بعد أن طل شفق الصباح بحمرته، وأشرقت شمس النهار معلنة بداية يوم جديد.. وقف أبو محمد على عتبة باب المسجد الذي صلى فيه صلاة الفجر جماعة.. وهو يدعو الله بما طاب له من أدعية الصباح: أصبحنا وأصبح الملك لله رب العالمين.. "اللهم أني أسألك خير هذا اليوم فتحه ونصره ونوره وبركته وهداه، وأعوذ بك من شر ما فيه وشر ما بعده" يا رب يا كريم ترزقنا رزقاً حلالاً طيباً.. إن شاء الله.
توجه نحو محله في سوق القيصرية..
أبو محمد: بدأ صباحه وهو يتلقى التحية من أحبائه وأصدقائه.. إذ كلما التفت بوجهه صوب اليمين تلقف التحية.. ويبادلهم التحايا بأفضل منها.. وأدخل يده في جيبه يناظر الساعة.. كانت الساعة تشير إلى السادسة صباحاً.. ثم أغمدها في جيبه.. ثم أدخل يده الأخرى ليخرج مفتاح المحل الذي يمتلكه.. نظر إليه ليتأكد منه.. وكأن الشك داخله.. لقد نسيت المفتاح؟!
أبو محمد: يا إلهي.. علي أن أعود إلى البيت حتى أتمكن من فتح المحل فاليوم الخميس.. حتى لا أتأخر على زبائني.. ولكن.. الأجر على الله والرزاق كريم.
أبو محمد: تمكن بسرعة لم يعتدها.. هكذا خاطب نفسه.. أشعر كأني عدت إلى أيام الصبا.. وهو يمسح على لحيته الكثة التي غطاها الشيب. وبينما هو ساه يمسح على لحيته.. سمع صوتاً غريباً.. تقافزت نظراته إلى كل مكان.. إلى أزقة الحي الذي أتى منه.. واستدار بجسمه في كل اتجاه.. حتى وصل إلى الشارع العام.. وفيه رأى ازدحاماً غريباً لم يألفه!! حركة غير معتادة وأبواق السيارات.. وحركة الناس السريعة.. وخراطيم ممتدة على الأرض!! والطريق مغلق.. والدخول ممنوع.. ودخان كثيف يحجب أشعة شمس الصباح. أبو محمد تلفت يميناً ويساراً.. نظر خلفه, السماء صافية من جهة الغرب!! ولكن من جهة الشرق.. دخان اسود وكثيف؟.! استغرب.. وتعوذ من الشيطان الرجيم.. كررها مراراً.. ساوره الشك بأن في الأمر شيئاً.. ووجه سؤالاً لنفسه ليس من عادتي أن أتطفل وأسأل المارة في الطريق عن سبب هذه الحركة السريعة والأبواق المتواصلة؟! ولكن اعتدت أن أبادر بالسلام، أو أتلقى السلام.. ولكن سأجبر لساني على السؤال.. وفجأة أحاطه بضعة من الناس يسألونه عن حاله وصحته! وعن سبب الزحام في الشارع! أبو محمد: لا أعرف شيئاً.. ولكن انظروا أمامكم؟ وانظروا خلفكم؟ هل ترون ما أرى؟ السماء صافية من الغرب.. ودخان كثيف في الشرق؟! اندهشوا من كلامه.. وبينما هم يواصلون الحديث.. لمح أحد الباعة أبا محمد من بعيد.. وجاءه مسرعاً.. وهو يلهث: الحق يا أبا محمد.. الحق يا أبا محمد.. القيصرية تحترق.. القيصرية تحترق.. القيصرية تحترق!! وما أن انتهى البائع من كلامه حتى شعر أبو محمد: بأن دمه قد تجمد!! وكأن صاعقة صعقت الجميع.. شعروا بدوار وإغماءه.. لم يفيقوا منها إلا على صوت "إسعاف الهلال الأحمر".. أبو محمد: قادته خطاه إلى موقع "سوق القيصرية" وقد اكتحلت واجهته بالسواد.. كأنه اتشح بثوب الحداد.. تمكن من تخطي الحواجز.. المنصوبة على الأرض.. يبكي بكاء الرجال الذين إذا أصابتهم مصيبة يردد(انا لله وانا اليه راجعون).
