لم يقم رئيس الحكومة، ولا أي وزير من الوزراء الذين دعموا خطة الانفصال في حكومته، بتفسير دوافع هذه الخطوة على حقيقتها. لقد تحدث أريئيل شارون عن الحاجة إلى المصالحة مع الفلسطينيين، واعترف، بتردد، بحدود القوة، عذب المستوطنين بسبب الجنون الذي يتمسكون به، وأطلق عدة تفسيرات، تلائم المبادرين إلى وثيقة جنيف، لا الشخص الذي ينوي الانفصال عن نصف دول العالم وتحصين سلطته في بقية الأراضي المحتلة. لم يُحسن شارون تفسير السبب الذي جعله يتراجع، بشكل مفاجئ، عن اعتبار كفار داروم ونتساريم مثل النقب وتل أبيب، ولماذا يعتقد أن الانفصال سيحسن وضعنا الأمني. رغم أنني اعتقد أنه يجب إخلاء غالبية المناطق المحتلة، إلا أنني أستصعب فهم كيف نجحت التفسيرات الواهية التي طرحها رئيس الحكومة، باقناع الكثير من الناس في معسكره السياسي. لا يمكن البحث عن إجابة لهذا التساؤل في تسويغات شارون، وإنما في الفهم الصامت الذي تغلغل في وعي غالبية الاسرائيليين، بأننا خسرنا المعركة العسكرية. يفهم الفلسطينيون ذلك ويفاخرون بأن حربهم الضروس طردتنا من غزة، أما نحن فنرفض الاعتراف بصحة طرحهم هذا. كنا نرغب بالظهور في عيون ذاتنا، كمن انسحبوا بمحض ارادتهم، وبسبب الاشمئزاز من السيطرة على شعب غريب، وبسبب التخوف من فقدان الغالبية اليهودية في إسرائيل، ولتعميق تمسكنا بمناطق أكثر حيوية، وكجزء من "إسفين" دبلوماسي عبقري، يستهدف وضع سد أمام مطالب دول العالم، وفتح منفذ لاتفاق السلام، ولتحسين صورتنا الرهيبة في وسائل الاعلام الدولية. لكنه ما كان لأي تفسير من هذه التفسيرات، مهما كانت صادقة، أن يجعل حكومات إسرائيل تتراجع ولو خطوة واحدة إلى الوراء.نحن لم نتنازل أبداً عن المناطق إلا عندما اضطرونا إلى ذلك، ولو لم يجبرونا على ذلك - لما كنا سنتنازل الآن، أيضاً. لقد توقفت احتلالاتنا عندما خارت قوانا فقط، أو بعد قيام الدول العظمى بفرض الانضباط علينا. لقد أوقفت قواتنا تقدمها في سيناء، أثناء حرب الاستقلال، فقط بسبب تخوف الحكومة من رد الفعل البريطاني. وبعد عملية "كديش" وبعد إعلان بن غوريون عن قيام "ملكوت إسرائيل الثالثة"، انصرفنا من سيناء بسبب الانذار السوفييتي والأمريكي. وتنازلنا في المرة الثانية عن سيناء، ليس قبل أن يلحق بنا المصريون خسائر فادحة في حرب يوم الغفران (أكتوبر 1973). وخرجنا من لبنان، فقط لأننا لم نتحمل الخسائر التي الحقها بنا حزب الله، وسننفصل، في المستقبل، عن غزة لأننا لم ننجح بـ"ترسيخ" معنى تفوقنا المطلق في الوعي الفلسطيني. بل لقد حدث العكس، إذ "رسخ" الفلسطينيون في وعينا حقيقة طموحنا إلى ابتلاع أكثر مما يمكننا هضمه. إن الانسحاب من إقليم كانت حكومات إسرائيل قد أقسمت أنه سيكون لنا إلى الأبد، واستثمرنا فيه مبالغ ضخمة، وسنستثمر مثلها في انسحابنا منه، وسقط مئات الجنود والمدنيين خلال احتلاله والدفاع عنه، ليس إلا هزيمة مريرة.عزاؤنا يكمن في هزيمتنا، لأننا لو انتصرنا، أي لو أجبرنا المحاربين الفلسطينيين على التخلي عن أسلحتهم، لكان انتصارنا مثل انتصار بيروس. ومن هو بيروس؟ إنه ملك أبيروس، ولاية صغيرة قامت في اليونان بعد تفكك الامبراطورية المكدونية. لقد وجه الضربات إلى الرومان في عدة معارك، وعندما فقد غالبية جنوده في إحدى تلك المعارك، قال: "انتصار آخر كهذا وسنضيع". المؤرخون يعتبرون بيروس قائداً عسكرياً كبيراً، مثل هانيبال، وطائش سياسي لأن انتصاراته أدت إلى ضياع مملكته. لو انتصرنا، لما كنا سننسحب من غزة ومن شمال الضفة الغربية، ولو واصلنا السيطرة على هذه الأقاليم الفلسطينية، لكان فقدان الدولة اليهودية الديموقراطية مجرد مسألة وقت. هزيمتنا في غزة تمنحنا مهلة، لكن إذا واصلنا التمسك بالتفكير العبثي القائل إن هربنا من غزة لم ينجم عن هزيمتنا، فإنه يمكننا الاعتقاد بأنه يمكننا مواصلة السيطرة على بقية المناطق المحتلة إلى الأبد. هزيمتنا في غزة تشكل تحذيراً لنا وفاتحة للنجاة.