"قنابل القاعدة تركت بصماتها بدقة غريبة على بعض معالم حياتى".. ربما هي العبارة الأوضح التي تبدو جلية في شخصية باراك أوباما التي تحمل من الحيرة ما يصعب الاستدلال عليه في المسافة الفارقة بين قوله وفعله، وابتسامته التي بقدر ما تعلنه من طيبة تخفي وراءها ميراثا دفينا لسياسة الولايات المتحدة التي يستعصى الفرار من وعورة أطماعها بحلم شفاف..
الباحث اللبناني الدكتور فواز جرجس مدير مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة لندن، حاول في كتابه "أوباما والشرق الأوسط.. نهاية العصر الأمريكي" أن يكشف هذه المسافة بين سماء باراك أوباما الحالمة وأرض دولته التي يستحيل العبور بين سياجها الضيقة، من خلال تقييم موضوعي لسياسته تجاه الشرق الأوسط في مرحلة تحولات جذرية شهدت انتفاضات شعبية كسرت قيود الخوف التي كبلت الشارع العربي، فسعى إلى إسقاط الأنظمة الاستبدادية التي حمت المصالح الأمريكية في المنطقة لعقود.
ومع إرهاصات النجاح لهذه الانتفاضات وتعاظم مشاعر الكراهية للسياسة الأمريكية، وجدت الولايات المتحدة نفسها عاجزة عن توفير الدعم لهؤلاء الحكام، فخوضها لأكثر من حرب فاشلة في الشرق الأوسط استنزفها عسكريا، فضلا عن اقتصادها المأزوم أصلا بفعل بنيته الداخلية، كان ذلك كفيلا بإنجاب إدارة جديدة تحاول تدارك هذه الإخفاقات وتقوم يتغيير الصورة الذهنية السلبية للديموقراطية التي صدرها بوش للعالم والشرق الأوسط على وجه الخصوص.
في ستة فصول قدم الدكتور فواز جرجس حيثيات عدم التغير النوعي في سياسة أوباما عن سابقه بوش الابن في التعامل مع دول منطقة الشرق الأوسط، وحاول جاهدا مراعاة الإنصاف بوضع مجمل الملفات التي استشهد بها في سياقها الزمني حاد الاختلاف بين الرجلين، وتلاحق الأحداث التي غيرت ميزان القوى في العالم، ووجهت ضربة قاصمة لعصر الأحادية القطبية.
من الاستبداد إلى الإرهاب
الكتاب الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في مجمله يتمحور حول نتيجة إقراره بنهاية العصر الأمريكي في الشرق الأوسط، مستندا إلى التغير في السياسة الخارجية الأمريكية عقب أحداث 11 سبتمبر، والتي بدلا من استخدامها كحافز يقرب أمريكا من شعوب المنطقة، وقعت إدارة جورج بوش ومعها المحافظون الجدد في خطأ الحسابات، واختاروا أن يجربوا التوسع الإمبريالي، وفي ذهنهم تصدير النسخة الأمريكية من الديموقراطية ورأسمالية الأسواق الحرة.
في هذا السياق يؤكد الدكتور فواز أن الخطأ الأكبر لبوش تصوره أن المصالح والقيم الأمريكية شيئا واحدا، وفي تعامله مع بلدان المنطقة لم يعط الفرصة للقوى المحلية بها تنظيم واختيار البديل للحكام الديكتاتوريين، وأصر بوش ووكلاؤه تصدير ديموقراطية جيفرسون إلى العراق، مع الاعتقاد أنه سيكون المنصة التي تنطلق منها التغييرات الديموقراطية في المنطقة ككل، إلا أن ما فعلوه في الواقع هو تشجعيهم تطوير نموذج طائفي وفق خطوط إيرانية واضحة.
ومن أفغانستان إلى العراق والخسائر المادية والبشرية المأساوية للغزو الأمريكي، والإصرار على اتباع منطق القوة، سهلت هذه الأجواء كما يقول الباحث "إحياء طموحات القوى الإقليمية والدولية الأخرى، ومثلت رئاسة بوش، على نحو غير واع ومن دون أن تدري، الدور الأساس في تسهيل نشوء عالم متعدد القوى بوضوح، ولاحقا أصبح فرض الديموقراطية من أعلى إلى أسفل في العراق مثارا للسخرية".
