منذ أن كتب جون لوك رسالته في التسامح، صار هذا المفهوم مطروحاً بقوة خصوصاً في المجتمعات التي تعاني من أعراض اللاتسامح الديني أو السياسي أو الثقافي أو الاجتماعي. التي تتفشى فيها أمراض الطائفية والمذهبية والعنصرية وكافة أشكال العصبية والكراهية. حيث لا يتوقف الأمر عند الفروق الاعتقادية بل يتجاوزه إلى لون البشرة والعادات والتقاليد إلى آخر التباينات التي يمكن أن تولّد العداوات المجانية.
لقد تنبه العالم إلى أن اللاتسامح خطر لا تقل آثاره المدمرة على الذات والمجتمع عن الأوبئة والمخدرات. وعلى هذا الأساس أقرت اليونسكو مبدأ التسامح عام ١٩٩٥م. فالإنسان اللامتسامح هو كائن عدواني جاهل لا يجيد الحوار إلا مع نفسه. ويتجاوز بسلبيته حتى مسألة التعصب إلى حافة المرض النفسي المعطل لفاعلية الإنسان ومعنى وجوده. فهو يحمل في داخله شحنة هائلة من الشرّ. إذ لا يعتقد بإمكانية تحقيق وجوده إلا من خلال تصدير الشرور. وبالتأكيد هو شخص غير نافع لأنه يهدم أي إمكانية لبناء علاقات متكافئة مع الآخرين.
وإذا ما أخضعت شخصية الإنسان اللامتسامح للتحليل يتبين أنه مهووس بأفكار بعينها. وهو الأمر الذي ينطبق بشكل أوسع على المجتمعات اللامتسامحة. فهي لا تقر أي شيء من أشكال التنوع الثقافي. ولا تعترف بوجود الآخر. ولا يوجد لديها أي قابلية للتعايش ولا للتحاور مع أي طرف مضاد. بقدر ما تمتلك من الرغبة والطاقة لتدمير أي فريق يخالف رؤيتها للوجود. كما اختصر مفهومها ومضامينها عالم الانثربولوجيا سومنر في مصطلح (النموذج الأصلح) التي يعادلها في مجتمعاتنا مصطلح (الفرقة الناجية).
ومن المفارقات أن نعرات اللاتسامح تتفشى بقوة وكثرة في أوساط المتدينين، على الرغم من كون الدين يحث على مبدأ التسامح. حيث يتجاوز بعض المتدينين المتشددين مسألة اضطهاد من يخالفهم إلى فكرة القتل باسم الله. وتتأسس في المقام الأول على إيقاع ما تبثه رموز السلطة الروحية في كل ثقافة. بحيث يضطر الفرد إلى مسايرة الحالة الاجتماعية التي هيأت لها الرموز ذلك المناخ الرافض لوجود الآخر، والانصياع لما تمليه الإرادة الجماعية.
هكذا ينقسم المجتمع أو العالم بوجه عام إلى قسمين: نحن وهُم. وعليه تنشأ حالة الخوف من الغريب والارتياب فيه. لتُستكمل كل تلك المعادلة القائمة على اللاتسامح بتعبئة نفسية كثيفة ومتوالية من حيث كم الرسائل والإشارات الرافضة للتفاهم والتحاور. كما تتبدى في مؤشرات العداء اللفظي أو المعرفي كالكراهية المعلنة، وإشعار الآخر بدونيته وبفكرة التفوق عليه، وازدرائه، والتشكيك في كل مبادراته، وتنميطه في صورة جاهزة معلبة، أشبه ما تكون بقائمة اتهامات مبيّتة.
ولا تتوقف علامات اللاتسامح عند هذا الحد المعنوي بل تتصعّد في شكل سلوك عدواني. يتمثل في الاعتداءات الجسدية والعنف بكل صوره. حيث يفقد الفرد قدرته على ضبط ذاته وسط حالة الهيجان المتأتية أصلاً من حالة انفعالية، التي تتراكم في شحنات سلبية ضاغطة، لتتحول بالضرورة إلى اتجاه اجتماعي. نتيجة ذوبان الشخصية الفردية في وساعات الشخصية الاجتماعية، وتواطؤ كل تلك الذوات الخائبة المحبطة على الاشتراك في تكوين هوية غير متسامحة.
على هذا الأساس تتشكل الشخصية اللامتسامحة التي تعيش ازدواجية الإذعان والتسلط. أي الخضوع لإملاءات الآخرين من جهة داخل حيز (النحن). وممارسة التسلط على الآخرين المقيمين خارج هذه الدائرة الاصطفائية، باعتبارهم أعداء. حيث تنتقل كل تلك الأعراض من مستواها الانفعالي العاطفي البسيط إلى الحقول والتشكيلات المعرفية، التي يكتسبها الفرد من علاقاته المتشابكة، ومن المرجعيات الفكرية لفئته الاجتماعية. بحيث يتسلح بالأفكار والأدلة الكفيلة بقهر الآخر معرفياً وإبقائه في خانة العدو.
وبموجب هذا البناء السلبي الذي تمتهنه ذات مسكونة بمشاعر الغضب والإحباط وأحاسيس الاضطهاد والإهانة. يولد إنسان كاره لنفسه وغير متسامح مع الآخرين. ولا يجد مبرراً لوجوده إلا بصقل صورة العدو وتلميعها من أجل مجابهته بكل الوسائل. الأمر الذي يُبقي على طقس اللاتسامح الاجتماعي المؤسس على تعميمات سلبية متكلّسة وخاطئة وجاهزة. ليأتي جيل جديد ويرث آفة اللاتسامح القائمة بدون أن يسائل من غرسها بعمق في الوجدان الاجتماعي عن مبررات بقائها كأداة للتواصل القاتل والمعطل لطاقات المجتمع.