حاول أصدقاؤه من الباعة منعه من الاقتراب من النيران التي بدأت تغطي سماء القيصرية .. وابو محمد في حالة (هستيرية) يريد الوصول الى محله, ويعاين بضاعته التي أودعها قبل أيام استعدادا لموسم شهر رمضان المبارك,
ورغم ان رجال الأمن . ورجال الإطفاء .. يراقبون بحذر أصحاب المحلات لمنعهم من الاقتراب.. حتى لا يتعرضوا للاختناق من جراء الدخان الكثيف الذي بدأ يتغلغل الى باقي المحلات . فيحجب الرؤية على الجميع.. وبفضل من الله تمكن رجال الإطفاء من إخماد النار في سوق القيصرية ... ولكن لم يتمكنوا من إخماد الحسرة في قلوب أصحاب المحلات الذين اصطفوا على الجانب الغربي من القيصرية تأسرهم الحسرة.. وتحاصرهم نيران اللهب.. ولسان حالهم يقول: هذا قضاء الله وقدره..
وقف أصحاب المحلات في ذهول كل يعزي الآخر بكلمات ألفوها في حال الخطر.. والمصائب خطاك السوء .. الحلال يعوض ولكن الروح ما تعوض) والسلامة غنيمة ولكن حريق القيصرية ما زال مرتسما في حدقة عين كل من له محل في (سوق القيصرية) وعيون تدمع .. وقلوب يعصرها الحزن.. وهم يرون الحريق يعصف ويحصد أموالهم أمامهم .. غير قادرين على فعل أي شيء .. وبينما هم في ذهول وسكون (أبو محمد) تلفت يمينا ويسارا .. وتسلل من بين الحشود الواقعة.. في غفلة من الجميع .. وفي مخيلته أن يلقي نظرة الوداع على محله الصغير ما بين أكوام وحطام الجدران التي تهدمت والجذوع التي تساقطت من سقف بإصبعه السبابة هذه دكاكين المواد الغذائية التي تحتل مقدمة السوق قد تصدعت الأقواس وهذه دكاكين الأدوية العشبية التي خلت من محتوياتها, وهذه دكاكين العطورات والبخور والعود تعطرت بعطرها القيصرية فتعطرت واحترقت, وهذه محلات القطن والمفارش وهذه دكاكين الأقمشة, ودكاكين البسط والسجاد, ودكاكين خياطي المشالح والعباءات, وهذه دكاكين الملابس الرجالية, وهذه محلات الأواني القديمة, وهذه دكاكين الأجهزة الكهربائية, وهذه دكاكين الحرف الشعبية, الصفارين والحدادين, والحجامين, والندافين.. وغيرهم.
أبو محمد: ومن خلال مروره على الدكاكين شعر بإرهاق شديد إذ لفحته حرارة الحريق وتمكن من رؤية محلة الصغير، وأخرج المفتاح نظر إليه بشوق وحنان، ثم مد يده إلى قفل باب محله فشعر أن حرارة تنبعث من القفل قبل لمسه أصبح كتلة من اللهب لم تساعده قواه بالمكوث طويلا حتى اقترب من زقاق شرقي محلة الرفعة الملاصق لسوق القيصرية وجلس يذرف الدمع، ويجر الآهات واغرورقت عيناه بالدموع فانهالت على وجنتيه لتشاركه في إطفاء الحريق ولسان حاله يقول: ماذا أقول لأصحاب المحلات أبو طارق أبو عادل ـ أبو عيسى، أبو عبدالله لقد رأيت النار تستعر في محلاتهم وبينما هو على هذا الحال أسند ظهره للجدار وأخذته إغفاءة وهو يردد بعض العباءات: هذه الطاقية بعشرة ريالات، وهذا الثوب بخمسين ريالا، وهذا السروال بعشرة ريالات اليوم نبيع برخيص وباكر نبيع بغالي!!
