقعات والمضاربات والاختناقات في عمليات التكرير لانتاج البنزين خاصة في الولايات المتحدة وبعض المعلومات الصحيحة والمغلوطة ومعدلات برودة الطقس، والتوترات السياسية.
ولا ننسى العامل السيكلوجي فالاسعار تتأثر بدرجة كبيرة بالحالة السيكلوجية لوسطاء النفط اضافة الى تأثرها بقوة تصريحات مسؤولي النفط خاصة في الدول الرئيسية المنتجة والمصدرة كالمملكة ويجيء تجديد الاعلان السعودي لرفع الانتاج لتعهدها بتوفير امدادات نفط مستقرة في هذا السياق لتهدئة أسواق النفط.
ومع هذا فإن منظمة الاوبك التي تقودها المملكة تدخل عصرا جديدا في حياتها وهي تريد لأسعار النفط ان تأخذ مسار النزول بعد ان تخطت حاجز الـ50 دولارا فزادت سقف انتاجها الى 27 مليون ب/ي بل ان الانتاج الفعلي لدول الاوبك يصل الى 30 مليون ب/ي، مع وجود نفط كاف في السوق، ومع هذا فإن الاوبك لا تملك عصا سحرية لخفض الاسعار وليست الوحيدة المسؤولة عن هذه السوق المضطربة ومع هذا فالطريق طويل ومحفوف بالمصاعب والصراعات والمتغيرات في ظل احتلال العراق.
إذا النفط يمثل السياسة والاقتصاد والأحداث والصراعات في العالم والشرق الاوسط رغم انخفاض نسبته في اجمالي استهلاك الطاقة من 55% عام 1980 الى 42 اليوم ونسبة الغاز 24 ـ اما الفحم فنسبته 23%. والنسبة الباقية لبدائل الطاقة المتجددة.
ولذا فإن الاسعار ستأخذ طريقها في الصعود المستمر حتى يشهد سوق النفط هدوءا في الاوضاع السياسية والسكرية..وعندها ستأخذ الاسعار طريقها الى النزول.
اعلان قمة كاراكاس
والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: هل الأوبك تستطيع كبح جماح الأسعار؟
والاجابة: ان الاوبك لا تملك عصا سحرية لكبح جماح الاسعار رغم نواياها الحسنة.
هذه النوايا الحسنة برزت في اعلان قمة (كاراكاس) في أواخر سبتمبر 2000 في القمة الثانية التي رأس وفد المملكة فيها سمو الامير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء رئيس الحرس الوطني الذي اكد في اعلانه الشهير على ما يلي:
1ـ التزام المؤتمرين اطرافا مشاركين في السوق العالمي للبترول للاستمرار في توفير امدادات بترولية كافية وآمنة للمستهلكين في أوقاتها المناسبة وبأسعار معتدلة ومستقرة.
2ـ تطوير سياسات لتسعير البترول تستهدف مستويات مجزية ومستقرة ومنافسة مع مصادر الطاقة الاخرى وحصول اوبك على حصة عادلة من امدادات البترول العالمية والمساهمة في استقرار السوق والنمو المستدام للاقتصاد العالمي.
3ـ دعم أواصر التعاون بين منظمة اوبك والدول خارج الاوبك من اجل الاستقرار في السوق.
4ـ ايجاد قنوات فاعلة للحوار بين منتجي البترول ومستهلكيه لتحقيق استقرار السوق.
5ـ مطالبة الدول المستهلكة بتبني مواقف عادلة ومواتية تجاه البترول في أسواق الطاقة تكفل عدم التمييز ضد البترول في سياسات البيئة والضرائب والطاقة والتجارة الخارجية.
6ـ ان الضرائب المفروضة على المنتجات البترولية تستحوذ على النصيب الاكبر من السعر النهائي الذي يدفعه المستهلك في الدول المستهلكة الرئيسية للبترول ومطالبة الدول المستهلكة باعادة النظر في سياساتهم لتخفيف هذا العبء الضرائبي لأجل فائدة المستهلكين.
لكن الاوبك الذي يصل انتاجها الى حوالي 30 مليون ب/ي واحتياطيها إلى حوالي 79% من الاحتياطي العالمي لا توفر إلا حوالي 36% من احتياجات العالم والباقي من الدول خارج الاوبك.
ولذا يجب على الاوبك مراقبة السوق بدقة وعدم زيادة الانتاج لان العرض سيزيد على الطلب وقد تنهار الاسعار خاصة ان السوق النفطية متضخمة بالنفط فهناك حوالي 2 مليون ب/ي وهي زيادة عن الطلب.
ارتفاع الضرائب
وقد اتضح اليوم للمستهلك الغربي ان دوله هي التي ترفع الاسعار بفرضها الضرائب والدول المنتجة لا تحصل الا على حوالي 20% من قيمة نفوطها، والضرائب هي السبب في ارتفاع الاسعار وليست الاوبك، فالدول الصناعية تفرض ضرائب باهظة على النفط حتى يصل للمستهلك النهائي.
