يسير هذا الكتاب عكس التيار، ففي الوقت الذي يرى العالم كله ان التفوق والسيادة الاميركية في كل مكان فان هذا الكتاب يرى من خلال عيني مؤلفه، ان هذا التفوق وهذه الهيمنة ليسا اكثر من وهم، ولا تتجاوزان كونهما فقاعة. وقبل ان نتعرف على هذا الكتاب الذي يهمنا جميعا، لابد لنا من ان نتعرف قليلا على مؤلفه.
المؤلف هو جورج سوروس الذي يتولى رئاسة مؤسسة تحمل اسمه لادارة الاموال ومؤسس الشبكة العالمية لمؤسسات متخصصة في دعم المجتمعات المفتوحة وله العديد من الكتب التي حققت افضل المبيعات من بينها "جورج سوروس والعولمة"، "مشكلة الرأسمالية العالمية"، وكتاب "المجتمع المفتوح".
والى جانب ذلك كله، فان جورج سوروس يشتهر في بريطانيا بأنه الرجل الذي اطاح ببنك انجلترا عام 1992 عندما راهن بشراسة ضد الجنيه الاسترليني، واستخدم قوة الاسواق في اختفاء احتياطي النقد البريطاني بسرعة ودمر سمعة حزب المحافظين الذي كان معروفا بقوته الاقتصادية، وحقق مكاسب مالية ضخمة من جراء ذلك.
لكن هدف المؤلف من هذا الكتاب مختلف تماما، فالهدف سياسي مباشر بالدرجة الاولى ويعبر عن ذلك بوضوح، فهو يريد الاطاحة بالرئيس الاميركي جورج بوش، يريد ان يكون هو الرجل الذي ينسب اليه الاطاحة بالرئيس بوش وينفق ملايين الدولارات من اجل تحقيق ذلك الهدف.
يقول المؤلف ان مناخ الخوف الذي ساد ولا يزال سائدا يحقق النتيجة نفسها التي كان يرجوها الارهابيون، ويشير الى انه بدلا من شن حرب حقيقية على الارهاب ومعاقل الارهابيين، استخدمت الولايات المتحدة القاعدة كمبرر لشن حروب تقليدية وخاصة الحرب على العراق.ثم يطرح المؤلف سؤالا مهما: لماذا اختار كلمة "فقاعة" عند وصفه للهيمنة الاميركية؟
ويجيب ان الفقاعة لا تنمو او تكبر في الهواء بل تتبدد وتختفي وتنفجر لكن متى سيحدث ذلك؟ المؤلف نفسه غير واثق من توقيت الحدوث، لكننا سوف نعرف جميعا الاجابة في نوفمبر المقبل عندما يخوض الرئيس بوش الانتخابات المقبلة.
في هذا الكتاب المهم التحليلي ينتقد المؤلف السلوك الكارثي (على حد قوله) للسياسة الخارجية والحرب على الارهاب التي انتهجتها ادارة الرئيس بوش. والمؤلف جورج سوروس يعتبر احد الاحياء الذين عاصروا احتلال هتلر للعاصمة المجرية بودابست ثم استيلاء الشيوعيين على المجر واستقر في الولايات المتحدة عام 1956 وهو شديد الالتزام بالقيم الاميركية ويتضح ذلك من انفاقه نصف مليار دولار اميركي سنويا على تطوير المجتمع المفتوح في العالم.
واعتمادا على خبراته في اسواق المال، يبني سوروس حجته بمقارنة بارعة بين النهج المضلل الذي تسير فيه الادارة الاميركية نحو السيادة والهيمنة على العالم وبين ظاهرة الازمة الاقتصادية الطاحنة لفقاعة البورصة.
ويهاجم المؤلف سياسة الرئيس بوش المعروفة بالاعمال العسكرية الاستباقية والسياسة الخارجية الكارثية التي ترى ان العلاقات الدولية هي علاقات تحكمها القوة وليس القانون. ويرى المؤلف ان الرئيس الاميركي جورج بوش والمحافظين الجدد الذين يسيطرون على البيت الابيض يستخدمون الشرعية وسيادة القانون كمجرد ديكور.اما سياستهم الحقيقية، فتؤكد ان العملة الحقيقية والرئيسية لكل العلاقات الدولية هي القوة العسكرية.
والمؤلف في هذا الكتاب يقدم انتقادا وادانة للاتجاه الذي يسير فيه الرئيس بوش ويقود من خلاله الولايات المتحدة والعالم.
