يهز دوي نيران المدفعية الأرض ويرابط مقاتلو الميليشيات من مدينة الزنتان الجبلية النائية في صالة الركاب للدفاع عن مطار طرابلس أكبر جائزة في العاصمة الليبية.
وعلى بعد بضعة كيلومترات من المدينة يحشد قائد كتيبة من مدينة مصراته الساحلية رجاله لاستعادة المطار.
وقبل ثلاث سنوات انطلقت كتائب الزنتان ومصراته صوب طرابلس من الشرق والغرب لاقتحام قصور معمر القذافي، والآن يخوض المقاتلون من المدينتين حربا مفتوحة في العاصمة. وقال أحد مقاتلي وحدة متحالفة مع كتيبة الزنتان ويدعى محمد وهو يقف على أنقاض صالة المطار والدخان الأسود يتصاعد من انفجار قريب: "هذه الحرب هي أصعب من ثورتنا ضد القذافي... المشكلة أنهم يصرون على أخذ المطار وإذا أخذوا المطار أخذوا طرابلس".
وفي قاعدته بطرابلس، حيث اصطفت الدبابات والشاحنات المزودة بالمدافع قال حسن شاكه معاون آمر درع الوسطى بمصراته: إن قواته "تستكمل ثورتنا".
وأضاف: "أنا لا أحارب الزنتان... أنا أحارب بقايا جيش القذافي، لن يكون هناك وقف لإطلاق النار إلى أن نخرجهم من طرابلس".
الخروج من الخدمة
وأدى القصف المستمر منذ أسبوعين إلى خروج مطار طرابلس الدولي من الخدمة، وتضرر مركز التحكم واحرقت ودمرت أيضا حوالي 20 طائرة متوقفة على مدرج المطار، بينما كانت هناك فجوة كبيرة في سطح صالة الركاب.
وسمع دوي صواريخ جراد في سماء المدينة، وأغلق المقاتلون أجزاء من جنوب طرابلس بمحاصرتها أو بالحواجز الترابية، وحملت المباني السكنية على طريق المطار علامات الطلقات النارية والانفجارات، واقام مقاتلو الزنتان نقاط تفتيش على الطريق السريع، حيث لا تزال آثار القصف الذي وقع في الآونة الأخيرة.
وقال مسؤول بالحكومة الليبية: "لا تزال إمكانية احتواء الموقف، هناك مساحة للتفاوض لكن الموقف دقيق للغاية... نحاول التفاوض لتهدئة الأوضاع، وإذا تطور الوضع فلا يمكنك وقفه وسيتحول إلى إعصار".
قتال في بنغازي
والقتال الدائر للسيطرة على مطار طرابلس ليس الوحيد في ليبيا، فقبل أيام في مدينة بنغازي ثاني أكبر المدن الليبية شن أتباع لواء منشق على القذافي حرب شوارع ضد تحالف لميليشيات تضم مقاتلين إسلاميين تلقي واشنطن عليهم باللائمة في مقتل السفير الأمريكي قبل عامين. واجتاح تحالف ميليشيات بنغازي قاعدة للقوات الخاصة وأجبر القوات غير النظامية والجيش على التراجع.
وقد ترك انهيار حكم القذافي الذي استمر أربعة عقود ليبيا مسلحة للجميع، إذ تمتلك المدن والمناطق والأفراد والأحياء الحضرية والقبائل قواتها المسلحة الخاصة. وتحارب المدن بعضها البعض ويعارض الإسلاميون القوميين وينتفض الفدراليون على الحكومة المركزية وتشتبك وحدات تعود لعهد القذافي مع الثوار السابقين ويتسلح الجميع بالبنادق والمدفعية والدبابات والصواريخ من الترسانة الكبيرة التي كان يخفيها القذافي في شتى أنحاء البلاد.
إجلاء
وقامت الدول الغربية التي ساعدت على الاطاحة بالقذافي في حملة لحلف شمال الأطلسي عام 2011 بإغلاق سفاراتها وإجلاء دبلوماسييها فيما تتجه الدولة المنتجة للنفط صوب التحول إلى دولة فاشلة.
وفي ظل إغلاق المطار الرئيسي غادر الأمريكيون عن طريق البر برفقة مشاة البحرية فيما غادر الفرنسيون عن طريق البحر.
وعلى مدى السنوات الثلاث الماضية فشلت الحكومة المركزية إلى حد كبير في بناء جيش وطني، وبدلا من ذلك اشترت ولاء جماعات مسلحة عن طريق دفع رواتب للمقاتلين أو لوحدات كاملة من الميليشيات، وعلى الرغم من أخذ الأموال من الحكومة حافظ معظم المقاتلين على الولاء لقادتهم أو مناطقهم أو مدنهم.
ويضغط مبعوث الأمم المتحدة الخاص والمبعوثان الأمريكي والأوروبي من أجل وقف إطلاق النار وتسوية سياسية بشأن البرلمان الجديد الذي من المقرر أن يبدأ عمله هذا الشهر، لكن المفاوضات صعبة.
وتزعم كل كتيبة أنها القوة المسلحة الشرعية بحصولها على تصريح من الفصائل المتناحرة داخل الوزارات أو البرلمان السابق، وتدعي كل كتيبة أن رجالها هم المحررون الثوريون للعاصمة وترفض التخلي عن أسلحتها الثقيلة التي تعود لعهد القذافي.
ومنذ حرب 2011 نشبت خلافات بين الفصائل الليبية إلا أن ضبط النفس كان يأتي من خلال التوازن الهش للسلطة، الذي يقول مسؤولون ودبلوماسيون ليبيون: إنه كان يأتي نظرا لمعرفة أنه لا يمكن لطرف التغلب على الآخر.