ويضيف جرجس ان حروب بوش أفسدت التوازن الهش في القوة في الشرق الأوسط الكبير، الذي كان قائما بين أنظمة حكم استبدادية، مثل العراق وإيران، ومزق الثقة التي كان يوليها بالولايات المتحدة لاعبون إقليميون محوريون، وبخاصة تركيا وباكستان ومصر. ومنذ ذلك الحين بادر حلفاء أمريكا الإقليميون، كما أعداؤها، إلى اعتماد سياسات مستقلة، تتحدى بعضها أحيانا توجهات السياسة الأمريكية في المنطقة، وهو ما دشن أفولا للنفوذ الأمريكي، وأدى إلى زيادة قوة اللاعبين الإقليميين، تركيا وإيران تحديدا.
على جانب آخر اصطدمت إدارة بوش بصعود قوى معادية، رددت الدعوات للجمهور العربي المسلم بأن التجربة الأمريكية في أفغانستان والعراق ما هي إلا توسعا غربيا يعلن "حرب ضد الإسلام"، ويشير الكاتب إلى صدى الغضب التي باتت تحدثه رسائل أسامة بن لادن في نفس كل شاب بالعالم الإسلامي، بأن الغرب بدأ حملة صليبية تستهدف دينه وهويته، وضرورة قيام جهاد عالمي عابر للحدود، فانتقلت مشاعر الكراهية لأمريكا كالنار في الهشيم، ليس في أوساط المسلمين الناشطين فحسب، بل أيضا بين المسلمين العاديين.
هذه المشاعر المعادية لأمريكا وصلت إلى ذروتها مع نهاية فترة بوش، فقد أظهر استطلاع أُجري عام 2007 أن 79% من المشاركين المصريين والمغاربة والباكستانيين والإندونيسيين يرون أن الولايات المتحدة سعت لإضعاف وتقسيم العالم الإسلامي. ونفس النسبة رأت أن الولايات المتحدة ترغب في السيطرة على موارد الشرق الأوسط النفطية، فيما رأى 64% من المشاركين أنها ترغب في نشر المسيحية في الأراضي الإسلامية. وذهب ثلاثة أرباع المستفتين إلى ضرورة إخراج القواعد العسكرية الأمريكية من المنطقة.
وهم التغيير
كان من الطبيعي أن يحمل فوز أوباما شيئا من الأمل بعد وعده بالتغيير داخل الولايات المتحدة وخارجها، رغم الميراث المر في الشرق الأوسط وما تبعها من هبوط اقتصادي وانقسام سياسي داخليا، لكنه تبنى سياسة جديدة أعلنها في زيارته لتركيا (أول بلد إسلامي توجه له) في أبريل 2009، حيث قال: "إننا ننشد التزاما أوسع مبنيا على المصالحة المتبادلة والاحترام المتبادل، سوف نصغي بانتباه وسوف نجسر فجوات سوء الفهم ونبحث عن أرضية مشتركة حتى حين لا نكون متفقين".
أكد أوباما على سياسته الجديدة في الشرق الأوسط أثناء خطابه في القاهرة (يونيو 2009) حين أعلن بوضوح "ما من نظام حكم يمكن أو يجب أن يفرض على بلد ما من أي بلد آخر".
وهنا يحلل الدكتور فواز جرجس بهذا الخطاب أن أوباما يقترب أكثر من الحفاظ على الأمر الواقع القائم من خلال دعم الحكام العرب الموالين للولايات المتحدة والتغاضي عن الالتزامات الأخلاقية، مثل الترويج لحكم القانون وحقوق الإنسان، فعندما سئل قبل زيارته لمصر عما إذا كان يعتبر مبارك ديكتاتورا، أجاب: "كلا، أنا غير مبال إلى استخدام ملصقات ترضي الجمهور. لقد كان حليفا شجاعا للولايات المتحدة من جوانب عدة، وحافظ على السلام مع اسرائيل، وهو أمر غاية في الصعوبة في تلك المنطقة".
لكنه حين اندلعت الانتفاضات العربية في 2011 بتونس ومصر وبلدان أخرى، كشف عن ضعف وعجز إدارته لصياغة مستقبل لها في المنطقة، بعد انهيار حلفائه من أمثال بن علي ومبارك، وبدا أوباما ومؤسسة سياسته الخارجية- كما يصف الدكتور فواز- عالقان في عنق الزجاجة، فحربا أمريكا في العراق وأفغانستان وهجماتها بطائرات بلا طيار في باكستان ضد ما ادعته "حرب ضد الإرهاب"، وضعها في موقف غاية في التعقيد، خاصة بعد صعود الإسلاميين للحكم إلى السلطة في تونس ومصر والمغرب.
