تستحث الإنجازات الكبرى التي نحتفل بتحقيقها بين فينة وأخرى الذاكرة لتبحر في عمق الزمن وهو يجاوز عامه الأربعين على ميلاد هذا الكيان الإعلامي العريق، لنرى صورا رائعة من ملاحم البذل والعطاء، لصفوة من الرجال، اجتمعوا على كلمة سواء، عاقدين العزم على أن يكون لهم دور فاعل في الحركة الفكرية والثقافية المعاصرة، عن طريق خوض غمار الصحافة المقروءة، لتوفير الخدمة الإعلامية لمنطقة تطل على الحدود الشرقية لوطننا العزيز.
ففي منتصف شهر ربيع الأول من عام 1384هـ كانت البداية عندما تلقى المؤسسون خطاب وزارة الإعلام بالموافقة على تكوين (مؤسسة دار اليوم للصحافة والطباعة والنشر) والترخيص لها بإصدار جريدة (اليوم) كأول جريدة في المنطقة الشرقية في ظل نظام المؤسسات الصحفية الأهلية، ليتحقق حلمهم في ملء الفراغ الإعلامي بالمنطقة آنذاك، ولينهضوا بدور فاعل للصحافة الوطنية في خدمة مجتمعهم، وتلبية حاجاته الإعلامية والثقافية والاجتماعية في منطقة تزخر بالطاقات الحضارية المتوارثة، وتتقدم بخطى متسارعة نحو تحقيق نهضة تعليمية واقتصادية شاملة.
وللحقيقة فإن عزيمة الرواد المؤسسين - في سعيهم نحو تكامل الدار وانطلاقها لأداء رسالتها - لم تضعفها أو تنل من قوتها العقبات التي صادفوها، والتي كان في مقدمتها قصور الإمكانيات المادية التي وضعت الدار أكثر من مرة على حافة الانهيار، إلا أنهم استطاعوا الصمود في مواجهة هذه المحن والصعاب للحفاظ على استمرار صدور جريدتهم لتساهم - مع صحف مناطق المملكة الأخرى - في نهضة بلادنا الإعلامية، فقد بذلوا كل مافي وسعهم من جهد في سبيل توفير التمويل اللازم للإنفاق على عمل الدار، بالاقتراض من وزارة المالية تارة، وبالصرف من حسابهم الخاص تارة أخرى، دون النظر إلى أي كسب مادي.
وقد استطاع المربي الكبير الشيخ/ عبدالعزيز التركي، رحمه الله، مدير عام التعليم بالمنطقة آنذاك، وأول مدير عام لدار اليوم، أن يستثمر علاقاته القوية بكل فئات المجتمع ومسئوليه في تذليل كثير من العقبات التي كانت تعصف بالدار من آن لآخر، يسانده في جهوده الأستاذ/ حسين خزندار، - رحمه الله - الذي كان أول رئيس تحرير للجريدة، مع المساهمات الفاعلة من باقي المؤسسين، والعدد المحدود الذي كان يتكون منه فريق عمل الدار، ممن تفانوا في أداء واجبهم بكل أمانة وإخلاص.
وعندما تولى بعد ذلك معالي الدكتور/ عمر الزواوي المسئولية كمدير عام للدار بين عام 1387هـ وعام 1391هـ، بذل جهودا كبيرة في علاج مشاكل الدار المتوالية واستطاع تخفيف الكثير ، منها بما وسعه الجهد.
ولعدم امتلاك الدار في تلك الفترة مطابع تمكنها من طباعة جريدتها بشكل يومي، لجأت للطباعة لدى إحدى المطابع المحلية، لتصدر منها الجريدة في ثماني صفحات أسبوعيا ثم مرتين في الأسبوع، وكان ذلك يكلفها مبالغ طائلة في ظل تدني إيراداتها، مما جعل المؤسسين يفكرون جديا في إقامة مطبعة خاصة لطباعة الجريدة، إذ قاموا بإقراض الدار المبلغ الذي يغطي تكلفة اقتناء آلات طباعية مستعملة كالتي تستخدم في المطابع التجارية العادية.
إلا أن استخدامها في طباعة الجريدة لم يكن مجديا في الوفاء باحتياجات الإصدار اليومي، مما اضطر المؤسسين إلى تأمين مطبعة حديثة مع جهاز كمبيوتر للصف الإلكتروني، عن طريق الشراء الآجل وتسديد القيمة على أقساط استغرقت أربع سنوات.
في أواخر عام 1391هـ اختار المؤسسون الشيخ/ حمد المبارك - طيب الله ثراه- مديرا عاما للدار، فأجرى الكثير من الإصلاحات الإدارية والمالية، مكنت الدار من إدارة نشاطها بالطريقة التي تؤمن لها الموارد اللازمة لمواجهة التزاماتها والقدرة على الاستمرار والتطوير، فانتهجت سياسات إعلانية خاصة بها، بعيدا عن الامتيازات التي كانت تحتكر وتتحكم في دخلها من الإعلانات، الذي يمثل الدخل الرئيسي لأية جريدة يومية، كما طورت نظامها التوزيعي لتغطي أكبر مساحة ممكنة في المنطقة الشرقية وفي باقي مناطق المملكة الأخرى، اعتمادا على إمكاناتها الذاتية.