أما الآن فإن التنافس الرئيسي في العاصمة هو بين الزنتان ومصراته بعد أن لعبتا دورا كبيرا في حرب 2011 التي أطاحت بالقذافي واستغلتا انتصارهما كقوة سياسية نافذة في العاصمة.
مدينتان
والزنتان حامية عربية وعرة يقطنها حوالي 50 ألف نسمة تطل على قرى أمازيغية فقيرة في المرتفعات القاحلة بالجبال الغربية، وقادت حملة على قوات القذافي وشقت طريقها إلى جبهة القتال للوصول إلى الساحل والسير إلى طرابلس في تقدم سريع، وتمكنت ميليشيات الزنتان لاحقا من إلقاء القبض على سيف الإسلام نجل القذافي الذي لا يزال محتجزا في سجنها.
وكانت مصراته التي يقطنها حوالي 300 ألف نسمة أكبر مدينة في الغرب تصمد في مواجهة قوات القذافي وتحافظ على آمال الثورة تحت القصف المكثف خلال حصار استمر شهورا قبل أن يشق مقاتلوها طريقهم إلى العاصمة.
وعندما سقطت طرابلس سارعت كل من كتائب مصراته والزنتان للمطالبة بنصيبها في العاصمة، وسيطرت الزنتان على المطار المدني وسيطرت مصراته وحلفاؤها على قاعدة جوية عسكرية، ومنذ ذلك الحين وقعت اشتباكات بين الجانبين.
وعلى الرغم من أصولهما المحلية تتحالف كل ميليشيا بالمدينة مع فصائل سياسية لها طموحات وطنية. ودعمت الزنتان مع جماعات متحالفة تسمى كتائب القعقاع والصواعق التي تضم بعض القوات الخاصة السابقة للقذافي تحالف القوى الوطنية بزعامة محمود جبريل الذي تولى منصب رئيس الوزراء المؤقت بعد الحرب.
وكثيرا ما شكا سكان الزنتان من إهمال القذافي لمدينتهم، ويقولون: إنها لم تأخذ نصيبها من الثروة النفطية للبلاد، ويقول خصومهم، إنهم حققوا ثراء من خلال استغلالهم للسيطرة على المطار.
ويعارض بشدة كثيرون من أعضاء كتائب القعقاع ما يعتبرونه تناميا لنفوذ الإسلاميين في ليبيا.
وعلى الجانب الآخر، فإن كتائب مصراته التي تضم وحدات "درع ليبيا" التي شكلها البرلمان والمتحالفة مع الميليشيات الإسلامية الموالية لحزب العدالة والبناء الذي ينظر إليه على أنه قريب من جماعة الإخوان المسلمين. وباتت معاناة مصراته تحت حصار قوات القذافي صيحة استنفار للمقاتلين الذين يتهمون مقاتلي الزنتان بالتعاون مع رموز سابقة لنظام القذافي.
وقال دبلوماسي غربي: "الثورة لم تنته، فهي تصورات حول مستقبل البلاد... يعتقد كل طرف أنه قادر على الفوز لكن هل سيستمرون حتى الحافة؟، الأمل أن يدركوا أنه لا يمكن لطرف تحقيق النصر".
البرلمان المعطل
ويلقي معارضو الإسلاميين باللوم عليهم في بدء أعمال العنف الأخيرة لتعطيل عمل البرلمان الجديد الذي انتخب في يونيو، بموجب نظام جعل المرشحين يخوضون الانتخابات بدون انتماءات حزبية، الأمر الذي كلف الإسلاميين خسارة بعض نفوذهم.
وقال زياد دغيم وهو فدرالي وعضو البرلمان الجديد: "ما يحدث هو انقلاب على نتائج الانتخابات التي اعطت السلطة لاعداء الإسلاميين".
والآن يلقي كل طرف باللوم على الآخر، وتقول كتائب الزنتان: إنها تدافع فقط عن المطار من الهجوم ودعت إلى وقف إطلاق النار لوقف "إراقة الدماء الليبية".
وقال أحمد هدية المتحدث باسم درع الوسطى بمصراته: إن جماعته انضمت إلى المعركة فقط بعد اتهام كتائب القعقاع والصواعق بمحاولة القيام بانقلاب، وإن الحكومة لا تملك القوة الكافية للرد.
ومعركة المطار هي المرة الأولى التي تحاول فيها الفصائل المسلحة في ليبيا أن تقرر مستقبل ليبيا. واقتحمت الجماعات المسلحة البرلمان السابق والوزارات بشكل متكرر لتقديم مطالب.
وتلقي الحكومة باللوم على ميليشيا إسلامية في خطف رئيس الوزراء من غرفته بفندق في طرابلس العام الماضي. وحاصرت ميليشا أخرى الموانئ النفطية في ليبيا لمدة عام للمطالبة بمزيد من الحكم الذاتي في الشرق، وتوقفت الصادرات التي تشكل شريان الحياة للحكومة.
لكن الاستاذ الجامعي ديرك فانديفال الخبير في شؤون ليبيا بكلية دارتموث في الولايات المتحدة، قال: إن الميليشيات تجاوزت الآن الحدود من خلال الهجوم العلني على مؤسسات مثل مطار طرابلس.
وقال: "ما تقوله الميليشيات هو أننا على استعداد للقيام بكل ما يلزم لحل هذا... هذا أعمق من ذلك بكثير، يدور الأمر حول غنائم الدولة ومن سيفوز بها، معركة أكبر بكثير آخذة في التكشف".