(في الثورة الفرنسية كانت المقصلة رمزا للظلم والاستبداد ومعبرة عن الشر في مخيلة أنصار الثورة ولكن هذا الشر لم يلبث أن تحول لدى اليعقوبيين بعد انتصار ثورتهم إلى رمز لخدمة العدالة والحرية به تُطهر فرنسا من أعداء الحرية والعدالة وأنصار الظلام. وكان مارا احد قادة الثورة و اعترف بقتله عشرات الألوف).
صورة الضحية تجلب الشفقة عليها , وتستدعي الكره والبغض لجلادها , فطرة إنسانية نبيلة, فالظلم منبوذ والرحمة منشودة . ولكن تعقيد الشخصية الإنسانية قد يسمح بوجود هذين النقيضين بداخلها( الضحية والجلاد) . فالفرد قد يقوم بدور الضحية بما يستدعيه من تاريخ المعاناة ومشاهد الإقصاء والتهميش والظلم التي تعرض لها وهو بذلك يقوم بدور في غاية الإنسانية يجلب به التعاطف ويستدر رحمة الناس وشفقتهم .كما انه قد يقوم بدور الجلاد بكل شراسة وقسوة ليمارس كل أنواع الإقصاء والإلغاء والتهميش والظلم التي مورست معه ويجلب لشخصه بذلك كره الناس ومقتهم, ولكن الناس هنا جمهور منقسم بين هذين المشهدين فمن يرى احدهما قد لا يستطيع رؤية الآخر وكأننا أمام عملة بوجهيها الضحية والجلاد. هذه الثنائية المتصارعة تجعلنا أمام ضحية لديه برنامج إبادة كامن وجلاد لديه برنامج إبادة متحرك لا يلبث احدهما أن يحل مكان الآخر ويصبح الكامن متحركاً والمتحرك كامناً في دوران لا ينتهي.
في الثورة الفرنسية كانت المقصلة رمزا للظلم والاستبداد ومعبرة عن الشر في مخيلة أنصار الثورة ولكن هذا الشر لم يلبث أن تحول لدى اليعقوبيين بعد انتصار ثورتهم إلى رمز لخدمة العدالة والحرية به تُطهر فرنسا من أعداء الحرية والعدالة وأنصار الظلام؟؟.
وكان مارا (أحد قادة الثورة و اعترف بقتله عشرات الألوف) يتعجب ويستغرب من الذين يشكون في النزعة الإنسانية النبيلة التي يتصف بها. ويحاول أن يدفع عن نفسه هذا الاتهام الخطير, الذي يقدح في إنسانيته وعدالته, وهو الذي قدم كل هذا التاريخ النضالي الطويل من اجل الإنسانية المهدرة والعدالة الضائعة, فيصرخ في وجوه هؤلاء المشككين ويقول لهم ( ما هذا الظلم ؟ من الذي لا يستطيع أن يشهد بأنني أريد قطع بعض الرؤوس حباً بخلاص الكثيرين ؟).
إذا فهو الضحية الذي يريد أن ينقذ ملايين الضحايا الآخرين من نير الظلم والجور, فتحول في سبيل غايته تلك إلى جلاد بشع لا يرحم , ولا يلتزم بقانون إذ إنها قوانين تمنعه من تحرير ملايين الضحايا ومن مواجهة الطغاة المستبدين فكان لزاما عليه أن يخرقها ويرمي بها وراء ظهره.
يتجاوز الأمر أحيانا مواقف الأفراد إلى أمزحة الشعوب ذاتها , ففي الثورة الفرنسية ُقدمت عريضة إلى المؤتمر الوطني المنعقد بعد الثورة يناشد الموقعون عليها الثوار( باسم الرحمة وباسم المحبة الإنسانية أن يكونوا لا إنسانيين في سياساتهم ). هذا النداء يأتي ممن كانوا ضحايا من قبل, امتلأ بهم سجن الباستيل , وقدم رفاقهم على المقاصل من اجل رفع الظلم وتحقيق العدالة المطلقة والمساواة لجميع الناس. الجلاد دائما يبرر ما يقوم به بأنه من اجل سعادة البشرية وخير العالم, .ومن اجل نشر قيم عليا وتخليدها في الأرض, فمارتن لوثر الذي كان يناضل من موقع الضحية لتحطيم سيطرة الكنيسة وظلمها وترسيخ قيم الحرية وتحقيق إرادة الفرد, هو مارتن لوثر الذي دعا إلى غسل الأيدي بدماء الكرادلة والبابا. ومحاكم التفتيش التي أعلنت في أوروبا كانت تبرر ما تقوم به من مجازر بدعوى تطهير هؤلاء المذنبين, وان عذاب الدنيا أخف من عذاب الآخرة فلا باس أن يحتملوا هذا العذاب الأدنى لينجوا من الأكبر , فهم قد اختارهم الرب لإنقاذ الإنسان , وما يقومون به طقوس تؤدى كما تؤدى طقوس العبادات الروحية , بكل خشوع وتبتل. إن الجلاد لن يعدم مبررات تمنحه الرضا المطلق عما يقوم به , والضحية لن يعدم هو الآخر مبررات الانقضاض حين تغير الريح اتجاهها. هذه المعادلة الراقصة ممتدة عبر التاريخ وصورها كثيرة ,وهي حاضره اليوم في أكثر من مشهد(العراق نموذجاً). فالضحية الذي كان يعاني ظلم المستبد تحول إلى مستبد بنسخة مطورة يستند إلى مشروعية المظلومية . والحرية والعدالة يراد تقديمها على مذهب مارتن لوثر بغسل الأيدي بدماء المناوئين والمقاومين وإبادة مدن بأكملها , والمعادلة لا تزال تتراقص متغيراتها. الثابت الوحيد في هذه المعادلة هو الخطاب الدعائي المصاحب , فالضحية في خطاب الجلاد هو المجرم والرجعي والظلامي والخائن والأجنبي وغير ذلك والجلاد في خطاب الضحية هو الظالم والمستبد والطاغية والقائمة طويلة.
والحقيقة هي الضحية الأولى.