أثمرت هذه الإصلاحات نموا متسارعا في حجم إيرادات الدار، بما مكنها من تطوير مطبعتها بإضافة وحدتين إضافيتين لوحداتها الرئيسية الأربع، لزيادة عدد صفحات الجريدة من 16 صفحة إلى 24 صفحة، وإلى تدعيم جهاز الدار الإداري والتحريري والفني، وتطوير البنية التحتية لمرافق الدار الرئيسية.
بعدما بلغت الدار وضعا ماليا مرضيا، نتيجة طبيعية لنمو إيراداتها، وزيادة رأس مالها بانضمام شركاء جدد في عضويتها، وملاحقة لإيقاع العصر المتسارع صار بالإمكان التفكير في الإقدام على خطوات تطويرية جريئة، لاختصار الوقت والجهد والتكاليف التشغيلية، وللحاق بركب صحافة المملكة والعالم بصدور الجرائد الملونة، وتأمين جيل جديد من آلات الطباعة الملونة قادر على طباعة الجريدة في صفحات تصل إلى 44 صفحة منها 8 صفحات ملونة، وبجودة فائقة.
ونتيجة النمو الكبير والمطرد في إيرادات الدار ، وتحسن أوضاعها الإدارية والفنية كان لابد من استخلاص الدروس المستفادة من عثرات الماضي، بالتخطيط المدروس للمستقبل، حفاظا على ما حققته رحلة الكفاح الطويلة لرواد الدار من نجاحات، وقد قاد مجلس الإدارة بعد تشكيله لأول مرة برئاسة الشيخ/ حمد المبارك - رحمه الله - مرحلة جديدة من النهج التخطيطي الواعي، بهدف تدعيم هياكل الدار ومرافقها ومراكزها المالية، وكانت أهم الإنجازات التي تحققت، ذلك المبنى الحضاري المتميز الذي أصبح مقرها الرئيسي اعتبارا من العام 1422هـ.
واصل مجلس إدارة الدار مسيرته المنهجية في متابعة تنفيذ خطط التطوير والتحديث حتى بعد رحيل رئيسه الشيخ/ حمد المبارك، الذي ترك لنا تراثا من خبراته وحكمته وبعد نظره، كانت عزاءنا في فراقه، بعد رحلة شاقة من البذل والعطاء من اجل تحقيق النجاح لهذا الكيان الذي أحبه وكرس له وقته وجهده، وعندما شرفني زملائي أعضاء الجمعية العمومية للدار بخلافة هذا الرجل الحكيم في رئاسة مجلس الإدارة، عقدت العزم على مواصلة الجهود مع زملائي أعضاء المجلس لتحقيق الطموحات المتوقعة من هذا الصرح العملاق..
فكانت خطوتنا التالية هي استكمال تطوير بنى الدار الانتاجية، وفي مقدمتها المطابع، التي استمرت في العمل حتى بعد تجاوزها سنوات عمرها الافتراضي، كان العالم خلالها قد أنتج أطوارا حديثة من خطوط الطباعة وتجهيزاتها بتقنيات حققت ثورة في مجال طباعة الصحف، تساير متطلبات العصر، وفي نفس الوقت كانت المنافسة بين صحف المملكة على اشدها لتطوير إمكانياتها الطباعية، لتحقق كل منها تميزا نوعيا، وأمام هذه المعطيات اتخذت الدار قرارها باقتحام هذا السباق، بالتخطيط المدروس لتأمين أحدث ما انتجه العالم من خطوط طباعية، لتبدأ من حيث انتهى الآخرون، مما يتيح لها القدرة على مواجهة المنافسة وامتلاك مقومات النجاح في أداء دور متميز يساهم في تحقيق أهداف إعلامنا الوطني.
إننا اليوم وبعد هذه الرحلة الطويلة التي استغرقت ما يربو على الأربعين عاما، يحق لنا أن نحتفل بجني ثمار جهود الرواد المؤسسين، وجهود من واصلوا حمل الرسالة معهم ومن بعدهم، وذلك بافتتاح مجمع مطابع دار اليوم الجديدة الذي شيد بلمسات معمارية فريدة وزود بأحدث ما أنتجه العالم من خطوط طباعية وتجهيزاتها ذات القدرات التشغيلية الفائقة، ليوفر للدار مقومات النجاح والمنافسة في مجال الطباعة المتخصصة.
ولأن الهدف الذي تسعى الدار لتحقيقه من وراء امتلاك هذا المجمع الطباعي العملاق هو تحقيق الجودة الطباعية المتميزة لإصداراتها وفي المقدمة جريدتها اليومية، فكان ضروريا أن يتزامن هذا الحدث، مع دفعة قوية لإمكانياتها الفنية والتحريرية، بتطوير شامل لشكل الجريدة ومضمونها في انطلاقة نوعية تدعم دورها الإعلامي، وتواكب الاتجاهات الصحفية لهذا العصر بمعاييرها المهنية الاحترافية.
لذلك فإن احتفالنا اليوم.. يأتي لإطلاق مرحلة جديدة متكاملة من مراحل التطور التي خاضتها الدار، لتتبوأ مكانة مرموقة- تليق بتاريخها الحافل بالتحديات - في منظومة إعلامنا الوطني، ولتساير ما أحرزته من تطور وازدهار.
ولن تتوقف مسيرة التطوير، طالما بقيت الحياة..