ورغم رؤية المسؤولين الأمريكيين وشركائهم الأوروبيين أن الحركات الإسلامية تعتبر اسرائيل عدوا شرسا لها، ما يهدد مصالحهم بالمنطقة، إلا أنهم خافوا من تكرار السيناريو الإيراني في الثمانينات، فاقتنع أوباما وحلفاؤه الأوروبيون أن الأصوليين المتدينين هم البديل الوحيد للاستبداديين الموالين للغرب.
ويفسر الدكتور جرجس وجهة النظر الأمريكية في هذا الصدد أن التطورات السياسية داخل المجتمعات العربية أكدت لهم أن حركات الإسلام السياسي هي القوة الضاربة التي سوف تحدد استراتيجيات هذه المنطقة لعقدين أو أكثر، وهو ما يوضح تطور العلاقة بين إدارة أوباما وجماعة الإخوان المسلمين في مصر. ورغم السقوط المدوي للإخوان بعد انتفاضة 30 يونيو 2013، يرى الكاتب أن الإدارة الأمريكية لا تزال مترددة في حسم مواقفها من القوى السياسية والاجتماعية المتصارعة في الوطن العربي، وهذ يدل على حالة التخبط والتذبذب التي تعانيها السياسات الأمريكية في المنطقة العربية.
ملفات شائكة
كيف تعامل أوباما على مدى سنوات رئاسته الست مع الملفات الكبرى التي تحدد طبيعة سياسة الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط؟
بالإجابة على هذا التساؤل يصل الدكتور فواز جرجس إلى النتيجة التي رمى إليها كتابه بنهاية العصر الأمريكي في المنطقة، مدللا أولا بتعاطي أوباما مع عملية السلام الفلسطينية الاسرائيلية، وكيف لم يختلف في تعامله عن سابقيه من الرؤساء الأمريكيين، بل يرى فواز أنها تشكل فشلا ذريعا لسياسته، الذي طالما كرر أن السلام في المنطقة أمر مركزي في مصالح أمريكا الاستراتيجية.
وإحقاقا للحق يعترف الباحث أن أوباما حاول جاهدا تقليص الهوة بين الفلسطينين والاسرائيليين، لكنه اصطدم بواقع صعب فرضته الأوضاع الداخلية أكثر مما واجهه خارجيا، جراء النفوذ الاسرائيلي على القرار الاقتصادي الأمريكي، واستعرض الباحث تدرج مواقف أوباما التي بدأت بخطاب يتبنى الحقوق العادلة للشعبين، واتباع المواثيق الدولية واحترام حقوق الإنسان، وسعى لقيام مفاوضات تسوية تفضي للاعتراف بالدولة الفلسطينية ووقف المستوطنات وبدء الحديث عن القدس ومن بعده ملف اللاجئين، لكن التعنت الاسرائيلي أفرغ هذه المفاوضات من أي جدوى، وبدا اللاعب الأمريكي على دكة المشاهدين يتابع مباراة من جانب واحد.
ويتقلص دور الرئاسة الأمريكية أكثر- كما يستعرض جرجس- بعد صعود اليمين المتشدد لسدة السلطة في اسرائيل، وتولي بنيامين نتينياهو رئاسة الوزراء، ليخوض مع أوباما مباراة خاصة يصعد فيها كل منهما تجاه الآخر، وصلت حدتها عندما تجاهل نتينياهو الرغبة الأمريكية في الوقف المؤقت لبناء المستوطنات لاستكمال المفاوضات، وراح يعلن بين الحين والآخر عن مشروعات استيطانية جديدة، فلم يجد الفلسطينيون سبيلا سوى الانسحاب، وأصدر كبير المفاوضين صائب عريقات تصريحا يعكس خيبة الأمل، قائلا: "إذا كانت أمريكا لا تستطيع دفع اسرائيل إلى تجميد بناء المستوطنات، فماذا تبقى من فرصة للفلسطينيين للوصول إلى اتفاق مع اسرائيل على قضايا أكثر تعقيدا تتضمنها مفاوضات السلام النهائي؟".
