من منا لا يشعر بالحنين لتلك الأيام التي كان فيها العيد (عيدا)، ومن منا لا تتراقص الذكريات في مخيلته كلما أطل العيد فكل (ملفات الذاكرة) القديمة تصبح حاضرة في الذهن بعد أن بدأت تفقد بعض درجات ألوانها وكأن الحياة كلها مجرد حلم. على أن العيد في صورته المنتظمة والمتكررة يجعلنا دائما في حالة رغبة لمحاسبة النفس وعندما نبدأ ذلك الامتحان الصعب الذي نتغاضى عنه طوال العام نفاجأ أحيانا بأن جزءا من عمرنا انسحب من بين أيدينا دون أن تتحقق أي من أحلامنا حتى البسيطة منها، فطالما سمعت من بعض الأصدقاء (لقد مر عام كامل ولم ننجز شيئا).
ورغم أن العيد يأتي مرتين في العام، والحساب يتكرر في كل منهما (عند البعض) إلا أن العبارات تتكرر كل مرة دون أن يصاحبها عمل. أذكر أنني في العام الذي مضى كنت قد وضعت بعض الأهداف التي قلت في نفسي يجب على انجازها، ومر العام ولم أحقق منها إلا القليل ومع ذلك فقد قلت ـ الحمد لله انني حققت هذا القليل.
ويبدو أن على كل منا أن يضع في اعتباره بعض الأهداف الكبيرة حتى يحقق جزءا منها ليشعر بالرضا (أطلب الكثير كي تحصل على القليل)، ولن أذكر القارئ بقول المتنبي النقدي حول العيد (بأي حال عدت ياعيد)، ففي ذلك البيت من الشعر ما يغني عن الحديث حول أهمية العيد (كمفصل) بين حقبتين، فهل سيأتي العيد بما مضى أو أن هناك جديدا.
الظاهر أننا جبلنا على التناسي حتى أننا ننتظر مناسبة مثل العيد لنتذكر، والتذكر هنا غالبا ما يكون مجرد حنين لما مضى وليس اعدادا لما سيأتي.
والأمر الأكثر غرابة هو أننا كل مرة نعود الى النسيان بل ونبحث عنه لأنه (مسكن) جميل يشعرنا بوهم الرضا. العيد الذي يستعرض حياتنا كفيلم سينمائي لا يتجاوز بضع ساعات وربما دقائق، اذا كان الفيلم من النوع القصير والحياة غير حافلة بأي وقفات يمكن أن تجعل ملفات الذاكرة مكتظة، مناسبة حقيقية لشحذ الهمم والتحاور داخليا مع الذات وبناء جسور من الثقة بالنفس لأن الحياة لا تسير على وتيرة واحدة وما نتوهم أنه فشل قد يكون بداية النجاح.
بالنسبة لي أتوقف احيانا عند محطات اساسية غيرت من حياتي واتخيل (سيناريوهات) مختلفة لو لم تكن تلك المحطات وجدت، كيف ستكون مسيرتي في الحياة.
من تلك الوقفات تعلمت الكثير وايقنت أن كلا منا (ميسر لما خلق له)، وأنه كلما كانت أهدافنا واضحة، حتى لو خسرنا الجولة مرة أو مرتين في طريقنا لتحقيق تلك الاحلام، كانت المحصلة النهائية هي تحقيق تلك الأهداف، لأن النجاح في حقيقته ينبع من داخلنا وليس فقط من الفرص التي تتاح لنا.
اذ أنه حتى لو اتيحت كل الفرص لإنسان يفتقر للاصرار ولمقومات النجاح فلن يحقق أي شيء. وما يمكن أن نتعلمه من العيد (قيمة التكرار) غير الممل، فهو يأتي بنفس الوتيرة كل عام، تتغير الوجوه والأمكنة ويتحول الشتاء الى ربيع وصيف وخريف ويظل العيد يأتي دون ملل. تتراكم حوله الذكريات ويطور الناس حوله حكاياتهم واساطيرهم، ويظل هو نفسه العيد. انه محطة للتأمل كما أنه مخزن للذكريات ومجال لصنع النجاح أو على الأقل البداية من جديد، فمن العيد الى العيد هناك دائما بداية.
ومع ذلك فإنني لا أود أن اثقل على القارئ وأذكره بتفلت الوقت من بين أيدينا، لأنني كنت قد عزمت على أن يكون مقال العيد، فرصة للسفر في الذاكرة، وخصوصا الذاكرة الاحسائية المكتظة بتقاليد العيد العريقة، لولا أن هذا الثائر المتفلت الذي نسميه الوقت يوخزني بأطرافه الحادة ويدفعني للألم والتحسر على أثمن ما في الحياة وهو يجري وأتذكر الحديث الشريف الذي يشير الى اهمية الوقت واننا محاسبون عنه (وعن عمره فيما أفناه) وأقول في نفسي ربما نحتاج الى منهج تربوي عن كيفية التعامل مع الوقت ندرسه لأبنائنا في المدارس وتذكرت في نفس الوقت ابنائي عندما كانوا يدرسون في المدرسة الانجليزية في بريطانيا وكيف ان تلك المدارس تجبر الطلاب على القراءة منذ الصفوف الاولى كجزء من النشاط اللاصفي وبمساعدة الأبوين، فكل طالب يستعير قصة ويقوم ابواه بقراءتها له وهو ما جعلني لا استغرب كيف ان الشباب في المجتمعات الغربية، رغم كل فرص اللهو، إلا أنه لا يوفر فرصة إلا ويقرأ فيها. ثم اني تذكرت عبارة لحكيم عندما سأله احدهم لماذا تقرأ كثيرا فرد عليه لأنه (لا تكفيني حياة واحدة). ولا أعلم ان كان مازال بيننا من يرغب في أن يعيش اكثر من حياة، فتلك ايام قد خلت وأنها لن تعود.
الوقت الذي لا أملك ان اوقفه، اكتفيت في العيد بمشاهدته ومراقبته واقتناص الفرصة كلما سنحت للتذكير بقيمته. وكان واضحا ان الناس تكره أن تسمع من يذكرها بتفريطها في الواجبات التي عليها. وقررت أن التزم الصمت، على الاقل لأحتفظ ببعض الود مع من لم أرهم منذ فترة طويلة، وقلت في نفسي (في الانصات سبع فوائد) (مثل السفر) لأنه يسافر بي لعقول الناس.
ولا أكذبكم القول انني شعرت ان الوقت يتوق للوقوف للحظات في العيد، وكأنه يريد أن يلتقط انفاسه، ففي هذه المناسبة تتكرر الوجوه، ونشعر بفقدان بعضها، وتعود لنا الأحداث مجسمة في هيئة أشخاص وحكايات تملأ فضاء مجالس الاحساء، نستعيد بها بعض النشوة التي صارت لا تأتي في (الزحمة) غير المنتجة التي تغلف حياتنا، فالكل مشغول عن الآخر دون انجازات حقيقية، لكن كل المشاغل تتعطل مع العيد، وتجد الكل يتحدث و(يفضفض) عما يجول في خاطره وكأنه لم يتحدث من قبل. في كل تلك المشاهد الممتعة تختلط محاسبة النفس مع الحنين لتلك الأيام الخوالي التي كانت فيها كل أيام الاحساء مجالس مفتوحة يتربى فيها الرجال ويتوارثون منها القيم الاجتماعية التي ميزتهم عبر الزمن.