وكلما زادت الاسعار زادت الدول الصناعية الضرائب، ففي اوروبا في الماضي كانت الضرائب بحدود 20 دولارا على البرميل الواحد. واليوم تصل الضرائب الى اكثر من 80%. وفي بريطانيا وهي منتج رئيسي ايضا تصل الى حوالي 80%. وفي اليابان حوالي 60%. وتعتبر امريكا اقل الدول في فرض الضرائب على النفط.
التحليل الاحصائي لأسعار النفط
لو أخذنا عامل التضخم وتدهور سعر صرف الدولار ما بين عام 1986 حتى اليوم لخرجنا بنتائج هامة يتضح منها انه فقد 60% ضد الين، 57% ضد الجنيه و30% اليورو. ويترتب على ذلك..
أولا: ان السعر الذي تحقق اثر الصدمة النفطية الثانية عام 1979 كان بحدود 29 دولارا واذا حسبنا ذلك السعر بالتحليل الاحصائي عندما كان الدولار امام العملات الرئيسية قويا 265 ضد الين 103 ضد الجنيه الاسترليني مثلا. ومقارنته بدولار اليوم لقلنا ان السعر في ذلك التاريخ يزيد على 80 دولارا بدولارات اليوم.
ثانيا: اذا طبقنا نفس التحليل الاحصائي على اسعار عام 1975 وهي استمرار للهزة النفطية الاولى لاتضح لنا ان السعر اليوم لا يتجاوز السعر عندما كان النفط بحدود 10 دولارات.
اذن اليوم دولارات كثيرة ولكنها بسبب التضخم تطارد أشياء قليلة.
ولذا فإن تراجع القوة الشرائية للدولار وانخفاض قيمته امام العملات الرئيسية وارتفاع معدلات التضخم يؤثر سلبا على ايرادات الدول التي تسعر نفوطها بالدولار.
الاستثمارات المطلوبة!!
وهناك سؤال آخر مهم هو: ما الاستثمارات المطلوبة للوصول الى انتاج ما يحتاجه العالم؟
ان وكالة الطاقة الدولية تؤكد انه من المهم توفير اكثر من 500 بليون دولار حتى عام 2030 كاستثمارات بمعدل سنوي 12 بليون دولار.
وعلى مستوى العالم تؤكد الوكالة ان قطاع الطاقة يحتاج الى استثمارات بحدود 16 ترليون دولار حتى عام 2030.
ولذا فإن دول الخليج العربي ولكي تطور حقولها لتحقيق المعدلات المطلوبة حوالي 30 مليون ب/ي تحتاج الى استثمارات تصل الى 300 بليون دولار في العقدين المقبلين.
أما الدول خارج الاوبك والتي ترتفع فيها تكلفة الاستكشاف والانتاج فإنها تحتاج الى حوالي 1.2 ترليون، هذا اخذا في الاعتبار ان تكلفة انتاج البرميل الواحد كمتوسط في حالة التنقيب لاستخراج النفط..
2000 دولار في دول الخليج العربي.
20000 دولار في روسيا.
30000 في بحر الشمال.
لذا من المهم للعالم الصناعي المساهمة الجادة للاستثمار في الطاقة خاصة النفط والغاز اذا اراد مواجهة الطلب.
وهذا اهم من الاستثمار في الاوراق المالية حتى بلغت الاسعار نسبا خيالية تهدد بالانهيار، كما انه اهم من الاستثمار في الاعلام الذي حول العالم الى غابة من التعقيدات والصراعات وينطبق ذلك على تكنلوجيا الاتصالات.
وهذه الميادين التكنلوجية واسواق الأوراق المالية والاعلام حظيت بنصيب الأسد من الاستثمارات خلال الاستثمار في الطاقة وبدائلها وأصبح العالم اليوم يشم رائحة أزمتها.
ورغم ان الاوبك ترجمت رغبتها في خفض اسعار النفط بتطبيق المعادلة التي تستعملها المنظمة كسلاح وهي رفع الانتاج اذا ارادت تخفيض السعر وبالفعل اختارت الاوبك هذا الخيار الذي يميل اليه الحمائم في الاوبك ولا يحبذه الصقور الذين يعارضون زيادة الانتاج بسبب العائدات من ارتفاع الاسعار.
لكن لابد من التنويه الى ان دخول امريكا ومعها بريطانيا حلبة الصراع النفطي باحتلالهما العراق والتدخل في مصيره السياسي والنفطي، يبقى العامل الاهم في عدم استقرار سوق النفط الدولية.
ومع استمرار هذه الثروة (النفط) كمصدر اساسي للطاقة في العالم.. التي يزيد استهلاكها عاما بعد آخر وكسر الاستهلاك العالمي من النفط حاجز (80) مليون ب/ي ومع هذا يصعب تقرير الى اين تتجه أسعار النفط.
عضو مجلس الشورى ـ رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية