على بعد مئات الأمتار من العملية الحربية العدوانية التي أطلقت عليها "إسرائيل" "الجرف الصامد" يحتضن شاطئ غزة كنزاً استراتيجياً، لو تحقق سلام حقيقي واعتراف بحقوق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته وعاصمتها القدس، لأمكن إحداث تطور نوعي للأوضاع المعيشية والاقتصادية ليس في غزة فحسب، بل للدولة الفلسطينية المنشودة، وتحويلها من الاعتماد على المساعدات إلى منطقة منتجة وذات أفق اقتصادي. بمحض الصدفة اكتشف صيادون قبل عقد ونصف من الزمان فقاعات تخرج على سطح البحر. لم تكن بعيدة عن شاطئ غزة سوى 200 متر فقط، وتم فحصها في مختبرات متخصصة، وأكد العلماء وجود غاز طبيعي في باطن البحر. هل الغاز الفلسطيني نعمة أم أنه نقمة مثل النفط العربي؟ فقد كان سبباً في شنّ الحروب وأعمال العدوان لاستعمار واستغلال البلدان العربية، ولمنعها من السير في دروب الإصلاح والتنمية والتقدم؟ وقد عانى العرب طيلة قرن من الزمان من تحوّل النعمة إلى نقمة، حيث كان تدفّق النفط، إيذاناً جديداً بتدفق الدم، الذي سال على جنبات العالم العربي وفي وسطه لدرجة ظاهرة ومشينة، سواء على صعيد الأهداف الخارجية أو الممارسات الداخلية. والغاز الذي اكتشف في شواطئ غزة (قرب دير البلح) يبعد 36 كيلو متراً من الساحل وقدّرت كميته بـ 33 مليار متر مكعب، ولا تزال إجراءات الاحتلال "الإسرائيلي" تمنع استخراجه، على الرغم من بعض العقود مع شركات دولية. والاستفادة من الغاز المكتشف تحتاج إلى اتفاق رسمي مع غزة للتعاقد مع شركات متخصصة بهدف استخراجه واستثماره في عمق البحر. ولعلّ ما نشرته جريدة الغارديان البريطانية هو جراء الاستراتيجية "الإسرائيلية" باستهداف غاز غزة، ولا شكّ أن الاحتلال الاقتصادي والقرصنة التجارية، دائماً ما كان يقترن في الحروب الاستعمارية باحتلال عسكري. وتتذرع "إسرائيل" دائماً بوجود حركة حماس والصواريخ التي تطلق ضدها وسعيها لملاحقة "الارهابيين"، لكن العالم أخذ يدرك أن غزة ليست مجموعة مسلحة أو فصائل عسكرية، إنها شعب يتألف من مليون و700 ألف إنسان، وبشر يموت وأطفال ونساء وشيوخ تزهق أرواحهم، إضافة إلى تدمير ما بنته سواعدهم. وخلال ست سنوات (فقط) شنّت «إسرائيل» ثلاث حروب عدوانية ضد قطاع غزّة، والحجة هي ذاتها تفكيك البنية التحتية للمقاومة وإيقاف إمكانية استخدامها لإطلاق الصواريخ على "إسرائيل" الحمل الوديع، الآمن، الذي يريد العرب والفلسطينيون تعكير مزاجه وتخريب حياته "الديمقراطية". ومنذ العام 2007، بدأت معاناة غزة تتعاظم، ففرض الحصار الشامل عليها عقاباً وانتقاماً للديمقراطية الفلسطينية "المحظورة" إلى الأبد، سواء بالتوافق أو المصالحة أو عبر الصندوق. ورحلة المعاناة توّجت بعدوان في أواخر العام 2008 ومطلع العام 2009 استمر لمدّة 22 يوماً بعنوان "الرصاص المصبوب"، ثم جاء "عمود السحاب" عنوان العملية العدوانية الإسرائيلية الثانية في العام 2012، والعملية الثالثة حملت اسم "الجرف الصامد" والتي رافقتها عملية برّية تدميرية أوقعت المئات من القتلى والآلاف من الجرحى، إضافة إلى تدمير البنية التحتية والمرافق الحيوية الاقتصادية في قطاع غزة المكتظ بالسكان الذين يفتقدون إلى أبسط مقوّمات الحياة الطبيعية، لا سيّما حق الحياة، إضافة إلى الأمن والاستقرار والحق في التنقل، إضافة إلى الحريات الأخرى المدوّنة في اللوائح الدولية لحقوق الإنسان، سواء الحقوق الجماعية وفي مقدمتها حق تقرير المصير وحق إنشاء دولة وحق اللاجئين بالعودة، أو الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وهكذا انهار اتفاق "التهدئة" القلقة التي أعقبت عملية عمود السحاب، خصوصاً عندما أصرّ "الإسرائيليون" على إبطال نتائج اتفاق المصالحة بين فتح وحماس، والذي تمخض عن ولادة حكومة وحدة وطنية. وإذا كان هذا الهدف السياسي المباشر "لإسرائيل"، فإن أهدافها الأخرى أكثر تعقيداً، فقصة الصواريخ الفلسطينية كمبرر للانقضاض على غزة أو اختطاف ثلاثة من الشباب الاسرائيليين والعثور على جثثهم لاحقاً، في ظروف غامضة وملتبسة لم يعد يقنع أحداً، وهي نسخة مستنسخة من ذريعة عملية "الرصاص المصبوب" عام 2008، الأمر الذي يحتاج إلى البحث المعمّق عن الأهداف الإسرائيلية الحقيقية التي تقف وراء عملية الجرف الصامد، كتتويج لعمليتيها السابقتين. الهدف الأول ما عبّر عنه "الإسرائيليون" على نحو واضح، وهو تقويض المصالحة الوطنية، ويتقدّم هذا الهدف لدى الصهاينة، للحيلولة دون إنجاز مشروع طويل الأمد للوحدة الوطنية، لإعادة لحمة الضفة بالقطاع، خصوصاً بعد فشل عملية السلام "المستحيل" بين الفلسطينيين و"إسرائيل"، وذلك لافتقادها لشروط الحد الأدنى، وهي الاعتراف بحق تقرير المصير وحق إقامة دولة وعاصمتها القدس الشريف، وحق عودة اللاجئين وتعويضهم، وهو ما ترفضه "إسرائيل". والهدف الثاني هو إضعاف دور إيران في غزة، من خلال ضرب حليفتها حماس، وسبق "لإسرائيل" أن استخدمت هذه السياسة في البلدان الحليفة لإيران، خصوصاً وأن هناك تحفظاً عربياً وخليجياً بشكل خاص إزاء النفوذ الإيراني والملف النووي، ولهذه الأسباب فإن "إسرائيل" تلقى دعماً أمريكياً مباشراً على هذا الصعيد تحت زعم "حقها في الدفاع عن النفس". أما الهدف الثالث ونعني به الغاز التي تمتلكه غزة، فقد تكون الأضواء غير مسلّطة عليه بما فيه الكفاية إعلامياً، ذلك أن الغاز والطاقة في شرق المتوسط هما أحد أسباب شن "إسرائيل" لحروبها المتكررة، وأحد أهداف الحرب الاقتصادية. وسبق للجنرال موشي يعالون، وزير الدفاع الإسرائيلي (الحالي) الذي كان حينها رئيساً للأركان أن قال: إن أي اتفاق مع السلطة الفلسطينية حول حقول الغاز (قبالة سواحل غزة)، ستستفيد منه حماس، ولهذا فإنها ستعمد إلى "تدمير منشآت الغاز" أو "مهاجمة إسرائيل" أو "السلطة الفلسطينية" أو أن تفعل كل هذه القضايا معاً. والاستنتاج المنطقي لمثل هذه الاستراتيجية، هو شن عملية عسكرية شاملة لتقويض سيطرة حماس على غزة، حيث لا يمكن "لإسرائيل" القيام بعمليات تنقيب إلا بموافقة حماس، وهذه الأخيرة لن تسمح بذلك طالما ظلّت مسيطرة على القطاع، ولهذا لا بدّ من تدمير بنيتها التحتية وتفكيكها، أي أن الهدف الإسرائيلي هو توليد مناخ سياسي يؤدي إلى صفقة غاز حول الحقول الفلسطينية. لقد أصبح الغاز والنفط أمراً ملحّاً "لإسرائيل"، حيث تبيّن أن كميات الغاز في حقلي ليفياتان وتامار لن يكونا كافيين "لإسرائيل"، لا من حيث الاستهلاك المحلي أو التصدير الخارجي، وفي أحسن الأحوال فإن كمية الطاقة المكتشفة لن تلبي سوى 50% من احتياجات "إسرائيل" التصديرية، حسب عدد من العلماء "الإسرائيليين" في رسالة تم توجيهها عشية عملية "الجرف الصامد" إلى القيادة "الإسرائيلية"، وفي كل الأحوال فإن هذه الطاقة ستنضب قبل العام 2040، وأن "إسرائيل" ستتعرض إلى أزمة طاقة حادة خلال الأعوام القليلة القادمة. جدير بالذكر أن حقول الغاز الفلسطينية هي واحدة، قسم منها في "إسرائيل" وامتداداتها قبالة شواطئ غزة، علماً بأن ثروات الغاز تبلغ 122 تريليون قدم مكعب و1.6 مليون برميل نفط (في حوض شرق المتوسط)، وغالبيتها موجودة في المياه الإقليمية التي تمثل بؤرة احتكاك مستمرة، وخصوصاً بين سوريا ولبنان وغزة (فلسطين) وقبرص من جهة و"إسرائيل" من جهة أخرى. لقد سعت "إسرائيل" بعد عملية الرصاص المصبوب وقبيل عملية عمود السحاب (أي في شباط/ فبراير/2011) للاعلان بأن الوقت قد حان لإبرام اتفاق للغاز مع غزة، وبصورة لا تخلو من خبث لمّحت إلى ضرورة إزالة العقبة التي تقف إزاء مثل هذا الاتفاق، وهو ما أكدته صحيفة الغارديان البريطانية التي أشارت إلى أهداف الحروب الإسرائيلية على غزة. إن العلاقة المباشرة بين الغاز والحرب على غزة تكمن في محاولة السيطرة على الاحتياطات البحرية من الغاز الطبيعي وتملّكها، واكتشاف احتياطات هامة من الغاز الطبيعي قبالة شواطئ غزة في أواخر التسعينات من القرن الماضي. وقد حصلت مجموعة الغاز البريطانية على حق استكشاف الغاز لمدة 25 عاماً بالاتفاق مع السلطة الفلسطينية في نوفمبر (تشرين الثاني) 1999، وقد سعى رئيس الوزراء "الإسرائيلي" آرييل شارون إلى تحدي " السيادة" الفلسطينية على حقوق الغاز، زاعماً أن الحقول جميعها من حق "إسرائيل"، وعارض أية اتفاقات فلسطينية مع شركات دولية، لكن "إسرائيل" وافقت في عهد رئيس الوزراء إيهود أولمرت على شراء الغاز من السلطة الفلسطينية. وعادت "إسرائيل" ونكثت باتفاقها، لا سيّما بممانعة وزارة الدفاع "الإسرائيلية" وجهات سياسية أخرى، من دفع مبالغ نقدية للفلسطينيين، واقترحت تسديدها على شكل سلع وخدمات، والهدف هو إبطال عقد العام 1999 بين بريتش غاز والسلطة الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات في حينها، وبرّرت "إسرائيل" دواعي رفضها بالاعتبارات الأمنية والعسكرية. ولذلك فإن جميع الحروب "الإسرائيلية" ضد غزة إنما استهدفت تحويل السيادة على حقول الغاز إلى "إسرائيل"، حتى وإن كان الأمر إعادة هيكلة للمجال الحيوي، سواء بقوات "إسرائيلية" أو "قوات حفظ السلام" والعمل على "عسكرة" كامل شواطئ غزة تمهيداً للسعي لإعلان سيادة "إسرائيل" على حقول الغاز خلافاً للقانون الدولي.
باحث ومفكر عربي