وتتمتع الولايات المتحدة بحسب المؤلف بهيمنة في عالم اليوم لا يمكن ان ينازعها فيها دولة أخرى او حتى مجموعة دول في المستقبل المنظور. ويرى ان الولايات المتحدة يمكن ان تفقد هذه السيادة نتيجة لاخطاء ترتكبها هي وليس غيرها.
في الوقت الحالي، بدأت الولايات المتحدة طريق الاخطاء لانها الآن كما يقول المؤلف ـ في قبضة مجموعة من المتشددين يتمتعون بشعور قوي بأنهم يقومون بمهمة تبشيرية لايضاهيه سوى شعورهم الكاذب بالثقة.
وعن طريق سوء استخدام الوضع الذي تحتله الولايات المتحدة في العالم فان هؤلاء المتشددين جعلوا دولتنا اضعف وليس اقوى.
ويستعيد المؤلف ذكرياته فيقول: عندما هربت من المجر عام 1947 ذهبت اولا الى انجلترا ودرست في كلية الاقتصاد في لندن وتأثرت بالفيلسوف كارل بوبر وتعلمت الفرق بين المجتمعات المفتوحة والمجتمعات المغلقة، وبعد ان حققت نجاحا كبيرا في اسواق المال انشأت شبكة من المؤسسات التي تدعم المجتمعات المفتوحة.
ويضيف: وباعتباري احد مطوري ومشجعي الديمقراطية بالعمل وليس بالقول في مناطق عديدة من العالم، فانني اشعر بأنني مؤهل تماما للمساهمة في اعادة النظر في دور الولايات المتحدة على المستوى العالمي.
ويؤكد قائلا: انني سوف اضيف الى ذلك اطارا فكريا بدأت في وضعه عندما كنت طالبا واخذت اراجعه من آن لآخر على ضوء خبراتي التي اكتسبتها في مشوار حياتي.
ويشير المؤلف الى ان افكاره هذه كانت تتعارض مع مكانة ادارة بوش، لكن احداث الحادي عشر من سبتمبر ايقظت الشعور الوطني وساهمت في تغيير المواقف. وهو لا يريد لهذه اللحظة ان تنقضي .ويضيف المؤلف : لقد قاد الرئيس بوش الولايات المتحدة والعالم في اتجاه مختلف، فقد استخدم الحادي عشر من سبتمبر لكي يؤكد حقنا في توجيه ضربات عسكرية استباقية واهتمامي الاكبر الآن ينصب في مواجهة هذه السياسة".
لقد وقعت حكومة اقوى دولة على وجه الارض في ايدي متشددين يسيرون على نمط بدائى من الدارونية الاجتماعية: "وما الحياة الا صراع من اجل البقاء.
يبدأ المؤلف الفصل الاول الذي جاء بعنوان "سياسة بوش" بالتأكيد على حقيقة مفادها ان الحادي عشر من سبتمبر قد غير مجرى التاريخ. ويقول علينا ان نسأل انفسنا لماذا حدث ذلك وكيف يمكن لحدث واحد ـ حتى لو راح ضحيته ثلاثة آلاف من المدنيين ان يكون له هذا الاثر البعيد؟ الاجابة تكمن ليس بقدر كبير في الحدث نفسه ولكن في رد فعل الولايات المتحدة تحت رئاسة جورج بوش تجاه هذا الحدث.
ويعود المؤلف فيؤكد انه لولا رد الفعل الاميركي بقيادة بوش لما كان الحادي عشر من سبتمبر قد غير وجه التاريخ، فقد اعلن الرئيس الاميركي الحرب على الارهاب وتحت هذا الادعاء انتهج سياسة خارجية متشددة فاقت مأساة الحادي عشر من سبتمبر. ويلخص المؤلف هذه السياسة فيما يلي:
ـ العلاقات الدولية هي علاقات تحكمها القوة وليس القانون.
ـ القوة تسود والقانون يضفي الشرعية على تلك السيادة.
ـ الولايات المتحدة هي القوة السائدة والمسيطرة في عالم ما بعد الحرب الباردة .. وبالتالي فهي في وضع يسمح لها بفرض افكارها ومصالحها وقيمها على العالم.
ـ ان العالم يمكن ان يستفيد من تبني القيم الاميركية لان النموذج الاميركي اثبت تفوقه.
ـ في ظل الادارة السابقة، فشلت الولايات المتحدة في استخدام كامل قوتها . ويجب تصحيح هذا الوضع.
وفي فصل آخر بعنوان "الحرب على الارهاب" يقول المؤلف: ان الارهابيين وجهوا تهديدا خطيرا لامننا القومي وامننا الشخصي ويجب ان نحمي انفسنا وبلدنا منهم.