أبو محمد: لم يصح إلا على صوت حمامة أخافتها حركة يده المفاجئة بسرعة فرفرفت بجناحيها لتعلن بأن خطراً قد داهمها نهض أبو محمد بسرعة وتعوذ من الشيطان الرجيم وسحب نفسه يجر خطاه من هذا الزقاق حتى لمحه أبناؤه وأصدقاؤه وأصحاب المحلات وهم يبحثون عنه في كل مكان وقد اكتحل ثوبه بالسواد وهم في بكاء وعويل وبعد أن هدأ روعهم بدأ أبو محمد يصف ما رأى: الله في غمضه عين .. احترقت القيصرية!!
لم أتمالك نفسي وأنا أراها تحترق لم أشعر إلا وأنا في داخلها فإرث آبائي وأجدادي يحترق ولكن الشوق والحنين دفعني ولم أبال بنداء رجال الأمن، ولا رجال الإطفاء .. داهمني الموت وأنا أرى الجذوع قد جعلتها النار قاعا صفصفاً تتساقط على الأرض والجدران الصامتة التي لبست السواد وصوت النار ولهيبها يصهر كل ما في سوق القيصرية وأنا أحاول بمعطفي أضرب النار هنا وهناك حتى دموعي شاركتني همي ومن (حلاوة الروح) لم أجد نفسي إلا في آخر زقاق حي الرفعة فحرارة المكان ولهيب النار الحارق جعلني أبتعد وشعرت بأن أحداً يوقظني من نوم عميق حينئذ سحبت نفسي بكل ما لدي من قوة حتى وصلت لكم وساءني حالي وحال من رأيته من أصحاب الدكاكين وقد شحبت ألوان وجوههم وهم مصطفون على جانبي سوق القيصرية إذا أضحت دكاكينهم اطلالاً .
قاطعه أحد أبنائه الأربعة الذي يكنى به ..
محمد: لقد خاطبنا رجال الإطفاء بالبحث عنك في كل مكان وصوتنا يدوي باسمك من كل اتجاه لقد ساءني منظر المصابين وحالات الإغماء التي افترشت الطريق.
أبو محمد: هذا قضاء الله وقدره وكما ترون لم نغادر منذ الصباح الباكر والساعة الآن تشير إلى التاسعة من مساء يوم الخميس أسعف من أسعف وبعض الحالات تم نقلها إلى المستشفى ولكن الحمد لله على سلامة الجميع فلم يتمالك أبو محمد نفسه فذرفت عيناه وكان بجانبه "أبو عادل" جاره في المحل قال أبو عادل: لقد قمنا بتخزين بضائعنا قبل أسبوع في أكثر من 250 محلا تجارياً وتقدر قيمتها بأكثر من 100 مليون ريال وفي خلال ساعات التهمتها النار ! ولكن الخسارة "خسارة العمر" وثروة الإنسان ليس في المال ولكن بالرجال واسأل الله أن يعوضنا خيراً منها.
أبو محمد: لقد انطفأت أنوار القيصرية وسنفقد زبائننا الذين ألفناهم منهم الأحسائي والقطري والعماني والبحريني والكويتي والإماراتي ومن مختلف الجنسيات نسعد بهم ويسعدون بنا ولكن اليوم نراهم اصطفوا في طابور طويل يقدمون واجب المواساة لنا ولأهل الأحساء. وفي ظاهرة جسدوا فيها صورة من التراحم من أوفياء لأوفياء .. هبوا وفزعوا عندما علموا "بحرق سوق القيصرية" جوهرة الأحساء التي فقدت بريقها مثلما فقد أهل الخليج لؤلؤهم الطبيعي.
@@ عبدالله حمد المطلق