وتصل خيبة الأمل الفلسطينية إلى أبعد من ذلك حين وقف أوباما أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2011 ليعلن معارضته للطلب الفلسطيني الاعتراف بدولة فلسطين عضوا بالامم المتحدة، بدعوى تأجيل ذلك لحين انتهاء مفاوضات التسوية!!
وفي الملف الإيراني تتجلى ذات السياسة المتراجعة بدرجة أعلى من التناقض، فأول رسالة وجهها أوباما للقيادة الإيرانية تصريحه: "إذا أرادت إيران بسط كفها تجاهنا، ستجد منا يدا ممدودة".. ومع تكراره للدعوة متمسكا بسياسة "الخطاب الهادئ"، لم يتلق ردا من الجانب الإيراني، الذي وجد تناقضا صارخا بين لغة أوباما المعسولة، وفعله المر باستمرار العقوبات الاقتصادية والمحاولات المستميتة لتخريب البرنامج النووي الإيراني.
ويحلل الكاتب استمرار تجميد الوضع بين الجانبين، نتيجة الضغط الاسرائيلي على الإدارة الأمريكية، ودفعها لاستعمال القبضة الحديدية مع طهران لما تمثله من خطرا مميتا على الدولة العبرية والعالم الغربي كله.
وتقاطعت هنا المصلحة الاسرائيلية مع البلدان العربية السنية، وخاصة السعودية في تحجيم النفوذ الشيعي، وتجلى الانصياع الأمريكي لهذه الرغبة في البحرين، إلا أن السياسة الأمريكية لم تستطع إخفاء ملامحها البراجماتية وتناقضها الصارخ، في الميدان العراقي الذي خرج منه أوباما برجال جيشه، ليتركه مفتوحا أمام التدخل الإيراني، بل أسهم في دعم حكومة نوري المالكي الموالية لطهران.
ولا يختلف الأمر كثيرا في التعامل مع تركيا التي بدت علاقتها مع الولايات المتحدة مرتبكة ومتوترة خاصة بعد صعود حزب العدالة والتنمية للسلطة، وظلت التجاذبات بينها مرتبطة بالتوجه نحو اسرائيل المدعومة أمريكيا على الإطلاق، بينما يشهد تذبذبا في الأرجوحة التركية بين المصالح الاقتصادية التي على أولوياتها انضمام أنقرة للاتحاد الأوروبي، واتخاذ بعض المواقف التي يحاول فيها الحزب الحفاظ على علاقات مرضية مع شركائهم من الاسلاميين في المنطقة.
ووصلت حدة الخلاف الأمريكي التركي في التعاطي مع الحرب السورية التي رفضت الولايات المتحدة الدخول في حرب جديدة، متجاهلة كل المبررات التي ساقها رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان وحكومته وحلفاؤه من تيار الإسلام السياسي للإطاحة بالأسد، وهو ما أغضب القيادة التركية كما يوضح الباحث، واعتبرت أوباما غير مهتم بتداعيات الأزمة السورية على الأمن الإقليمي وأمن تركيا على وجه الخصوص.
ولا يفوت الكاتب الولوج إلى التنافس الأمريكي الروسي في سوريا، وما أحيا من منازلات سابقة في حقبة الحرب الباردة، وفي ذلك محاولة روسية صينية لاختبار التحديات الخطيرة التي تواجه الهيمنة الأمريكية على النظام العالمي، وتوسعات نفوذ كل منهم على بلدان منطقة الشرق الأوسط.
في الخاتمة يخلص الدكتور فواز جرجس إلى التأكيد على مضمون كتابه الذي رأى فيه أن سياسة الرئيس باراك أوباما لم تقدم جديدا في استراتيجية التعامل مع منطقة الشرق الأوسط، لكنه في ذات الوقت أشار إلى أن التراجع في النفوذ الأمريكي طال قوتها العسكرية بالأساس، بصورة أقل من حضورها في مجالات أخرى، وتظل الولايات المتحدة قوة لا يستهان بها اقتصاديا وسياسيا في النظام العالمي.
ويضيف: "مع صعود قوى إقليمية وعالمية جيوستراتيجية وجيواقتصادية جديدة تسعى لإثبات استقلالها عن النفوذ الأمريكي، ورغم أن لحظة أمريكا المتفردة قد دفن في الرمال العراقية المتحركة، فمن الصعب القول كم سيحتاج النظام الدولي الجديد الوليد، المكون من مراكز مختلفة، من الوقت ليصبح حقيقة تم التسليم بها؟".