لكن هناك خطأ في حرب ادارة بوش ضد الإرهاب، فهذه الحرب لن تفعل شيئا للقضاء على الارهاب وتأمين الامن القومي .. بل على العكس فالادارة الأميركية الحالية تستخدم الارهاب والرعب كذريعة لشن الحرب. ويقال ـ كما يقول المؤلف ـ انه في اعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر عقدت الادارة الاميركية اجتماعا استمر 72 ساعة شهد مناقشات ومداولات مكثفة من اجل بحث كيفية الرد على هذه الهجمات .. وللاسف كانت مفردات الحرب هي التي سادت هذا الاجتماع المطول.
ويضيف ان الحرب هي وسيلة كاذبة وخادعة ومضللة للقضاء على الارهاب لكن الوسيلة المثلى لذلك هي معاملة هجمات الحادي عشر من سبتمبر كجرائم ضد البشرية عندئذ ستكون هذه الوسيلة ملائمة اكثر من شن حرب هنا وهناك، والجرائم تتطلب عملا بوليسيا وليس عملا عسكريا.
ان اعلان الحرب على الارهاب يصادف هوى لدى الادارة الاميركية لاستعراض عضلاتها العسكرية، لكنه وسيلة خاطئة للتعامل مع الارهاب، فالعمل العسكري يتطلب هدفا محددا ويفضل ان يكون دولة، وبالتالي فانه نتيجة لذلك اتجهت الحرب على الارهاب اساسا نحو دول تأوي ارهابيين. ويؤكد المؤلف ان الارهابيين لا وطن لهم وليس لهم مكان معين او دولة محددة يقيمون فيها حتى لو كانت هناك دولة معينة تشملهم برعايتها.
وفي الثالث عشر من سبتمبر كان العنوان الرئيسي لجريدة "لوموند الفرنسية": "كلنا اميركيون" ومن اجل اظهار التضامن مع اميركا اقرت الامم المتحدة الاجراء العقابي الذي اتخذته الولايات المتحدة ضد القاعدة في افغانستان. ولكن رغم كل ذلك فان الولايات المتحدة كانت ولا تزال تواجه مقاومة عنيفة لتوجهاتها.
فقد اثبت استطلاع عام للرأي اجري شهر نوفمبر عام 2002 ان ثلث البريطانيين يعتبرون جورج بوش اشد خطرا على السلام العالمي من صدام حسين .. ولم تتحسن هذه النسبة حتى الآن.
لم يقف الامر عند هذا الحد فقد خرج مليون ونصف المليون اوروبي الى الشوارع في شهر فبراير 2003 للتعبير عن معارضتهم للحرب ضد العراق وفي الوقت نفسه ضمن المستشار الالماني غيرهارد شرويدر اعادة انتخابه مرة اخرى في سبتمبر عام 2002 برفضه التعاون مع الولايات المتحدة في حربها ضد العراق. لكن العراق ليس هو المشكلة الوحيدة في العالم التي يريد بوش ان يحلها لكن الرئيس هو الذي جعل هذه المشكلة تظهر على السطح، ان المشكلات الدولية التي تبحث عن حلول عديدة.
ففي افريقيا وآسيا الوسطى وجنوب آسيا هناك العديد من المشكلات والصراعات .. لكن الولايات المتحدة في حل الآن من مواجهة هذه المشكلات لكن ليست هذه هي المشكلات التي تخيف الادارة الاميركية، فما يخيفها بالفعل هو امتلاك بعض الدول اسلحة للدمار الشامل .
ايران ايضا دخلت في عداد الدول الساعية لامتلاك اسلحة دمار شامل بل واقتربت كثيرا من انتاج قنابل نووية الرأى العام العالمي عموما يتركز الآن حول اسلحة الدمار الشامل، والدول التي تمتلكها . والاكثر اثارة للخوف من ذلك هو ان تقع في ايدي ارهابيين. لكن لابد ايضا من ان ننظر بعين الاعتبار الى امتلاك دول معينة لاسلحة دمار شامل فالفرصة مهيأة الآن اكثر من فترة الحرب الباردة لان تستخدم بعض الدول اسلحة الدمار الشامل ضد دول اخرى دون ان تعي عواقب ما ستفعله.
وهكذا يمكن اعتبار هذا الكتاب بكل المقاييس مهما وخطيرا، كتبه واحد من رجال الاعمال الاميركيين والذي يحب بلده ويحرص على ان يراها بعيدا عن الكراهية من هنا وهناك. هذا الكتاب يمثل صرخة مدوية وجرس إنذار يصم الآذان ودعوة مدوية للرئيس بوش لكي يتخلى عن هذه السياسات.